في عزّ ملحمة نوفمبر الخالدة، ومع اشتداد ضربات جيش التحرير الوطني الموجعة ضدّ القوات الفرنسية الغازية، وتحقيقه انتصارات ميدانية وتكبيده إيّاها خسائر موثّقة، أثّرت سلبا في معنويات مقاتليها وقادتها، وفي أداء الطبقة السياسية الفرنسية، وفشلها الذريع في توقيف مارد الثورة، تُضاف إليها الانتصارات الدبلوماسية النوعية التي حققها قادتنا بالخارج.
كل ذلك وغيره أدّى إلى إصابة العدو بحالة من الهيستيريا التي أفقدته صوابه وتوازنه، فأخذ يضرب خبط عشواء على امتداد التراب الوطني السليب، لا يميز بين حامل للسلاح في ساحات الوغى، ولا بين مدني أعزل، ولا بين رجل وامرأة وبين شيخ وطفل، فكثّف من عملياته العدائية وأنشطته الإرهابية، ووسّع من أساليبه الوحشية القمعية، التي تقوم على التقتيل والتشريد وترويع الآمنين.
ومن الأعمال الإجرامية التي أقدم الجيش الفرنسي على ارتكابها ببشار، التي كانت جزءا مُهمّا من المنطقة الثامنة بالولاية الخامسة التاريخية، اعتقال سكان قصر موغل (50 كلم شمال مقر ولاية بشار) بتاريخ 31 ماي 1959، الذي أسفر عن اعتقال أكثر من 70 مواطنا، استشهد منهم أثناء الاعتقال السيد قنوف محمد (1918 ــ 1959) والسيد بلجنة مبارك (1920 ــ 1959)، انتقاما من سكان هذه البلدة ذات الموقع الاستراتيجي، باعتبارها تحاذي حدود المملكة المغربية، ويخنقها خط موريس الرهيب الذي أقامه العدو على طول الحدود الشرقية والغربية لبلادنا، وكذا قربها من مركز (بوعرفة) بالمغرب، وكذا مساندة سكانها للثورة، خاصة أنهم لم يمتثلوا لأوامر العدو في المناوبة بمركز الحراسة بالبرج الذي أقامه الجيش الفرنسي.
وكذا اكتشافه آثار المجاهدين حول محيط (قصر موغل )، على الرغم من احتياطات السكان لإتلاف آثارهم، وذلك بتعمّد تمرير قطعان الماشية على هذه الآثار عقب كل عملية عبور بالمنطقة.
وحسب دحماني عبد الرحمن ابن المجاهد دحماني محمد (مهتم بتاريخ وتراث المنطقة ورئيس البلدية الأسبق وحاليا نائب الرئيس)، فإنّ العدو قام صبيحة 31 ماي بمحاصرة القصر من جميع النواحي، وضَرَب طوقا أمنيا على ساكنيه، حتى لا يتمكن أحد منهم من الإفلات أوالتسلل إلى البساتين المجاورة .
وبعد أن أحكم سيطرته على القصر أعطيت الأوامر بتفتيش جميع المنازل بدقّة، وإخراج من فيها عنوة (رجالا ونساء،شيوخا وأطفالا) إلى ساحة القرية (ترقاصت) من أجل ترهيبهم وإذلالهم، وهم في حالة يُرثى لها!
وماهي إلا لحظات حتى صدرت الأوامر باعتقال كهولا لقصر وشبابه، إلى جانب زوجة المجاهد عمرون أحمد: السيدة صديقي الزهرة، وقد حُمِلوا قهرا على متن شاحنتين عسكريتين وشاحنة أخرى مدنية، وسِيقوا إلى ثكنة (تلزازة) القريبة من قصر لحمر (حاليا لحمر دائرة بـولاية بشـار، تضم بلديات: لحمـر وموغل وبوكايس، وتُعرف بقصور الشمال).
ولشدّة هلع النساء والأطفال والشيوخ وهول المنظر، فقد لحقوا بهم راكضين وراء الشاحنات، في موقف حزين ومؤلم يبعث على الأسى والشفقة، ممزوجا ببكاء وصياح النساء والأطفال، الذين يجهلون مصير ذويهم، وهذا اعتماداعلى الشهادات الحيّة التي استقاها السيد دحماني عبد الرحمن من السادة: عيسي بن أحمد (متوفى) بوجيدة محمد (متوفى)، قاضي محمد بن البداوي، صدّيقي مبارك، دحمان محمد بن أحمد، عيساوي الهادي.
واستنادا إلى شهادة المجاهد صديقي مبارك، وهو من مواليد 1933 بموغل وأحد المعتقلين، التي أدلى بها إليّ بعد أن التقيتُ به وببعض الناجين من المجاهدين بالبلدية بتاريخ 31 ماي 2016 بمناسبة إحياء هذه الذكرى، بحضور السلطات المحلية المدنية والعسكرية وعلى رأسها والي بشار وجمع من المجاهدين والإعلاميين ومواطني موغل وبعض البلديات المجاورة، فإن جنود العدو قاموا قبل يوم من الفاجعة (30 ماي) بتطويق القصر، وآخرين تسلقوا جدرانه و مكثوا فوق سطوح المنازل وطوّقوا بابه الرئيس، مستعملين الأضواء الكاشفة، وعند الساعة السادسة صباحا شرعوا في تنفيذ جريمتهم النكراء.
وقد لبث المعتقلون في معتقل (تلزازة) حوالي (10 أيام)، يعانون ألم الجوع والعطش وأعمال السّخرة وقساوة المعاملة، ثم تمّ توزيعهم على معتقلي (القنادسة وبشار)، ولم يكتف العدو بذلك بل عمد ـ كعادته - إلى تسليط مختلف أشكال التعذيب الجسدي والنفسي على هؤلاء العزل، الذين مكث بعضهم في المعتقل أياما، وآخرون أسابيع عديدة، ومنهم من لبث بمعتقل القنادسة 6 أشهر.
في انتظار الضبط الدقيق لأسماء وألقاب جميع المعتقلين، بالاعتماد على القائمة التي زوّدني بها - مشكورا - المجاهد صدّيقي مبارك (أحد المعتقلين) بتاريخ 20 جوان 2016، والتي استحضرها من ذاكرته بطلب منّا واسترجع أسماءها بشِقّ الأنفس، وبالتنسيق والتدقيق مع الأستاذ دحماني عبد الرحمن، متطلّعين إلى تخليد هذه الأسماء على جدارية رخامية ببلدية موغل، تليق بمقامهم وبتضحياتهم وبمعاناتهم.