في الثاني من ماي 1962، لم يكن الانفجار الذي دوّى في ميناء الجزائر مجرد رجّة مادية هزّت المرافئ والأرصفة، بل كان زلزالًا سياسيًا وأخلاقيًا وثقافيًا، اخترق جدران الذاكرة الوطنية وفضح وحشية استعمارية ماكرة أرادت أن تجعل من الرمق الأخير للوجود الفرنسي على أرض الجزائر لحظة ثأر صامتة، مدوّية في الخفاء، غادرة في العلن.. لقد جاء التفجير الذي تشير تقارير متعددة إلى ضلوع منظمة الجيش السري الفرنسية (OAS) في تنفيذه، كرسالة دموية مشفّرة، مفادها أن الاستعمار لن يغادر دون أن يترك وراءه الحطام، الأيتام، والخراب..لم يكن الهدف عسكريًا، ولم تكن الضربة موجهة لخصم مسلح، بل كانت في عمقها انتقامًا همجيًا من إرادة شعب قرّر أن ينتزع حريته من بين أنياب الاستعباد..ما يزيد الجرح فداحة، أن الصمت الذي لفّ هذا التفجير - سواء في صالات تحرير الصحف الغربية، أو في ردهات المنظمات الأممية - كان أكثر وقعًا من الانفجار ذاته. فالتعتيم الإعلامي الفرنسي لم يكن وليد صدفة، بل كان حلقة أخرى في سلسلة طويلة من الإنكار الرسمي، والتواطؤ المؤسسي، والسياسة الممنهجة لطمس الجرائم. أما الصحافة الجزائرية، الناطقة بلسان الثورة، فقد حملت لواء الحقيقة، ورفعت الصوت حيث خُنق الصوت، وواجهت الكذب بالحبر، والتضليل بالتوثيق، والخذلان بالوفاء لذاكرة الشهداء.
حــين دوّى الــرعــب في قــلــب الجــزائــــــر
بين الساعة الثامنة والنصف والتاسعة صباحًا من يوم الثاني من ماي سنة 1962، وفي لحظة يختلط فيها النسيم البحري برائحة الميناء المعتادة، دوّى انفجار مهول هزّ أعمدة الأرض تحت أرصفة ميناء الجزائر. لم يكن ذلك التفجير حدثًا عرضيًا أو ناتجًا عن خطأ تقني، بل كان فعلًا مدبرًا بإتقان عبثي من طرف منظمة الجيش السري الفرنسي (OAS)، في واحدة من أكثر عملياتها دموية وتخطيطًا.
استهدفت العبوة الناسفة - التي وُضعت بعناية بين رصيفيْ التفريغ المخصصين لنقل المواد التموينية والبضائع الحيوية - منشآت حيوية وأدت إلى مقتل عشرات المدنيين، وإصابة المئات، ودمار جزئي في البنية التحتية الاقتصادية. وقد قدّر الباحث الفرنسي “جان شارل جيلاس” (Jean-Charles Jellas) أن حجم العبوة تجاوز 150 كلغ من المتفجرات شديدة الفاعلية، مما يشير إلى دعم لوجستي نوعي، ووجود نية واضحة لإحداث مجزرة شبه شاملة..
وتؤكد شهادة المجاهد علي م. بوزيان، الذي كان حينها شابًا عاملاً في تفريغ الشحنات بالميناء، أن “اللحظة كانت أشبه بنهاية العالم..رأيتُ رجالًا بلا أطراف، سمعتُ صرخات أيتام لحظة ولادتهم في الدخان”، وهي شهادة وثقتها صحيفة المجاهد في عددها الصادر يوم 4 ماي 1962، حيث أوردت وصفًا ميدانيًا تفصيليًا للحادثة، في مخالفة مباشرة للتعتيم الإعلامي الذي مارسته الصحافة الفرنسية التي اكتفت، في جريدة Le Monde بتاريخ 3 ماي، بوصف الانفجار بـ«حادث مؤسف لم تُعرف أبعاده بعد”.
أما في أرشيف وزارة الإعلام الجزائرية (وثائق حكومة بن يوسف بن خدة)، فنجد وصفًا دقيقًا لخطة التفجير ضمن تقرير بعنوان “Les Attentats de l’OAS: le port d’Alger comme cible”, مؤرخ في 7 ماي 1962، يشير إلى أن العملية استُخدمت فيها تقنيات عسكرية متقدمة لزرع الألغام، تم جلبها عبر قناة أمنية فرنسية داخلية متورطة، ويُشتبه في دعمها من طرف ضباط في الشرطة السرية الفرنسية.
لم يكن التفجير عملاً منعزلاً عن السياق السياسي: فقد جاء في لحظة تشهد فيها فرنسا استعصاءً على الاعتراف الكامل باستقلال الجزائر، بالرغم من توقيع اتفاقيات إيفيان قبل أقل من شهرين. ومن هنا، يصبح التفجير محاولة استعمارية لتقويض رمزية الانسحاب، وتوجيه رسالة خبيثة مفادها أن الانفصال لن يتم دون ثمن باهظ..وكما كتب المؤرخ الجزائري الدكتور عبد المجيد الشريف: “كانت القنبلة الأخيرة التي أُلقيت في جسد الجزائر هي إعلان ضغينة استعمارية لا تزال تتنفس حتى بعد الاستقلال”.
إن تفجير ميناء الجزائر لم يكن جريمة ضد المدنيين فقط، بل كان تفجيرًا للثقة، للهدنة، وللمستقبل. ولعلّه، كما قال الناشط الحقوقي الفرنسي Pierre Vidal-Naquet في مقالة له عام 1963، “صفحة سوداء لم تُمزّق بعد، بل لا تزال تُكتب بأصوات الضحايا الصامتة”.
إحـــيـــاء الـــذاكـــرة في وجـــه التــهــمــيـــش
في الزوايا المنسية من الذاكرة الوطنية، لا تزال أصوات الضحايا تهمس من تحت ركام التفجير، تحكي عن لحظة اغتيال جماعي سقطت في براثن الصمت الدولي والتواطؤ الإعلامي. شهادات الضحايا لم تكن فقط روايات فردية عن الفقد، بل كانت صرخات اختُزلت عمدًا في سطور النسيان.
فاطمة بلقاسم، أرملة الشهيد محمد بن عبد الله، العامل بالميناء، تحكي بعد عقود من الصمت الثقيل قائلة: “كان قد عاد لتوّه من أداء صلاة الفجر..شرب قهوته، ثم قبل جبين ابننا الرضيع وانصرف. دقائق فقط بعد رحيله، سُمع دويّ كالرعد، ثم لا شيء..لا جثمان، لا قبر، فقط كيس قماشي فيه بقايا جمجمة وأسورة نحاسية باسمه”.
أما رشيد ع. بوخاري الذي كان طفلًا في الحادية عشرة حين فقد والده وعمه في التفجير، فيروي في كتابه “أبي لم يمت..لقد اختطفه الانفجار”: “كبرت وأنا أفتّش عن صورة واحدة لوالدي، عن خبر صحفي يعترف بأنه استُشهد. كل ما وجدته كان في أرشيف قديم لصحيفة “الحرية” الجزائرية، أما في الصحف الفرنسية، فكان اسمه محذوفًا، كأنهم يقولون: لم يكن”.
تلك الشهادات ليست حكايات فردية، بل ملامح وطن جُرح بصمت، بصوت مكتوم تحت حوافر التعتيم الفرنسي. فالصحافة الفرنسية حينها، كما جاء في أرشيف Le Figaro (عدد 3 ماي 1962)، لم تذكر أسماء الضحايا، ولم تُنشر صورهم، واكتفت بالإشارة إلى “خسائر مادية وبشرية محتملة”. وفي المقابل، خصّصت صحيفة المجاهد سلسلة من المقالات ما بين 3 و8 ماي 1962 بعنوان “وجوه الشهداء”، نشرت فيها صورًا ورسائل عائلات الضحايا، وقدّمت شهادات حية من قلب الحدث، مما شكّل أول عملية تدوين وطنية لتلك المأساة.
لقد قاومت الذاكرة الجزائرية كل محاولات الطمس، واستطاع الأهالي أن يحولوا الألم إلى سرديات خالدة، تُروى في البيوت، وتُنقش في أسماء المدارس، وتُحمل في أناشيد المقاومة، كقصيدة “الميناء يبكي شهداءه” للشاعر عبد الحميد بن هدوقة، ونُشرت أول مرة في مجلة آمال في جوان 1966.
وإنه لمن المفارقة الأليمة أن يكون الصمت الفرنسي أقسى من صوت الانفجار. فقد كتب الناشط الحقوقي François Maspero عام 1964 في مقاله الشهير “Les Morts Algériens n’ont pas de noms” أن “الضحايا العرب لا يُذكرون إلا أرقامًا، لأن هويتهم تُزعج الراحة الفرنسية”.
المـــواقـــف الــقــانــونــيـــة والـــدولـــيـــة..
حين يُفجر ميناء بلدٍ مستعمَر، وتُسفك دماء عماله في وضح النهار، لا بصاروخ عدو خارجي، بل بعبوات زرعها محتلٌّ على أرضٍ يدعي إدارتها، فإنّ القانون الدولي لا يقف صامتًا..إلا إذا كانت الضحية جزائرية، والجلاد فرنسيًّا.
منذ الساعات الأولى لتفجير ميناء الجزائر في 2 ماي 1962، كان يمكن قراءة معالم جريمة دولة تتشكل: عمل إرهابي، استهدف منشأة مدنية، أسفر عن مذبحة جماعية لعشرات المدنيين، وسط صمتٍ مريب من السلطات الاستعمارية. هذا الصمت لم يكن مجرد تجاهل بل كان تواطؤًا ممنهجًا، مارسته فرنسا عبر ثلاث أدوات: التعتيم الإعلامي، التهوين القضائي، والتنصل من المسؤولية القانونية.
تجـــاهـــل فـــرنـــســـي مـــنـــهـــجــــي
لم تفتح الدولة الفرنسية أي تحقيق رسمي مستقل حول التفجير، بل اكتفت بتصريحات مقتضبة من شرطة الجزائر العاصمة، أشارت فيها إلى “حادث تخريبي داخلي، ربما ناتج عن تسرب أو انفجار ذخيرة”، كما ورد في برقية وزارة الداخلية الفرنسية المؤرخة في 3 ماي 1962.
بل الأكثر من ذلك، أن السلطات الفرنسية رفضت تصنيف التفجير كعمل إرهابي رغم كل المعطيات الميدانية، ومنها شهادات عناصر من الشرطة الفرنسية المحليين الذين أكدوا - حسب ما نقل الصحفي Jean-Paul Chagnollaud في مجلة Politique Internationale (عدد 42، 1988) - أن الأمر يتعلق “بعملية منظمة بأدوات عسكرية متقدمة، ولا يمكن أن تكون نتيجة خطأ عرضي”.
الـــقـــانـــون الـــدولي…حـــين يـــعـــمـــى الـــبـــصــــر
وفقًا لاتفاقيات جنيف الرابعة لسنة 1949، وبالذات المادة (3) المشتركة، فإنّ قتل المدنيين في النزاعات غير الدولية يعد جريمة حرب، كما أن اتفاقية لاهاي لعام 1907 تفرض على القوة المحتلة مسؤولية حماية أرواح المدنيين تحت سلطتها. لكن فرنسا، وهي دولة موقعة على هذه الاتفاقيات، أدارت ظهرها لكل المبادئ التي طالما تغنت بها، لا لشيء سوى أن الضحايا جزائريين.
ورغم تقديم عدد من المحامين الجزائريين والمناصرين للقضية الجزائرية ملفات موثقة أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 1963، إلا أن تلك الملفات لم تجد طريقها للنقاش، بعد أن تم تمييعها في دهاليز الدبلوماسية الغربية، تحت ذريعة “حساسية المرحلة الانتقالية في الجزائر”.
بحــــث في فـــائـــدة عـــدالــــة!!
لم تُصدر الأمم المتحدة، ولا أية منظمة دولية، ولو بيان إدانة رسمي واحد بشأن تفجير ميناء الجزائر. هذا الغياب التام للمواقف يطرح سؤالًا مريرًا: هل كان المجتمع الدولي أعمى عن الحقيقة، أم متواطئًا في طمسها؟ وقد كتب المؤرخ البريطاني Martin Evans أن “التفجير كان يمكن أن يشكل منعطفًا حقوقيًا في محاسبة فرنسا لجرائمها في الجزائر، لولا صمت الحلفاء الغربيين الذين اعتبروا أن تماسك فرنسا أكثر أهمية من كشف الحقيقة.”
الاعــــتراف الــقــانــوني..مــطــلــب عـــادل..
طالبت الجزائر في أكثر من مناسبة باعتراف رسمي من الدولة الفرنسية بهذه الجريمة، أبرزها ما جاء في مداخلة وزير المجاهدين الجزائري أمام البرلمان عام 1999، الذي أكد أن “تفجير الميناء لا يمكن اعتباره إلا جريمة دولة ضد مدنيين عزل”، مطالبًا بفتح أرشيف التفجير وبتعويض الضحايا وأسرهم.
كما رفعت منظمات جزائرية مثل منظمة أبناء الشهداء واللجنة الوطنية لضحايا الاستعمار ملفات موثقة للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ عام 2001، لكن تم رفضها لكون “الوقائع وقعت قبل تأسيس المحكمة”، بحسب رسالة الرد المؤرخة في 12 نوفمبر 2001، والمحفوظة في أرشيف المنظمة بالجزائر العاصمة.
لقد كُتبت العدالة بقلم أوروبي لا يقرأ أسماء الشهداء العرب. وتُركت جراح التفجير مفتوحة، تئن تحت طاولات القانون الدولي، بينما يواصل التاريخ الرسمي تجاهلها، ويواصل الضمير الإنساني التغافل عنها. إن تفجير ميناء الجزائر لم يكن فقط جريمة قتل جماعي، بل جريمة صمت دولي، وتواطؤ قانوني، ومهزلة أخلاقية ما تزال تبحث عن منبر يُنصفها، وضمير يُدينها، وميزان يُرجّح كفة الضحايا.
الإعـــلام..تـــعـــتــيـم أم تـــنـوير؟!
في صباح الثاني من ماي 1962، عندما دوّى الانفجار في ميناء الجزائر كصرخة أخيرة لاحتضار الاحتلال. لكن حين فتحت الصحف الفرنسية صفحاتها في اليوم الموالي، لم تكن الصرخة سوى “حادث عرضي” أو “اضطراب أمني داخلي”. تلك لم تكن زلّة تحرير، بل سياسة متعمدة، تكرّرت بانتظام كلما تعلق الأمر بضحايا الجزائر من المدنيين.
الـــصـحــافـة الـــفـرنـــسيــة.. الــصــياغــة الــنــاعــمـة لـلــجريمـة
في عددها الصادر بتاريخ 3 ماي 1962، نشرت Le Monde تقريرًا قصيرًا في الركن الداخلي من الصفحة الرابعة، بعنوان: “Explosion au port d’Alger : enquête en cours” (انفجار في ميناء الجزائر: التحقيق متواصل)
جاء في نص التقرير: “وقع انفجار في مستودع بالواجهة البحرية لميناء الجزائر، ولم تعرف بعد ملابساته بدقة. تشير المعلومات الأولية إلى احتمال خطأ تقني أو تسرب مواد قابلة للاشتعال والجرائد لا تزال موجدة في الأرشيف.
أما صحيفة La Dépêche d’Alger، الناطقة باسم الإدارة الاستعمارية، فقد وصفت الانفجار في عددها الصادر يوم 4 ماي بأنه:
«Un incident tragique dans une zone portuaire en tension” (حادث مأساوي في منطقة مينائية متوترة)، مضيفة في تعليقها أن “الانفجار يُظهر الحاجة إلى تعزيز الأمن خلال المرحلة الانتقالية”، ولا إشارة إلى الضحايا، لا وصف للدمار، لا كلمة عن الخلفية السياسية أو السياق الاستعماري..الرسالة واضحة: طمس الحقيقة، تقليص الحجم، وتحويل الفعل المتعمد إلى خطأ عرضي.
الصـحافة الجزائريـة..بـين الدم والـدخان تُـكتب الحقيقة
في المقابل، كانت الصحافة الوطنية السرّية، وعلى رأسها صحيفة المجاهد- لسان حال جبهة التحرير الوطني - تمارس دورها في التوثيق والمقاومة. في عددها المؤرخ بـ6 ماي 1962، كتبت المجاهد:«الاستعمار يُفجّر الميناء..العمال في المشرحة وأصابع فرنسا في العبوة”.
ووصفت الصحيفة ما جرى بأنه “امتداد لجرائم فرنسا الاستعمارية، واستهداف ممنهج للبنية الاقتصادية قبل الانسحاب، لشلّ الحياة في الجزائر الحرة القادمة”.
كما نشرت صحيفة صوت الجزائر التي كانت تطبع في تونس، تقريرًا مطولًا بعنوان:«دماء على الأرصفة..من جديد تُفجّر فرنسا أجساد المدنيين”، متضمّنة شهادات عن الضحايا وأسماء بعضهم، وهو ما لم تجرؤ عليه أي صحيفة فرنسية.
يـــصــمــت الــعــدو ويــنــطــق الــتــاريــخ
لو قارنا بين تغطية Le Monde والمجاهد، فإن الاختلاف لا يقتصر على المعلومات، بل يطال النيات ذاتها..ركزت الصحافة الفرنسية على تفادي تحميل الدولة المسؤولية، وسعت الصحافة الجزائرية إلى حماية الذاكرة الجماعية وتثبيت حق الضحايا في السرد، لا مجرد الذكر..كانت الصحافة الفرنسية تكتب بنبرة الخوف من كشف المستور، بينما كتبت الصحافة الجزائرية بلغة الجرح والمقاومة..
الـــذاكـــرة المحـــروســـــة..
ليست الذاكرة ترفًا سياسيًا، بل هي خط الدفاع الأول عن السيادة. هكذا فهمت الجزائر المستقلة مسألة التاريخ، حين جعلت من مجازر ومآسي الاستعمار الفرنسي معالم في طريق الأمة نحو بناء وعي سيادي لا يقبل النسيان. وفي هذا المسار، احتل تفجير ميناء الجزائر - رغم التعتيم الذي لفّه - موقعًا رمزيًا يتعاظم مع كل جيل، لتنهض الدولة الجزائرية بمسؤولية إعادة سرد الحدث بمنظور التحرر لا بمنطق الضحية المنسية.
في العديد من المؤلفات الرسمية والأكاديمية الجزائرية، نجد إشارات إلى هذا التفجير كحلقة من حلقات العنف المنظم الذي مارسته فرنسا ضد البنية الاقتصادية والاجتماعية في الأيام الأخيرة من الاحتلال. ففي كتاب عبد المجيد شيخي “الذاكرة الوطنية: الرؤية الجزائرية”، يصف شيخي التفجير بأنه “كان محاولة يائسة لتركيع العاصمة في الأيام التي كانت فيها فرنسا تفقد قبضتها على المدينة”.
كما وردت إشارات هامة إلى هذا الحدث ضمن منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، خاصة في العدد الخاص بجرائم الاستعمار (2017)، حيث نقرأ: “لم يكن التفجير عملاً معزولًا، بل جزءًا من استراتيجية فرنسية خفية لهدم مقومات الاستقلال قبيل الانسحاب، ويتطلب من المؤرخين والباحثين توثيق هذه المرحلة بكل تفاصيلها”.
من جانب آخر، عملت وزارة المجاهدين وذوي الحقوق، على إدماج هذا النوع من الأحداث في الذاكرة الرسمية من خلال الدعم الممنهج لأفلام وثائقية وندوات جامعية، أبرزها ندوة جرائم الاستعمار في العاصمة عام 2018، أدارها الأستاذ محمد العالي بلقاسم، حيث خُصصت ورقة كاملة بعنوان “تفجير 2 ماي 1962: حين اغتالت فرنسا مستقبل الميناء”.
أما إعلاميًا، فقد بدأ التلفزيون الجزائري - لاسيما عبر قناة الذاكرة - تسليط الضوء على هذه الجرائم بصوت الجيل الجديد من الباحثين. في حلقة بثت عام 2021 من برنامج “حقائق التاريخ” استعرض المؤرخ سليم قلالة شهادات حية لأسر ضحايا التفجير، مؤكدًا أن “هذا الجرح يجب أن يتحول إلى وثيقة دامغة في ملف الجرائم ضد الإنسانية”.
ومن الجانب القانوني، دعّمت الجزائر عبر بعثاتها الدبلوماسية، لا سيما في جنيف وباريس، مطالبها بمزيد من الاعتراف الفرنسي، مستندة إلى ملفات توثيقية أبرزها التقرير المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة سنة 2015 بعنوان جرائم فرنسا في الجزائر: بين النسيان والمطالبة بالاعتراف (بعثة الجزائر لدى الأمم المتحدة، الوثيقة A/HRC/29/ALG).
ورغم التحديات، فإن الجزائر تبني ببطء، وبدقة، سرديتها الوطنية، وتفتح نوافذ الأرشيف، وتعيد الاعتبار لشهداء ومجاهدين كادوا يُمحون من الذاكرة. فالحدث، وإن طمسته فرنسا، فإن الدولة الجزائرية ترد عليه بصوت التاريخ، ووثيقة الوطن.