الأمير عبد القادر ابن محيي الدين المعروف بـ ''عبد القادر الجزائري''، هو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ورمز للمقاومة ضد الاستعمار والاضطهاد الفرنسي، وقد وصفه الفرنسيون ''بيوغرطة الحديث''. خاض معارك ضد الاحتلال الفرنسي للدفاع عن الوطن وبعدها نفي إلى دمشق وتوفي فيها، زيادة على ذلك، فالأمير عبد القادر عالم الدين، شاعر، فيلسوف، سياسي وعسكري في آن واحد. وتوفي يوم ٢٦ مايو ١٨٨٣ بدمشق، ونقلت رفاته الى الجزائر في حوالي سنة ١٩٦٥ .كان تعليمه الديني صوفياً، أجاد القراءة والكتابة وهو في سن الخامسة، كما نال الإجازة في تفسير القرآن والحديث النبوي وهو في الثانية عشرة من عمره ليحمل سنتين بعد ذلك لقب حافظ ويبدأ بإلقاء الدروس في الجامع التابع لأسرته في مختلف المواد الفقهية. شجعه والده على الفروسية وركوب الخيل والمشاركة في المسابقات التي تقام آنذاك فأظهر تفوقا مدهشا.
بعثه والده إلى وهران لطلب العلم من علمائها، حضر دروس الشيخ أحمد بن الخوجة، فازداد تعمقا في الفقه كما طالع كتب الفلاسفة وتعلم الحساب والجغرافيا، على يد الشيخ أحمد بن الطاهر البطيوي قاضي أرزيو وقد دامت هذه الرحلة العلمية ما يقرب من السنتين (١٢٣٧ ــ ١٢٣٩هـ) ـ (١٨٢١ ــ ١٨٢٣م).
وحسب ما جاء في كتاب الأستاذ والباحث في التاريخ مياسي رحمه الله، فإن الأمير تلقى وهو شاب مجموعة أخرى من العلوم، فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطوطاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث، وصحيح البخاري وصحيح مسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو والسنوسية، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن، وبهذا اكتمل للأمير العلم الشرعي، والعلم العقلي، والرحلة والمشاهدة.
وأضاف أنه نظرا لما كان محيي الدين يتمتع به من مسؤولية القيادة العسكرية، فقد التفت حوله الجموع من جديد، وخاصة أنه حقق عدة انتصارات على العدو، وقد كان عبد القادر على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات. اقترح محيي الدين إبنه عبد القادر لهذا المنصب وجمع الناس لبيعته تحت شجرة الدردار، فقبل الحاضرون من علماء وكبراء ووجهاء القوم، وقبل الشاب تحمل هذه المسؤولية، وتمت البيعة، ولقبه والده بـ ''ناصر الدين'' واقترحوا عليه أن يكون سلطان ولكنه اختار لقب الأمير وكان ذلك في ٣ رجب ١٢٤٨هـ الموافق لـ ٢٧ نوفمبر ١٨٣٢ م وهو ابن أربعة وعشرون سنة.
وأوضح الأستاذ الجامعي في هذا الصدد، أن الأمير توجه بعد البيعة الأولى إلى معسكر ووقف خطيبا في مسجدها أمام الجموع الكبيرة، فحث الناس على الانضباط والالتزام ودعاهم إلى الجهاد والعمل وبعد الإنصراف أرسل الأمير الرسل والرسائل إلى بقية القبائل والأعيان الذين لم يحضروا البيعة لإبلاغهم بذلك، ودعوتهم إلى مبايعته أسوة بمن أدى واجب الطاعة.
لما داع خبر البيعة الأولى بادر أعيان ووجهاء ورؤساء القبائل التي لم تبايع إلى المبايعة، فتمت في مسجد بمعسكر يسمى حاليا بـ '' مسجد سيدي الحسان''، حيث حررت وثيقة أخرى للبيعة وقرئت على الشعب وتولى كتابتها محمود بن حوا المجاهدي أحد علماء المنطقة.
وقد وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: ح'' وقد قبلت بيعتهم''، (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى إتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله ١٣ رمضان ١٢٤٨ هـ الموافق لـ ٤ فبراير ١٨٣٣ م، وهذه هي البيعة الثانية التي احتفلت ولاية معسكر بذكراها الأسبوع الماضي.
وحدة الأمة أساس النهضة
عندما تولى عبد القادر الإمارة كانت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية صعبة، لم يكن له المال الكافي لإقامة دعائم الدولة إضافة، كان له معارضون لإمارته، ولكنه لم يفقد الأمل إذ كان يدعو باستمرار إلى وحدة الصفوف وترك الخلافات الداخلية ونبذ الأغراض الشخصية، كان يعتبر منصبه تكليفا لا تشريفا.
منذ الأيام الأولى لتولّيه الإمارة، كتب بيانا أرسله إلى مختلف القبائل التي لم تبايعه بعد، وكانت وحدة الأمة هي الأساس لنهضة دولته واجتهد في تحقيق هذه الوحدة، رغم عراقيل الاستعمار والصعوبات التي تلقاها من بعض رؤساء القبائل الذين لم يكن وعيهم السياسي في مستوى عظمة المهمة، وكانت طريقة الأمير في تحقيق الوحدة هي الإقناع أولا والتذكير بمتطلبات الايمان والجهاد، ولقد كلفته حملات التوعية جهودًا كبيرة، لأن أكثر القبائل لم تألف الخضوع لسلطة مركزية قوية.
وبفضل إيمانه القوي، انضمت إليه قبائل كثيرة، بدون أن يطلق رصاصة واحدة لإخضاعها، بل كانت بلاغته وحجته كافيتين ليفهم الناس أهدافه في تحقيق الوحدة ومحاربة العدو.
لقد قام الأمير بإصلاحات اجتماعية كثيرة، فقد حارب الفساد الخلقي بشدّة، ومنع الخمر والميسر منعًا باتا ومنع التدخين ليبعد المجتمع عن التبذير.
كان الأمير يرمي إلى هدفين: تكوين جيش منظم وتأسيس دولة موحّدة، وكان مساعدوه في هذه المهمة مخلصون، حيث بذل الأمير وأعوانه جهدًا كبيرا لاستتباب الأمن، فبفضل نظام الشرطة الذي أنشأه قُضِي على قُطّاع الطرق الذين كانوا يهجمون على المسافرين ويتعدّون على الحرمات، فأصبح الناس يتنقّلون في أمان وانعدمت السرقات.
بالنسبة للتنظيم الإداري لدولته الحديثة، فقد قسّم التراب الوطني إلى ثمانية وحدات وهي مليانة، معسكر، تلمسان، الأغواط، المدية، برج بو عريريج، برج حمزة (البويرة)، بسكرة، سطيف، كما أنشأ مصانع للأسلحة وبنى الحصون والقلاع، وشكل وزارته المكونة من خمس وزارات وجعل مدينة معسكر مقرّا لها، واختار أفضل الرجال ممّن تمّيّزهم الكفاءة العلمية والمهارة السياسية إلى جانب فضائلهم الخلقية، ونظّم ميزانية الدولة وفق مبدأ الزكاة لتغطية نفقات الجهاد، كما إختار رموز العلم الوطني وشعار للدولة (نصر من اللّه وفتح قريب).
ولبطولة الأمير اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة معه وهي اتفاقية ''دي ميشيل'' في عام ١٨٣٤، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر، وبذلك بدأ يتجه إلى أحوال البلاد ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها، وأنشأ عاصمة متنقلة كأي عاصمة أوربية متطورة أنذاك سميت الزمالة.
فكانت له مشاركة بارزة في الحياة السياسية والعلمية، قام بالتدريس في الجامع الأموي، وبعد أربعة أعوام من استقراره في دمشق، حدثت فتنة في الشام عام ١٨٦٠ واندلعت أحداث طائفية دامية، ولعب الزعيم الجزائري دورا بارزا، فقد فتح بيوته للاجئين إليه من المسيحيين في دمشق كخطوة رمزية وعملية على احتضانهم. كما قام في المشاركة في إخماد نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين.
ترك الأمير عبد القادر العديد من المؤلفات القيمة ترجمت إلى عدة لغات، وعقب حصول الجزائر على الاستقلال تم نقل رفاته إلى أرض الوطن بعد حوالي قرن قضاه خارج بلاده، وفي ٣ أفريل ٢٠٠٦م افتتحت المفوضة السامية لحقوق الإنسان بجنيف معرضاً خاصاً للأمير في جنيف إحياءً لذكراه، كما شرعت سورية في ترميم وإعداد منزله في دمشق ليكون متحفاً يُجسد تجربته الجهادية من أجل استقلال بلاده.