في ذكرى استشهاده يوم 22 مارس 1956

بن بولعيد قائد متميّز في أفكاره..جريء في مواقفه

سهام ــ ب

الشّهيد مصطفى بن بولعيد رمز من الرموز الوطنية في منطقة الأوراس الأشم، عرف فيه سكان المنطقة منذ الصغر عددا من الخصال هيّأته ليكون قائدا ومسؤولا، وهي الجرأة، الشجاعة، الاستقامة وحسن التفكير.
فراره من سجن الكدية بقسنطينة رغم تحصيناته الشديدة، تؤكّد أنه رجل متميز في تفكيره، جريء في مواقفه ومقدّر لنتائج كل عمل يقوم به.

ولد الشّهيد بتاريخ 5 فبراير 1917، من أسرة تحظى بمكانة اجتماعية لدى سكان قرية «إينركب» بأريس، التي تلقّى فيها تعليمه الديني قبل الالتحاق بالمدرسة الفرنسية بمدينة باتنة، وهناك أدرك بسهولة الفرق الشّاسع بين معاناة الأهالي ورفاهية المعمّرين. ولما خاف عليه والده من التأثر بثقافة العدو أخرجه من المدرسة الفرنسية، ووجّهه إلى التّعليم العربي الحر ليتلقّى التّعليم الديني والوطني على يد شيوخ وطنيين مخلصين.
ولما اشتدّ عوده استعان به أبوه في النشاط الفلاحي والتجاري. توفي والده فتكفّل بن بولعيد بشؤون العائلة من بعده ولازم دروس شيوخ المنطقة تنفيذا لوصية والده، وبعد ذلك مارس نشاطه الاجتماعي الخيري لمساعدة سكان قريته، الذين كانوا أكثر فقرا وأشد بؤسا.
هاجر بن بولعيد إلى فرنسا فتوسّع أفق تفكيره، وازدادت خبرته في الحياة، فانتخبه العمال رئيسا لفرع نقابي للدفاع عن حقوقهم، لكن إقامته في فرنسا لم تدم فعاد إلى مسقط رأسه ليستأنف النشاط الذي كان يقوم به، وجعل متجره قبلة للأعيان والوجهاء والعلماء من الوطنيين، فعلا شأنه وتفتّح فكره.
وفي عام 1939، استدعي الشهيد لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية، وأثناء ذلك تمكّن من الحصول على شهادة تقديرية كمقاتل مقدام، رشّحته للترقية في الرتب العسكرية وبعد تسريحه عاد إلى نشاطه. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية استدعي مرة أخرى للخدمة العسكرية، فالتحق بها مكرها مما جعله يتمرد عدة مرات على النظام العسكري، فأودع السجن بسبب تمرده، ولم يفرج عنه إلا بعد نهايتها.
مجازر 08 ماي 1945 تركت أثرا عميقا في نفسه
عاش بن بولعيد مجازر الثامن ماي 1945 الأليمة التي تركت أثرا عميقا في نفسه، ثم انتخبه تجار المنطقة ممثلا لهم ليدافع عن مصالحهم لدى الإدارة الفرنسية، وينسّق الجهود فيما بينهم، فأسّس معهم جمعية خيرية من بين أهدافها فضّ الخصومات بين سكان القرية، ومساعدة الفقراء وتأسيس المساجد للتعليم وأداء الصلوات.
دخل معترك الحياة السياسية في أعقاب مجازر الثامن ماي، بانضمامه إلى خلية من خلايا حزب الشعب بمنطقة أريس، كان يشرف عليها معلمه بمدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مسعود بلعقون.
ولما أنشأ التنظيم السري الممثل في المنظمة الخاصة في فيفري 1947، انضمّ إلى صفوفها وفي انتخابات المجلس الجزائري عام 1948، رشّحه الحزب على رأس قائمة من المناضلين، فلما فاز في الدور الأول فوزا ساحقا حرمته الإدارة الفرنسية من الفوز في الدور الثاني باللجوء إلى التزوير، ثم حاولت اغتياله لإبعاده عن النشاط السياسي نهائيا.
أسند إليه الحزب مهمة تشكيل نواة للمنظمة الخاصة بالأوراس، فاجتهد في اختيار الرجال المؤهلين للقيام بالعمل العسكري، وأمرهم بجمع الأسلحة والذخيرة والاحتفاظ بها لليوم الموعود، وأشاع بينهم مقولة في غاية من الذكاء: «من لا يملك بندقية فليس برجل»، ودعاهم إلى القيام بتوعية بقية أفراد الشعب ليتجنّبوا ظاهرة تبذير الذخيرة في الأفراح.
فلما اكتشف العدو أمر المنظمة الخاصة، وشرع في اعتقال أعضائها لجأ الكثير منهم إلى الأوراس، فتكفّل الشهيد بإيوائهم وتحمل مسؤولية رعايتهم، ولما ظهر الصّراع في قمة هرم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، اختار موقف الحياد لكنه سعى جاهدا لرأب الصّدع والتقريب بين وجهات النظر المتباعدة، فلما تأكّد من أنّ كل طرف مصرّ على رأيه قطع صلته بهم جميعا، ونسق الجهود مع مجموعة من زملائه السّائرين على دربه.
اجتماع تاريخي
فتوصّلوا إلى عقد الاجتماع التاريخي المشهور بتاريخ 25 جويلية 1954 بالعاصمة، حضره 22 مناضلا، أسفر عن اتخاذ قرار حاسم يدعو للتحضير للعمل المسلح، ولما انتهى الاجتماع افترق الحاضرون داخل الجزائر وخارجها، ليبلّغوا الغائبين بما تم التوصل إليه، فتوجه هو إلى سويسرا، وأقنع من التقى بهم هناك بالقرار الذي اتخذته المجموعة بالجزائر، ثم عاد إلى الجزائر ليجوب أرجاءها وينسّق الجهود بين الأعضاء، الذين حضروا الاجتماع من أجل التعجيل بالثورة التي بات من المؤكد اندلاعها.
وبعد عدة جولات رجع بن بولعيد إلى الأوراس، ليجعل منها أحد معاقل الثورة بمساعدة بشير شيهاني وعباس لغرور، وغيرهما من المناضلين، حيث سعى بن بولعيد ليلا ونهارا لعقد اجتماعات مع مناضلي الاوراس ليطلع على عمليات إحصاء المناضلين والسلاح والذخيرة، كما قام بعدة جولات ليعاين التحضيرات الجارية بمنطقة الأوراس، ويطّلع على مدى دقة التنظيم والجدية في العمل، فلما تيقّن من أنّ الجميع على أتمّ الاستعداد أخبرهم بموعد اندلاع الثورة، وحدّد لهم المكان والزمان لاستلام الأسلحة التي كان يدّخرها، وقبل اندلاع الثورة بساعات قليلة التقى الشهيد بقادة الأفواج الذين عيّنهم ليطلع على آخر الترتيبات والاحتياطات. وأثناء اللقاء خطب فيهم خطبة مؤثّرة شحذت هممهم، وأثارت في نفوسهم مشاعر حب الوطن والتضحية من أجله، وممّا قاله لهم: «إخواني، سنجعل الرصاص الليلة يتكلّم....».
وفعلا نطق الرصاص في تلك الليلة، فاستيقظت فرنسا في اليوم الموالي على وقع زلزال مدمّر، وجنّدت له الآلاف من عساكرها، من بينهم عدد كبير من المظليين وألصقت بالمجاهدين أبشع التّهم لتشويه سمعتهم، وأصدر حاكمها العام بالجزائر بيانا قلّل فيه من الخسائر وعدد العمليات، ووعد المعمّرين بالقضاء العاجل على المجاهدين الذين أسماهم بالمتمرّدين.
ولما تيقّن بن بولعيد بأنّ فرنسا قد أعدّت العدّة للقضاء على الثورة في مهدها، قرّر السّفر مع بعض رفاقه إلى المشرق العربي بهدف الدعوة إلى نصرة الثورة، وجلب السّلاح من الدول الشّقيقة والصّديقة. وبعد شهر من السير في ظروف صعبة غير آمنة، وصل إلى الحدود الليبية التونسية، وأثناء اجتيازه الحدود اعترضه حاجز نصبه الصبايحية، فلما أراد أحد عناصرها تفتيشه أطلق عليه الرصاص وقتله، ثم فرّ مع من كان معه .
وأثناء القبض عليه في صبيحة 13 فيفري 1955، وبعد محاكمته مرتين الأولى في تونس والثانية في قسنطينة، أودع سجن الكدية في انتظار تنفيذ حكم الإعدام فيه مع عدد من رفاقه، فخطّط مع من كان معه للفرار. في بداية الأمر واجه إدارة السجون لترفع القيود عن يديه والأغلال من رجليه، لأنها وضعته في زنزانة مظلمة وحيدا مكبلا.
رسم خطّة محكمة للهروب من سجن الكدية بقسنطينة
فلما تمّ التّخفيف عنه صار يلتقي بإخوانه في قاعة محصنة فأظهر دوره القيادي مع زملائه، فكان يؤمّهم في الصلوات ويرفع معنوياتهم، ومما كان يقوله لهم: «علينا أن نحاول الهروب ولو كانت نسبة النجاح ضئيلة، فالمحاولة في حد ذاتها موقف بطولي، ورجولة، وعمل يدعو إلى الفخر....»، حيث تساءل أحد السجناء عن كيفية الهروب وهم في قاعة جدرانها سميكة مبنية بالحجارة الصلبة الكبيرة، وبعيدة عن الأسوار الخارجية، كما أن أبوابها الحديدية محصّنة بالسلاسل والأقفال.
لكن بن بولعيد ردّ عليه أنّه يعلم ذلك ولا يجب اليأس من المحاولة، ثم التفت إلى السجناء وقال لهم: «من منكم مطّلع على خبايا هذا السجن ليخبرنا عن موقعه، من المدينة وموقع قاعتنا من بقية مرافقه»، فأخبره أحد المساجين أنّ القاعة تبعد عن مخزن يقع بالقرب من سور السجن الخارجي ببضعة أمتار، والمخزن به أسرة وبعض المهملات حينئذ استبشر الشهيد خيرا، وقال أن هذا سيسمح لهم برسم خطة من أجل الفرار.
وبعد تفكير عميق اقترح أحدهم القيام باختطاف الحارس، الذي يتردد على باب الغرفة وتجريده من السلاح، ثم تعمّم العملية على بقية الحراس فيستعينون بألبستهم وأسلحتهم للفرار، لكن بن بولعيد رأى أن هذه الخطة عواقبها خطيرة وغير مأمونة، وبعدها اقترح الشهيد إحداث ثقب في أرضية القاعة بكيفية لا يظهر معها أثر الحفر، وتتبع بحفر نفق نحو المخزن المجاور والاستعانة بما يعثر عليه من مهملات على تسلق الجدار الخارجي.
وحين اقتنع أغلبهم بالفكرة بدأوا يفكرون في اختيار الأوقات المناسبة للحفر، فلما ضبطوها شرعوا في ذلك فظهرت أمامهم صعوبة إخفاء صوت الحفر، عن الحراس فأشار عليهم مصطفى بن بولعيد باصطناع المناوشات مع الحراس، والقيام بالغناء والرقص لكي لا يسمعوا وقع الحجارة على القطع الحديدية أثناء الحفر.
بهذه الوسائل البسيطة جدا، التي وقعت عليها أيديهم داخل القاعة أحدثوا ثقبا في أرضيتها الصلبة، ممّا مكّنهم بعد ذلك من فتح حفرة ببضعة أمتار في جدار القاعة الصلبة المبنية بالحجارة الكبيرة، وقد استمرت هذه المغامرة الخطيرة مدة ثمانية وعشرين يوما، فلما انتهوا من ذلك وصلوا إلى المخزن المجاور للغرفة، فعثروا على مواد مهملة صنعوا منها سلما وحبلا ليستعملوهما في اجتياز السور الخارجي للسجن.
ولما صار كل شيء جاهزا للقيام بعملية الفرار، تدارسوا الوقت المناسب لتنفيذه، فوقع اختيارهم على الوقت الذي تتم فيه عملية تغيير الحراس على نقاط الحراسة الذي كان يتم مع صلاة المغرب، وبعد أن أدوا الصلاة وتضرّعوا إلى الله ليوفّقهم.
بعد إجراء عملية القرعة ورغم اللحظات الرهيبة التي كانوا يعيشونها، لم ينس القائد أن يزوّدهم بتوجيهات دقيقة حول كيفية التشويش على حاسة الشم عند الكلاب التي قد تتبعهم، والمحافظة على نشاطهم البدني أثناء الرحلة الشاقة الطويلة، والتكتم الشديد واتخاذ المسالك الآمنة ولو كانت صعبة وطويلة.
فبجهد عضلي وبوسائل بسيطة وقليلة تم اختراق جدار حجري، سميك واعتلاء سور منيع، مع أن البطون كانت جائعة والأقدام حافية والأجساد منهكة، رغم هذا تمكنوا من الفرار بتاريخ 10 نوفمبر 1955، لأنهم صبروا وثابروا ولم ييأسوا ولم يختلفوا، فقد جنّ جنون الاستعمار وارتبك في كيفية الرد على هذا العمل البطولي، فلم يجد أمامه إلا الانتقام من الشعب الأعزل، باقتحام منازلهم والتكسير والتهديم والشتم وضرب كل من يجده فيها، أما السكان فغمرتهم الفرحة بنجاة قائد الثورة في الأوراس.
أدرك العدو خطره فاغتاله بجهاز إرسال بتاريخ 22 مارس 1956
وصل بن بولعيد إلى منطقته أين استقبل بحفاوة كبيرة تليق بمقامه، فقام بعدة جولات للاطلاع على الحالة النظامية، خاض خلالها عدة معارك بكل من إيفري البلح وجبل أحمر خدو، وبذلك أعطت الثورة بالأوراس دفعا قويا. وفي مارس 1956 عقد اجتماعا استمر ثلاثة أيام بالجبل الأزرق، رسم فيه خطة العمل المستقبلية.
وفي الـ 22 من ذات الشهر جيء بجهاز إرسال واستقبال كانت قد ألقته الطائرات الفرنسية، وبعد تشغيله انفجر في وجه الجميع، فاستشهد بن بولعيد ومن كان معه فقد خطّط العدو لاغتياله على أعلى المستويات مستعينا بالمخابرات بعد أن أدرك خطره ودوره في اندلاع الثورة، لكن هيهات أن يفلح العدو في مسعاه لأنّ الشّهيد كان رجلا شجاعا زرع في نفوس المناضلين بذرة الثورة، فساروا على دربه لغاية استرجاع السيادة الوطنية التي انتزعت بقوة السّلاح.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024