كثيرة هي قصص أجدادنا الأبرار الذين صنعوا تاريخ الجزائر ببطولاتهم المشرفة، التي كلّما نستذكرها ينبض فينا شعور بالافتخار، والإجلال لكل من ساهم بتضحياته في استرجاع السيادة الوطنية والحرية لشعبه، ومنهم عمي صبحي الوناس، ذو 80 سنة تقريبا والذين انضمّت عائلته للنضال، كونهم متشبّعون بالوطنية، حيث استقبلنا هو وزوجته في بيتهم المتواضع بأعالي بوزريعة ليسرد لنا تفاصيل من كفاح والده وأشقاءه.
يبدأ نضال عمي الوناس بعد رحيله من منطقته ببلدية بغلية بدلس، نحو العاصمة سنة 1953 ليعمل في مخبزة ببوفريزي «بوزريعة» وهو لم يتجاوز سن 18 سنة، حيث بدأ في جمع الاشتراكات لفائدة جبهة التحرير الوطني، وبعد إغلاق الفرن الذي كان يشتغل به لمدة ثلاثة أشهر بعد إضراب الثمانية أيام سنة 1957، عاد إلى منطقته بدلس أين ألقي عليه القبض بعد عملية تفتيش قام بها الجيش الفرنسي، مشيرا في حديث لـ «الشعب» أنّ والده تركه وعمره ثمان سنوات، بعدما ألقي عليه القبض سنة 1945، وأنه لم يراه لغاية إطلاق سراحه سنة 1955.
وأضاف محدثنا أنّه بقي شهرا ونصف في محتشد تاورقة ببغلية، أين شاهد كل أنواع التعذيب المسلّط على إخوته الجزائريين، والذي يعجز اللسان عن الحديث عنها قائلا أن من بين التعذيب الذي تعرّض له هو وضع جهاز كبير على ظهره، ويسير به طيلة النهار من قرية لأخرى لغاية حلول الليل، وكان المساجين الآخرين يضعون في أرجلهم سلسلة حديدية، مما يعيق تحركهم.
وروى عمي الوناس أنّه حين أراد أحد المساجين الفرار، حيث انتهز فرصة ذهابه إلى المرحاض تفطّن له الحارس وأطلق عليه النار، لكن لحسن حظ هذا السجين أنه بقي على قيد الحياة، ونهض وقفز من فوق الجدار وهرب، (وهو حاليا يعيش في برج منايل)، وساعدته إحدى نساء القرية الطاعنة في السن على الاختباء كي لا يكتشف أمره العدو، لكن بعد ذلك تصب إدارة الاحتلال جل غضبها على بقية المساجين، حيث أنه في اليوم الموالي وجدوا أحد المناضلين معلقا في عمود الكهرباء كانتقام من هروب السجين، وبعد خروجه من المحتشد عاد للعمل مع جبهة التحرير الوطني كفدائي، يقوم بتوعية الشعب للانضمام إلى الكفاح المسلح، كما نفّذ عملية السطو على عتاد إحدى العيادات بالعاصمة رفقة مجموعة من المناضلين، وأخذت إلى الجبل لمعالجة المجاهدين الجرحى.
ويعود عمي الوناس للحديث عن ظروف اعتقاله في محتشد تاورقة، أين كان شقيقه الأكبر متواجدا هناك لكنه تمكّن من الفرار، بفضل ذكائه وبنيته الجسدية القوية يومين قبل زجه بالمحتشد، بحيث استطاع أن يفلت من الأضواء الكاشفة الموجودة في كل الاتجاهات، بعدما أعطاه ابن عمه الذي كان متواجدا معه الإشارة للهروب، بعدها التحق بالجبل، مشيدا بشجاعة وبسالة شقيقه الشهيد الذي نفذ هجوما على مكتب البريد ببلدية بغلية ليلة الفاتح نوفمبر 1954، هذه القرية التي جنّد كل أبنائها لخدمة الثورة المظفرة.
وفي هذا السياق، روى لنا حادثتين وقعتا لأخيه، الأولى عندما حاصره مجموعة من الحركى فتظاهر أنه مع فرقة من المجاهدين، وأطلق النار في كل الاتجاهات وأخذ ينادي بأسماء لإيهامهم بأنه رفقة الجيش، إلى أن نفذ بجلده.
والحادثة الثانية حين كان في منزل والدته رفقة خمسين جنديا من جيش التحرير الوطني، كونه كان مسؤول فريق فقام بتوزيعهم في مجموعة، البعض منهم أرسلهم إلى قرية أخرى والبقية بقوا معه، وإثر وشاية جاءت قوات العدو ليلا وحاصرتهم، وفي حوالي الرابعة فجرا وجد المجاهدون منفذا للهروب وذهب عمي الوناس للبحث عن الحراس الذين وضعهم لكنه لم يجدهم، ووجد عسكريا فرنسيا، هذا الأخير استدار ولم يطلق الرصاص عليه، حسب ما روى لنا محدّثنا.
وأضاف أن شقيقه ألقى بنفسه في ساقية والماء يسري من تحته، وكان مغطى بالحشيش وجنود العدو يمرون على ظهره، لكنه بقي صامدا دون أن يكتشفوا أمره لغاية السابعة مساءا، وبعد مغادرة العدو انطلق في البحث عن رفقائه.
ويروي لنا عمي لوناس عن عملية نفّذها شقيقه الشهيد، وهو أنه في أحد الأيام قرر الاستيلاء على شاحنة مليئة بالأسلحة من نوع 24، فقتل كل من كان على متنها من العساكر الفرنسيين، ونادى المجاهدين لأخذ الأسلحة، وعندما هرب رفقة صديقه وممرض وكذا المحافظ السياسي، سمعوا إطلاق الرصاص فظن أن إخوته المجاهدين في خطر، فذهب لنجدتهم أين وجد نفسه في ساحة خالية من الأشجار فقصفتهم طائرات العدو وقتلتهم جميعا في 1 مارس 1959.
ويعود المجاهد للحديث عن والده الذي أخذته فرنسا سنة 1945، وحكمت عليه بـ 10 سنوات سجنا مع صديقه موح السعيد معزوزي بتهمة قتل الباشاغا آيت علي بتيقزيرت، حيث تنقل بين السجون ابتداء بسجن تيزي وزو، ثم سركاجي بعدها البليدة، ثم وهران، ثم رحل إلى سجن مارسيليا بفرنسا، ليعاد إلى سجن الحراش،
أما شقيقه الآخر درس القرآن الكريم بسيدي عبد الرحمان بجرجرة في 1954، ثم ذهب إلى قسنطينة للدراسة عند الشيخ عبد الحميد ابن باديس مدة عام تقريبا، وفي أحد الأيام حاصر العدو تلك المدارس، واعتقلوا شيوخها ثم عاد إلى منطقته والتحق بصفوف جيش التحرير الوطني، حيث كان أمينا للعقيد أعمر أوعمران، وذهب معه لغاية الحدود التونسية، ثم عاد إلى بغلية أين أصيب في الأخضرية عام 1958.
وأوضح عمي لوناس في حديثه، أنّ شقيقه حين وصل إلى منطقة بغلية كلّف بقطاع يسر، وكان كل مجاهد يدخل هذا القطاع يقتل سواء بالوشاية أو السم، بقي هناك سنة تقريبا وقرر التخلص من جميع العملاء المتواجدين بالمنطقة.
وفي إحدى الأيام أضاف محدثنا أُمر بقتل ثمانية حركى، وبالفعل نفّذ العملية في يوم واحد، مشيرا إلى أن إحدى العملاء دعى المجاهدين لتناول العشاء عنده وكان عددهم كبيرا، حيث قام العميل بوضع السم في الأكل وتفطّنت زوجته لمكيدته فقامت بتحذير قائد المجموعة بعدم تناول الكسكسي.
وحسب ما رواه لنا عمي لوناس أنه حين همّ المجاهدون بالأكل طلب القائد من الحركي بالبدء أولا بالأكل، ومع تناول الملعقة الأولى سقط ميتا وذهبت زوجته مع المجاهدين، لأنه لو تركت ستقتل، وبعدما نفّذ شقيق محدثنا مخططه بالقضاء على العملاء الموجودين بالمنطقة، عاد إلى جرجرة ليواصل نضاله لغاية استشهاده في مارس 1959.
وحسب هذا المجاهد فإنّه لا يمكن أن نسرد كل الوقائع التاريخية في وقت وجيز، فهي مليئة بالأحداث البطولية، وأن كل تضحيات عائلته كانت من أجل استرجاع السيادة الوطنية، وتخليص الجزائريين من أغلال الاستعمار البغيض.
لا يمكننا نسيان جرائم المنظّمة الارهابية «لواس»
وصف عمي الوناس ما قامت به منظمة الجيش السري الإرهابي عشية الإعلان عن وقف إطلاق النار في حق الشعب الجزائري بالجرائم التي ينده لها الإنسان، وكان هو شاهدا على ذلك كونه كان بمنطقة بوفريزي، حيث رأى بأم أعينه رجال هذه المنظمة يقتلون كل جزائري يصادفهم في الطريق، قائلا: «لا يمكننا نسيان جرائمهم، كنّا نتجنّب ملاقاتهم وإلاّ فمصيرنا الموت»، أما عن يوم الاستقلال فقد كانت فرحة عارمة لا يمكن وصفها، أضاف محدثنا الذي كان عمره آنذاك 25 سنة. وفي الـ 7 جويلية 1962، رزقت بأول مولود سمي يحيى، تيمّنا بتحيا الجزائر».
خالتي زبيدة...صندوق البرتقال الذي نجّا أحد المناضلين
وتدخّلت زوجته خالتي زبيدة لعزالي لتسرد لنا هي الأخرى نضال إخوتها بباب الجديد بالقصبة، حيث كانت فتاة صغيرة لم تتجاوز 13 سنة، وهي أصغر إخوتها وكان المجاهدون يأتون لمنزلهم عند شقيقها، وهي تحرس عنهم وتخبرهم إن جاءت شرطة العدو، ولا تعلم أن أشقاءها يناضلون مع جبهة التحرير الوطني.
وبالمقابل حدّثتنا خالتي زبيدة عن مظاهرات 11 ديسمبر 1960، التي عايشتها قائلة أنه في البداية تم توزيع المناشير على السكان لإعلامهم بالمظاهرات، وفي حدود الساعة الثانية عشرة ليلا قام شقيقها بتقطيع القماش وتلوينها لخياطة الأعلام.
وأضافت أن كل أفراد عائلتها وأقاربها خرجوا للمشاركة في المظاهرات، ومنعها شقيقها خوفا عليها من الاصابة، مشيرة إلى أنّ الزغاريد تعالت يوم المظاهرات، لكنه منذ ذلك الوقت فقدت خالتي زبيدة صوتها بسبب القنابل المسيلة للدموع التي أطلقتها الشرطة الفرنسية على المتظاهرين، والتي أصابت أحبالها الصوتية وأتلفتها.
وتحدّثت خالتي زبيدة عن العميل بعبوش الذي قتلته زوجته ليلة زفافه، كما حدّثتنا عن واقعة صندوق البرتقال الذي نجّا أحد المجاهدين، حيث استطاع أحد المناضلين في لمحة بصر أن يغير محتوى الصندوق الذي يوجد به الأسلحة بالبرتقال، وحين جاءت قوات الشرطة الفرنسية وجدت البرتقال مكان الأسلحة. .