دبلوماسيـة الثـورة الجزائريـة المباركـة..

الأثر السياسي والصدى الإعلامي..

د. حسان مغدوري

ارتبط النشاط الدبلوماسي في تاريخ الجزائر الحديث بفكرة مقاومة الاحتلال الفرنسي الذي بدأ مع سنة 1830، ولعل تجربة المقاومة الوطنية المسلحة في عهد الأمير عبد القادر خلال القرن 19، قد مثلت اللبنة الأولى في هذا الاتجاه، فقد رسمت معالم الدبلوماسية التي تنطلق من مختلف أشكال المقاومة لاستغلالها كمادة إعلامية للتأثير في ميزان حربها ضد فرنسا، وسعيا وراء الظفر بمشروعية الكفاح، فإن صورة النشاط الدبلوماسي الموجه لخدمة الغرض الإعلامي، قد أضحى الأسلوب الأبرز في كل عمل قاده الأمير عبد القادر في هذا المجال.

استمرت التنظيمات السياسية في الجزائر، على النهج الذي خطه مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، طوال النصف الأول من القرن العشرين، وواصلت تبني برنامج إعلامي يعبر عن أفكارها وآراءها وأهدافها، وكان حزب الشعب الجزائري قد خرج من رحم نواة إعلامية كانت تحمل اسم “جماعة أحباب جريدة الأمة”، وهي التي شكلت لاحقا ما عرف بـ “الأمة “ لسان حال نجم شمال إفريقيا، كما كانت نشرة الوطني (Patriote) التي أصدرتها اللجنة الثورية للوحدة والعمل، آخر حلقة في مسار النشاط السياسي قبل اندلاع الثورة عام 1954.

نشأة الإعلام الثوري:

حمل بيان أول نوفمبر 1954 رسالة سياسية للشعب الجزائري وإلى الكيان الاستعماري والعالم برمته، وقد عبر عن ميلاد حركة ثورية باسم جبهة التحرير الوطني، وقد تضمن البيان عبارة: “أنتم الذين ستصدرون حكمكم بشأننا نعني الشعب الجزائري بصفة عامة والمناضلين بصفة خاصة (...) تؤكد عطفنا الفعال تجاه جميع الأمم التي تساند قضيتنا التحررية”، وقد دشن بذلك أول عمل إعلامي.
لقد أبدع مفجرو الثورة في تعزيز الفعالية الدعائية واختراق الإعلام الاستعماري، فهم قد تعمدوا الابتعاد عن الظهور المباشر، وتجنبوا التصريحات السياسية بالحدة التي فتحت باب الفضول واسعاً أمام التكهنات التي ملأت الصحف الفرنسية، على غرار جورنال دالجي، ولومند والفيغارو، والتي راحت كلها تجتهد في سباق محموم للتعريف بالجهة التي تقف وراء أحداث ليلة أول نوفمبر.
لقد اعترفت لوفيغارو منذ البداية، بأنها وإن لم تتضح لها معالم هذه (الاعتداءات)، فإن المنشورات التي وزعت في عدة جهات من الوطن والتي حملت توقيع جبهة التحرير الوطني، إنما كانت تمثل نتاج صراع صفوف حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وأضافت بأنها من جماعة ثالثة من شباب مندفعين فجروا الأحداث، كما ربطت لوموند في تحليلها لعدد نفس اليوم، أحداث نوفمبر بحركة الانتصار، وهكذا كانت هذه النماذج تعبيراً عن نجاح العمل السياسي والعسكري في إنتاج مادة إعلامية أحدثت صدى لمدة في وسائل الإعلام الفرنسية.
شكل انطلاق الثورة صدمة للإدارة الاستعمارية ولكافة هياكلها الرسمية، وانعكس ذلك في الصدى الإعلامي الواسع، فالأحداث قد مثلت مادة حية لاهتمام وسائل الإعلام الفرنسية التي راحت تتفاعل مع التطورات العسكرية والسياسية في محاولة منها لصرف الرأي العام في الداخل وفي الخارج عن حقيقة ما كان يجري على الأرض، لكنها أسهمت عن غير قصد في استقطاب وسائل الإعلام الأجنبية.

محطات النشاط الدبلوماسي

مثل النشاط الدبلوماسي للثورة الجزائرية، صورة عن الكفاح من أجل تصفية الاستعمار، وقد أخذ مستويات متعددة وصيغا متنوعة وأشكالاً مختلفة، فقد سجلت الفترة ما بين 1946 و1950 قيام الحركة الوطنية الجزائرية بإطلاع الأمم المتحدة والجامعة العربية، عبر تقارير ورسائل ومذكرات، كانت تحمل شروحات مفصلة عن معاناة الشعب الجزائري مع الاستعمار الفرنسي، وتقرر في اجتماع اللجنة المركزية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية في ديسمبر 1948، تأكيد مبدأ البحث عن الدعم السياسي والمعنوي الدولي لإنجاح انطلاق الثورة في إطار التضامن العربي، وإخراج الحركة الوطنية من العزلة، وحدد المؤتمر الثاني للحركة في أفريل 1953، مبدأ أهمية النشاط الخارجي وضمان التأييد الدولي، ومنح الموافقة لوفد الحزب في القاهرة للتحرك دبلوماسيا بهدف توثيق العلاقات مع كافة المنظمات الإقليمية والدولية لمساندة القضية الجزائرية.
لقد أعلن بيان أول نوفمبر 1954 عن مبدأ تدويل القضية الجزائرية، وأعرب عن تعاطف جبهة التحرير الوطني مع جميع الأمم التي تساندها في ظل ميثاق الأمم المتحدة، وانتهجت الثورة مسار ربط العلاقات بمختلف مراكز القرار السياسي ومنابع الفكر الحر في كافة جهات العالم، من خلال عمل السفارات وحركية المكاتب ونشاط الطلبة وتفاعل المغتربين والجاليات ومساعي الحركات السياسية والتنظيمات النقابية ونضال الشخصيات المرموقة ومهام البعثات على اختلاف أشكالها، في اتجاه كان يرمي إلى استقطاب وسائل الإعلام، واستغلالها بطريقة ذكية في تمرير خطابها وعرض صورتها لدى حكومات وشعوب العالم.
اتجهت الثورة الجزائرية في البداية إلى إذاعات الدول العربية كمصر وتونس والتي خصصت برامج في مواقيت محدودة لبث أخبار الثورة على لسان إعلاميين جزائريين، ومع التطور النوعي الذي تحقق عقب انعقاد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، نشأ التنظيم الرسمي وظهرت المؤسسات القيادية، وتم استدراك انعدام التنسيق بين الأجهزة الإعلامية الناطقة باسم الثورة، ونقلت حصرية توجيه النشاط الإعلامي لجبهة التحرير الوطني، وتكلل هذا المسعى الاستراتيجي بميلاد وزارة الأخبار عقب تأسيس الحكومة الجزائرية المؤقتة في 19 سبتمبر 1958.
تمكن مؤتمر الصومام من سد الحاجة الإعلامية في الداخل، وانطلق أول بث إذاعي في 16 ديسمبر 1956، من خلال إنشاء “إذاعة الجزائر الحرة المكافحة”، التي انطلقت من لا شيء.
يتطلب الإلمام بالأثر الإعلامي للثورة الجزائرية كتابة مجلدات، ولهذا سنسعى إلى التركيز على نماذج من الأنشطة الدبلوماسية للثورة وصداها في وسائل الإعلام التي كانت معياراً لأجهزة الاستعلامات الفرنسية في الاستدلال على الحقائق السياسية التي كانت تستعلم بشأنها.

الصدى الإعلامي للثورة الجزائرية

كانت معظم لقاءات جبهة التحرير الوطني تتم بالبلدان الإفريقية بمناسبة انعقاد المؤتمرات والملتقيات الإفريقية والأفرو-آسيوية، وكانت الثورة تستثمر في كل مبادرة دبلوماسية، تحوز اعتراف الدول الإفريقية بالحكومة الجزائرية المؤقتة، سيما وأن غانا وغينيا وليبريا وإثيوبيا قد ترددت في منح موافقتها للاعتراف بالحكومة المؤقتة، غير أن الدبلوماسية الجزائرية تجاوزت هذه العقبات، وقام أحمد بومنجل بتقديم تعليمات للحكومة المؤقتة قبل سفرها للمشاركة في مؤتمر (أكرا) للشعوب الإفريقية، الذي انعقد من 5 إلى 13 ديسمبر 1958 من أجل التماس حكومة غانا وغينيا وليبريا للتدخل من أجل دعم الحكومة المؤقتة.
طلب مؤتمر “الشبيبة الأفر-وآسيوية” المنعقد بالقاهرة في 7 فيفري 1959 بضرورة اعتراف كافة البلدان الأفر-وآسيوية بالحكومة الجزائرية، وفي اجتماع القاهرة الذي نظمته لجنة التضامن الأفرو-آسيوية في 13 فيفري 1959، تقدم الوفد الجزائري بنداء لكافة الدول لأجل الاعتراف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وقد تكللت هذه المساعي بقبول الأربع دول إفريقية مستقلة إقتراح عرض القضية الجزائرية المقدم من طرف مجموعة الأفرو-آسيوية على الأمم المتحدة في 1959.
كانت الثورة الجزائرية تشتغل بالموازاة في الحقل الإعلامي، إذ قام الوطنيون الجزائريون في أكتوبر 1958 بتوزيع بيانات مكتوبة على الطلبة الأفارقة تدعو النواب الأفارقة إلى دعم القضية الجزائرية، وتقدمت بمناسبة انعقاد المؤتمر الاقتصادي الأفرو-آسيوي بالقاهرة في 14 ديسمبر 1958 بتوزيع مطوية إعلامية على البعثات المشاركة.
وظفت الثورة الجزائرية البث الإذاعي، واستعانت بمسجون إفريقي يتحدث لغة البامبرا BAMBARA للدعاية عبر الراديو من أجل حث الجنود الأفارقة الذين كانوا يشتغلون تحت العلم الفرنسي بالانسحاب، وفي 4 جانفي 1959 اقترح رئيس قيادة الأركان مقاوم من الغابون، كان يشتغل لحساب جيش التحرير الوطني الأنغولي، لمباشرة أول حصة إذاعية عبر راديو تونس في 30 سبتمبر 1959، وجاء نص البث كما يلي “إن هدفنا الحالي هو الضغط على فرنسا للعدول عن استخدام الأفارقة في حربها الاستعمارية وخاصة في حربها ضد الجزائر - وتشهد جبهة التحرير بأن ثمة التحاق جماعي من طرف الأفارقة بصفوف جيش التحرير الوطني.
لم تترك الثورة الدعاية السينماتوغرافية، وعرضت بمناسبة انعقاد مؤتمر الإتحاد العام للعمال الأفارقة في 17 جانفي 1959 بكوناكري (جمهورية غينيا) فيلمين، تضمن الأول موضوع ساقية سيدي يوسف، وتناول الثاني اللاجئين الجزائريين في تونس، وتركت هذه الأعمال صدى مؤثرا، صفق له الجمهور طويلا.
كانت الثورة الجزائرية تتفاعل مع أحداث القارة الإفريقية، وتستغل كافة التطورات من أجل الترويج للقضية الجزائرية إعلاميا، فكانت كل من إذاعة القاهرة وتونس، تعبر عن تضامنها مع كفاح الشعوب الإفريقية من أجل الاستقلال، وكانت تستدل بوعود بلجيكا للكونغوليين في منح الاستقلال لتعزيز موقف الجزائر.
تبنت الثورة الجزائرية خط دعم الكفاح الإفريقي، حيث بث “راديو تونس” في 7 جانفي 1959 بياناً عبر فيه عن موقف الشعب الجزائري الداعم للكفاح المقدس للشعوب الإفريقية، وفي 23 جانفي 1959 بث صوت الجزائر المكافحة دعمه للشعب الكونغولي، وفي 4 فيفري قدم راديو القاهرة خطاب رئيس البعثة الجزائرية إلى مؤتمر “الشبيبة الأفرو-آسيوية” بالقاهرة، والذي أشاد فيه بكفاح إفريقيا، وفي 19 فيفري 1959 بث راديو القاهرة نداءً لفيدرالية الشبيبة الإفريقية الاستوائية على خلفية الاضطرابات العنصرية في برازافيل الكونغو، والذي أعرب فيه عن تقديره لكفاح الكونغوليين، وعلق راديو غينيا في مارس 1959 بكل ارتياح على مقترح يتضمن شجب أعضاء من خريجي التعليم الفرنسي للحرب في الجزائر.
حل الزعيم الكيني النقابي والسياسي توم مبويا (Tom mboya)، ورئيس مؤتمر الشعوب الإفريقية في أفريل 1959 ضيفا بمقر جبهة التحرير الوطني بالولايات المتحدة، وقد استقبل من طرف عبد القادر شندرلي الذي طلب منه بالمناسبة، ضرورة التأسيس للقضية الجزائرية أمام الشخصيات الأمريكية، وفي 9 ماي 1959 قام مندوب السنغال السيد نداو نديني (Ndao N’dene)، في دورة المجلس العالمي للسلم بستوكهولم بالسويد، المنعقدة في الفترة ما بين 8-13 ماي 1959، بكشف القناع عن السياسة الإمبريالية للحكومة الفرنسية حسبما نقلته حينذاك وكالة تاس الروسية، كما أعلنت وكالات الأنباء في 21 ماي، بأن مؤتمرا على مستوى وزاري لدول إفريقيا المستقلة سينعقد بمنروفيا في أوت 1959، أين سيتم تخصيص دراسة للمشكل الجزائري، وستكون الحكومة الجزائرية المؤقتة ممثلة في شخص فرحات عباس ومحمد يزيد.
لقد حملت صحيفة “نيويورك هيرالد تريبيون” New York Herald Tribune، بتاريخ 29 ماي 1959 رأيها في مؤتمر منروفيا Monrovia، ذلك أن اختيار منروفيا عاصمة ليبريا كمقر لانعقاد المؤتمر في أوت 1959 إنما يعكس الرغبة في منح المحررات شيئا من روح العدالة على الأقل، إذ أن ليبريا وإثيوبيا هما أقل البلدان تحمسا للقضية الجزائرية، مع أنه مجرد القول بمشاركة للحكومة الجزائرية في هذا اللقاء، فهو يؤشر لدفاع الاجتماع عن الثورة الجزائرية أكثر من أنه يحاول التوصل إلى اتفاق.
شكل الإعلام الثوري سنداً قويا للمساعي الدبلوماسية للثورة الجزائرية في القارة الإفريقية، إذ قامت إذاعة “صوت الجزائر الأخت العربية”، من خلال راديو تونس، بدعوة الشعوب الإفريقية لما وراء الصحراء إلى الانتفاضة، معتبرة بأن الثورات التي بدأت تشتعل في إفريقيا لا تزال في بداية الطريق، لكنها ستشتد مع الزمن وستتحول إلى قوى فاعلة، وحينها، فإن الشعب الجزائري الذي يواجه قوات الناتو الاستعمارية لمدة خمس سنوات، سيخفف عنه العبء حينما تتفرق القوة الاستعمارية في القارة الإفريقية من أجل إخماد الثورات في كل مكان. وكردة فعل على هذه الدعوة حمل راديو موسكو في 24 أفريل 1959، تصريحا لطالب من غانا مجد فيه النموذج الجزائري، وشجب الاستعمار الفرنسي.
عبر محمد يزيد، بمناسبة اليوم الإفريقي الذي عاشته تونس في 15 أفريل 1959، بأن انضمام الجزائر إلى المجموعة الدولية، إنما يعود الفضل فيه للقاء الدول المستقلة الإفريقية باكرا في 15-21 أفريل 1958، وتكللت اتصالات الثورة الجزائرية بالمجموعة الأفريقية، إلى احتجاج السودان على التجارب النووية لفرنسا في صحراء الجزائر، وفي 16 ماي 1959 حملت وكالة “تاس تليتيب”، بروسيا على الساعة 16 سا و15 د احتجاجات ضد تجارب فرنسا النووية بصحراء الجزائر، إذ حيت الوكالة تصريحات وزير الإعلام السوداني المعادية للتجارب النووية الفرنسية بالجزائر، والذي احتج أمام الأمم المتحدة، وقد رددت الخبر جريدة سواديناتا التي كانت تصدر بكلكوتا، والتي جاء فيها إن كل شعوب العالم، وخاصة الكتلة الأفرو-آسيوية، تدعم الاحتجاجات ضد التجارب النووية التي تجري بصحراء الجزائر، وجاءت هذه الاحتجاجات، على إثر زيارة رسمية لفرحات عباس للخرطوم في 2 ماي 1959.
حملت الصحافة خبر اتفاق بين غينيا ومالي، تم بين سيكو توري (Sekou Toure)، وموديبو كايتا (Modibo Keita) في منطقة قريبة من حدود البلدين، والذي أسفر عن إمضاء اتفاق للتعاون والتضامن على مبدأ محاربة الامبريالية، وخلص إلى ضرورة دعم باماكو وكوناكري، غير المشروط للكفاح المجيد للشعب الجزائري ضد الإمبريالية الفرنسية.

الحلقة الأولى

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19785

العدد 19785

الخميس 29 ماي 2025
العدد 19784

العدد 19784

الأربعاء 28 ماي 2025
العدد 19783

العدد 19783

الثلاثاء 27 ماي 2025
العدد 19782

العدد 19782

الإثنين 26 ماي 2025