في نهاية سبتمبر 1956، وبعد عدة اتصالات وُجّهت الدعوة لجبهة التحرير الوطني للمشاركة في الندوة المغاربية المقرّر عقدها في تونس يوم 22 أكتوبر 1956 للتنسيق حول النضال المشترك ضد الاستعمار الفرنسي وتأكيد البعد المغاربي للثورة الجزائرية والسعي مع مختلف الأطراف لتحقيق هذه الوحدة، وإبداء التضامن الحقيقي، وتخليص أقطار المغرب العربي من الهيمنة الاستعمارية.
توضيح رؤية جبهة التحرير الوطني للرأي العام الدولي ولفرنسا بوحدة قضايا الشمال الإفريقي، وارتباط استقرار المنطقة بإيجاد حل للمشكلة الجزائرية.
كما كان الهدف من الندوة تثمين المساعي التي باشرها الوفد الخارجي للثورة من أجل تحسين وضعية الثورة في أية مفاوضات محتملة، خاصة فيما يتعلّق باعتراف الأطراف المغاربية بتمثيل الجبهة لكفاح الشعب الجزائري.
تشكّل الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني من: محمد خيضر، حسين آيت أحمد، أحمد بن بلة، محمد بوضياف، وقد رافقهم في هذه المهمة المناضل مصطفى الأشرف.
كان من المتوقع أن تُجرى المحادثات مع الرئيس «الحبيب بورقيبة» والسلطان المغربي «محمد الخامس»، لبحث القضية الجزائرية وتقييم آفاق السلام في الجزائر، وهذا على ضوء اللقاءات التي قام بها مندوبو جبهة التحرير الوطني مع الحكومة الفرنسية، في جويلية وسبتمبر 1956 في كل من بلغراد وروما. كما كان من المتوقع التطرق إلى قضية «اتحاد شمالي إفريقيا المحرّر كليا»، مع تحديد طبيعة علاقات هذه الدول مع فرنسا.
التخطيط لعملية الاختطاف:
بعدما علمت السلطات الاستعمارية بعزم جبهة التحرير الوطني على إرسال وفد يمثلها قصد المشاركة في «مؤتمر السلام» بتونس، بدأ التخطيط لعملية اختطاف قادة الثورة. أبدت فرنسا رغبتها في عقد اجتماع بين السلطان المغربي «محمد الخامس» والرئيس التونسي «الحبيب بورقيبة»، وممثلي جبهة التحرير الوطني، على أن تنظر في مطالب الجزائريين بعد هذا اللقاء.
لكن تبيّن فيما بعد أن الموافقة الفرنسية على الوساطة المغربية التونسية، لم تكن سوى عملية مُدبّرة تدبيرا محكما، الهدف منها استدراج القادة نحو المغرب للمفاوضات لتسهل عملية إلقاء القبض عليهم.
وتسهيلا للمهمة، تجدر الإشارة إلى أن المفاوضين الفرنسيين قبلوا تقديم تسهيلات لتنقّل مندوبي جبهة التحرير الوطني، كما أظهرت مستجدات القضية وتطورها بأن نجاح عملية القرصنة تقنيا راجع للتنسيق المحكم، والتام بين مختلف الجهات الرسمية الفرنسية من أجهزة المخابرات الفرنسية في العاصمة المغربية، وقيادة الجيش الفرنسي ووزارة الدفاع التي كانت تتابع تحركات الوفد الجزائري المشارك في الندوة.
قبل التوجّه إلى تونس لحضور «ملتقى السلام»، جرت مراسيم استقبال قادة الثورة في الناظور بصفتهم مدعوين رسميين للسلطان، من قبل ولي العهد مولاي الحسن (الحسن الثاني)، ثم خصّهم محمد الخامس باستقبال حار وبشكل احتفالي بالرباط يومي 20 و21 أكتوبر 1956. أثار هذا الاستقبال الخاص بالمغرب غضب الحكومة الفرنسية التي وجّهت رسالة احتجاج وأقدمت على تعليق مساعدتها للمغرب مؤقتا.
وتجدر الإشارة الى أنه في 22 أكتوبر 1956، كان من المقرّر أن يستقل مندوبو جبهة التحرير الوطني نفس الطائرة مع السلطان المغربي وحاشيته، لكنهم ركبوا طائرة أخرى. وبعد هذا التغيير الحاصل، وجد الجنرال فرندون رئيس المنطقة الجوية الخامسة التي تغطي الجزائر مناسبة لتنفيذ مؤامرة الاختطاف، فاتصل هذا الأخير باللواء لوريو القائد الأعلى في الجزائر، الذي استشار بدوره ماكس لوجون أمين سر دولة في القوات المسلّحة وهو الذي أعطى الأوامر بدون تردّد باعتراض الطائرة.
مجريات عملية القرصنة الجوية
في حدود الساعة منتصف النهار من يوم 22 أكتوبر 1956 أقلعت الطائرة DC3 المستهدفة، التابعة لشركة الطيران المغربي من مطار «الرباط سالا» وكان على متنها إضافة إلى قادة الثورة، 10 صحافيين من بينهم طوم برادي من «نيويورك تايمز» وإيف دو شامب من «نوفيل أبسرفاتور». وكان الخط المحدّد لطيران الطائرة هو الرباط ـ بالما - دي مايوركا، وهو خط بعيد عن المجال الجوي الخاضع لرقابة السلطات الفرنسية، ولا يمر من منطقة الاستعلامات المراقبة بأجهزة رادار الجزائر.
وكان من المقرّر أن تتحوّل الطائرة من قطاعات الإصغاء في المملكة المغربية، للدخول في قطاع اشبيليا قبل النزول في بالما دي ما يوركا، غير أن مراكز مدينتي الجزائر ووهران أصغت إلى تردّد قطاع اشبيليا، حينها طُلب من قائد الطائرة الانحراف عن خط سيره والنزول في وهران، لكن هذا الأخير رفض الامتثال للأوامر لأن مُخطط طيرانه يحتّم عليه الهبوط في بالما.
ولما بُلّغ قائد الطائرة شركة الطيران المغربية، بما حدث له مع السلطات الفرنسية أُعطيت التعليمات من الرباط إلى ملاحي الطائرة بعدم مغادرة بالما إلى إشعار آخر.
لكن تعذّر عليهم تلقي الرسائل عن طريق المطار الذي يستخدم في اتصالاته خط (الرباط- مدينة الجزائر - باريس - مدريد - بالما)، لأن السلطات الفرنسية احتجزت الرسائل لإنجاح عملية القرصنة الجوية، وعند مغادرة بالما باتجاه تونس، طلبت السلطات العسكرية الفرنسية من قائد الطائرة المغربية تغيير وجهته باتجاه الجزائر، وفي محاولة لها للعودة إلى المملكة المغربية طبقا لتعليمات السلطات المغربية، انطلقت باتجاهها طائرات فرنسية حربية التي كانت على أتّم الاستعداد لإطلاق النار إن هي حاولت الفرار. وهكذا تمّ تحويل الطائرة التي كانت تقل قادة الثورة نحو مدينة الجزائر، بمطار دار البيضاء وسط حشد كبير من القوات العسكرية والأمنية.
أثار هذا الاختطاف الإرهابي موجة واسعة من الاستنكار والتنديد الشديدين على المستوى الداخلي والخارجي، وجاء رد قيادة الثورة الجزائرية على عملية القرصنة، من خلال البيان الذي أصدره عبان رمضان في اليوم التالي من حادثة الاختطاف، ووُزّع في العاصمة الجزائرية أكّد فيه صمود الثورة قيادة وشعبا وقد جاء فيه: «إن اختطاف مسؤولين من جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ليس سوى انقلاب طارئ لن يغيّر شيئا من تصميم الثورة».
ومن جهته أكّد بلاغ رسمي للمجلس الوطني للثورة الجزائرية: «بأن الدعاية الفرنسية تحاول أن توهم الرأي العام بأن الثورة الجزائرية، قد فقدت الرأس المفكر بعد إلقاء القبض بتلك الصورة الشنيعة على الإخوان بن بلة، وخيضر، آيت أحمد، الأشرف وبوضياف.... إن الذين يعرفون حركات المقاومة السرية يعلمون أن إلقاء القبض على قائد أو جمع من القادة لم يوقف في يوم من الأيام تلك الحركات..».
وفي بيان لها ندّدت جبهة التحرير الوطني، بمساعي السلطات الاستعمارية لعرقلة مؤتمر تونس وأكّدت فيه خبث الحكام الفرنسيين، وعدم رغبتهم في إيجاد حلّ للقضية الجزائرية تتفق ومطالب الشعب الجزائري المشروعة. أما على الصعيد المغاربي، أثارت عملية اختطاف قادة الثورة واعتقالهم موجة استنكار العديد من الدول وفي مقدمتهم تونس والمغرب، إذ قرّرت الدولتان استدعاء سفيريهما في باريس احتجاجا على العملية النكراء. وبقيت القطيعة السياسية بين المغرب وتونس من ناحية وباريس من ناحية أخرى قائمة، وبلغت في بعض الأحيان حدّ التوتر الخطير، وكان موقف المغرب إزاء باريس هو المطالبة بإرجاع ضيوفه الخمسة بدون قيد أو شرط، أو رفع القضية إلى محكمة لاهاي الدولية.
تظاهرت تونس باتخاذ إجراءات في مستوى الإهانة الفرنسية، فعقد بورقيبة ندوة صحفية حضرها عدد كبير من الشخصيات السياسية والصحفيين الأجانب، وصرّح خلالها أن عملية الاختطاف زادت في استفزاز شعوب شمال إفريقيا، منتقدا السياسة الفرنسية، أما الرد الفعل الليبي، فقد استقدمت ليبيا سفيرها من باريس، وقدمت وزارة الخارجية احتجاجا شديد اللهجة لفرنسا، وعبّر رئيس الحكومة الليبية في المذكرتين الموجهتين للسفيرين الإيطالي والأمريكي عن احتجاج ليبيا الشديد على ما قامت به الحكومة الفرنسية.
وبذلك تحوّلت قضية اختطاف القادة إلى قضية دولية، حملت طرفي النزاع على الالتجاء إلى لجنة تحكيم مقرها في جنيف، وكانت مكوّنة من خمس شخصيات منها نائب عن المغرب، ونائب عن فرنسا وثلاثة أعضاء محايدين يمثلون الباكستان وإيطاليا وبلجيكا. وترأّس اللجنة الأستاذ البلجيكي «فيشر» أحد الأساتذة البارزين في القانون الدولي، لكن هذه اللجنة تعثرت شهورا بسبب العراقيل والمشاكل القانونية التي أثارها العضو الفرنسي.
أثبتت هذه العملية للعالم، بأن السلطات الاستعمارية لم تكن راغبة في تسوية القضية الجزائرية عن طريق التفاوض، بل لجأت إلى هذا الأسلوب الإرهابي من أجل عرقلة السلام، فتشعّبت القضية في الميدان القانوني خاصة بعد موقف باريس الذي اعتبر اختطاف قادة الثورة «مواطنين فرنسيين»، وهم في قبضة سلطة فرنسية ولا يوجد قانون في العالم يمكن أن يُلزم هذه السلطة على تسليم مواطنيها إلى سلطة أجنبية.
ظلت قيادة الثورة الجزائرية تطالب بإطلاق سراح وزراءها المعتقلين بدون قيد ولا شرط، ومن جهتهم واصل قادة الثورة المختطفون نضالهم داخل السجون الفرنسية تعبيرا عن رفضهم المطلق للتجاوزات المرتكبة في حقّهم، حيث أعلنوا إضرابا عن الطعام والمطالبة بحقّ التمتّع بنظام المساجين السياسيين.