ساهم اليهود في مأساة الجزائريين، حيث استغلوا كل الفرص لأجل الربح السريع، وهو ما أوضحه أحد الأوروبيين بوهران في رسالة إلى نابليون الثالث يوم 15 ماي 1865م قائلا: “وأحيط جلالتكم علما بأن الشعب الأهلي لعمالة وهران يدفع لصالح اليهود مبلغا يساوي أربعة أضعاف ما يدفعونه لفرنسا بعنوان الضرائب”، بالإضافة إلى ذلك، استغل اليهود المجاعة بين عامي 1868-1869م لتنمية ثرواتهم عن طريق أرباح القروض التي كانوا يقدمونها للمنكوبين بفوائد وأرباح عالية تتراوح ما بين أربعين إلى مائة في المائة لمدة شهرين أو ثلاث فقط في العام، مما جعل كثيرا من الجزائريين يفقدون أملاكهم ويتحولون إلى خماسة.
اعتمد المستوطنون على الأهالي الجزائريين كيد عاملة رخيصة في كل المجالات، حيث كانت تستغل بطريقة لا إنسانية إلى درجة أن الفلاح كان يشتغل طوال اليوم بمقابل زهيد، حتى في أوقات الأزمة بما فيها المجاعة فضلا على أن الكثير منهم كانوا يشتغلون دون مقابل، وذلك بشهادة نواب من البرلمان الفرنسي.
استمرت إدارة الاحتلال في تضييقها على الجزائريين جميعا، فلم تتغير الضرائب، بل إن الحكومة بالجزائر أقامت إجراءات استثنائية إدارية متمثلة في “المجلس الحربي” لمتابعة الوضع واعتبرت كل متسوّل وباحث عن الطعام مجرما.
رغم ما عاشته الجزائر من أزمات كالقحط والمجاعات والجفاف ونقص المحصول خاصة في ستينيات القرن التاسع عشر، إلا أن سلطات الاحتلال لم تتعامل مع الوضع بالشكل المطلوب، فالضرائب بقيت على حالها، بل شهدت تزايدا في بعض الأحيان، لتزيد من معاناة الأهالي.
الـهـجرة والـتــهجـير
منذ أن احتلت الجزائر، عمدت فرنسا إلى استراتيجية سياسية استيطانية حيث عملت على إفراغها من سكانها الأصليين، وملئها بالدخلاء الأوروبيين. وما كان قانون مصادرة أراضي الأهالي وثرواتهم وتمليكها للمعمرين إلا جزءا يسير من سياسة التهجير القسري التي جعلتهم يعيشون في فقر وبؤس شدید.
هذا ما لم يتطرق إليه كثير من المؤرخين الفرنسيين الذين أرخّوا للهجرة الجزائرية، فهم لم يذكروا السبب الحقيقي وراء هذه الهجرة.
وهذا أكبر دليل بالنسبة إلينا على محاولة تحقيق السياسة الاستعمارية الاستيطانية، حيث تبنّاها الجنرال بيجو رافعا شعار “السيف والمحراث”.. السيف لقتل الجزائريين، والأراضي للمعمرين، حتى تكون وضعا في الجزائر شبيها بوضعية السكان الأصليين في جنوب إفريقيا.
فرنسا كانت تدرك أهمية تواجد المستوطنين المدنيين الفرنسيين والأوروبيين في الجزائر، وأنهم هم من سيدعمون الاحتلال، وذلك من خلال استلاب الأراضي الزراعية من أصحابها الشرعيين وتسليمها للأوروبيين، وبالتالي، تصبح إقامة هؤلاء في الجزائر على حساب الجزائريين، وهو الأمر الذي يجعل من الاقتصاد الجزائري اقتصادا استعماريا، يخدم مصالح الاحتلال، فالإدارة الاستعمارية لا تشير إلى هذه النقطة ولا إلى الإهمال الذي حل بالأهالي، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلّ على ارتباط عناصر السياسات الفرنسية في الجزائر ببعضها البعض، وحاجة الاستيطان إلى المزيد من الأراضي تحت أساليب قهرية جاءت في شكل مراسيم وقوانين وأوامر مصطنعة، وهذا ما أكده الجنرال بيجو الذي اشتهر بالعنف أمام النواب عام 1840م حين قال: “عليكم بإسكان المستوطنين حيث يوجد الماء العذب والأرض الخصبة دون الاهتمام لمن تعود هذه الأراضي”.
وفقا لذلك، قامت السلطات الفرنسية بتطبيق سياسة الضرائب لإثقال كاهل الجزائريين، وإرغامهم على تلبية متطلبات المشروع الاستعماري في الجزائر، مع العلم أنها لم تكن مدروسة وفق مقدرة الفرد الجزائري المالية والمادية.
غير أن الحرب العالمية الثانية جعلت الهجرة الجزائرية تأخذ منحى سياسيا، وذلك بسبب المواقف البطولية التي قام بها أبناء الجزائر مع فرنسا ودورهم الفعّال في تحريرها من الاحتلال النازي، حيث قامت هذه الأخيرة بإلغاء جميع القوانين التي تعيق هجرة الجزائريين إلى أراضيها. إلا أن هجرة الجزائريين بقيت – نظريا - تحت قيود الإدارة والضغوطات الاستعمارية إلى غاية صدور قانون 22 سبتمبر 1947م الذي نص على حرية التنقل وساوى بين جميع المواطنين الفرنسيين، هذا ما أدى إلى هجرة كبيرة إلى فرنسا، ولقد كان لهذا القرار هدفا اقتصاديا حتى يتسنى للاقتصاد الفرنسي أن يستفيد من اليد العاملة الجزائرية وإعادة بناء ما خربته الحرب.
لقد ظهرت بعد الحرب ظاهرة جديدة تمثلت في هجرة العائلات، ولكن الأمر لم يتعلق بهجرة نهائية، فحركات الذهاب والإياب، كانت دائما خلال هذه الفترة مراقبة.
نتج عن هذه السياسة فتح باب الهجرة، حيث التحق عدد كبير من الجزائريين وقد بلغ عددهم عام 1947م حوالي 67000 عامل، تظهر أهمية هذه الأرقام إذا قمنا بمقارنة هذه الحقائق بالعدد الذي عاد في تلك السنة إلى الجزائر، حوالي 22300 عامل في نفس السنة، وبذلك يكون عدد الذين بقوا بفرنسا حوالي 45 ألف، وهو أكبر عدد للمهاجرين الذين استقروا في فرنسا خلال سنة واحدة.
في سنة 1948م، بدأ الضغط السكاني يظهر - بحسب عمار بوحوش - وأصبح واضحا، حيث فاق عدد المهاجرين عدد العائدين بما لا يقل عن 265 ألف عامل، وكان السبب في تضاعف العدد هو انعدام المشاريع الصناعية بالجزائر وانتشار الأمية، ولهذا السبب تحتم على عدد كبير من الجزائريين البحث عن وسائل العيش في مكان آخر، ونتيجة لتزايد عدد الشبان الذين يلاقون صعوبات سياسية واقتصادية في كل الميادين، وما يتاح لهم من الفرص لتحسين مستواهم الاجتماعي والمادي، حيث بدأت العناصر الوطنية بالتفكير جدّيا في المأزق الذي آلت إليه حال الجزائريين، وقد خرج بعض الشبان الواعيين بأفكار حول مصير الشعب، على أن الهجرة إلى فرنسا سوف تدعم اقتصادها، وبالتالي تمدد فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر.
كان هناك جانبا آخر من العمال الذين كانت رغبتهم كبيرة في الحصول على وظائف تكفل لهم ولعائلاتهم العيش، ثم جاءت الأيام لتثبت أن هذه الطبقة الأخيرة، هي التي تحمّلت العبء الكبير في تمويل الثورة، لأنها كانت في وضعية حسنة من الناحية المادية وكان بإمكانها دفع التبرعات والاشتراكات لتدعيم الكفاح الثوري، وفي عام 1949م أصبحت الزيادة في الهجرة تنمو بشكل متوازي للزيادة المطردة في السكان، ولم ينقص عدد المهاجرين عن 83 ألف، إلا بعد اندلاع الثورة الجزائرية.
هذا لم يمنع من تزايد عدد الجزائريين العائدين من فرنسا إلى الوطن الأم، وكثير منهم التحقوا بصفوف الثورة، فقد لاحظنا من خلال الاحصائيات أنه في بعض السنوات يكاد عدد الجزائريين المهاجرين إلى فرنسا، يساوي عدد العائدين منها إلى أرض الوطن، ففي سنة 1954م كان عددهم يفوق 200 ألف نسمة أما في عام 1956م هاجر إلى فرنسا 85640 شخصا وعاد في نفس الوقت إلى الجزائر 81874.. وطيلة سنوات الحرب تقريبا، يكاد عدد المهاجرين يساوي عدد العائدين، لكن انخفضت في السنوات الخمسة، ولم يتجاوز عدد المهاجرين 93088 في أي سنة من 1956م إلى 1960م لأن هذه السنوات الحاسمة في تاريخ الثورة التي كانت الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين محركها الرئيسي الذي زوّدها بالطاقة الأساسية لمواجهة قوّات الاحتلال الفرنسي، ولكن عددهم بدأ يرتفع عندما أوشكت حرب التحرير الجزائرية على الانتهاء، وفي الحقيقة جاءت هذه الزيادة برغبة من الرئيس ديغول في إجراء محادثات سياسية مع قادة جبهة التحرير وإنهاء الحرب.. لقد كانت هذه السياسة تعني بالنسبة لعدد كبير من الجزائريين المتعاونين مع الإدارة الفرنسية اعتراف فرنسا بالأمر الواقع الذي يتمثل في إنهاء سيطرتها والاعتراف بحق الجزائريين في تسيير شؤونهم بأنفسهم، وبما أن العناصر الموالية لفرنسا قد ربطت مصيرها بوجود الإدارة الفرنسية في البلاد، فإن عددا منهم قرروا الهجرة إلى فرنسا في سنتي 1961م و 1962م. لذلك نجدها قلت خلال الجزء الثاني من الخمسينيات ولم يتجاوز عدد المتوجهين إلى فرنسا 100 ألف في أي سنة، وذلك نظرا لكون كثير من الشبان قد ربطوا مستقبلهم بمصير الثورة في البلاد إلا أن عددهم بدأ في تزايد مستمر وقد تجاوز 122 ألف نسمة قبل التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962م.
الــتعذيـب.. الــقتل والــنفي
كان مصير من يبقى في الجزائر تحت حكم سلطات الاحتلال، إما الاستعباد من طرف المعمّرين أو المطاردة إلى أعالي الجبال والمناطق البعيدة والمعزولة. وكان مصير المتشبثين بأرضهم إما القتل أو النفي، وكل ذلك من أجل إفراغ الأرض من أهلها ومن ثم إعمارها بالمستوطنين الأوروبيين. فالتهديد والتعذيب والطرد والقتل كلها وسائل مباحة ومتاحة للمحتل للقضاء على الأهالي المسلمين. أما عدد المبعدين الجزائريين عن أرضهم فهو 3 ملايين بحسب السلطات الجزائرية، وتمركز 2 مليون شخص وسط البلاد في المحتشدات إلى غاية 1962م. حيث استخدمت تلك الأساليب في الجزائر، وقد اشتملت على ما يلي:
التعذيب الممنهج وحتى ضد المدنيين، ونظام مراقبة للأحياء والضواحي (وضع أربعة مراقبين على كل حي)، والعمليات غير الشرعية من الإعدامات والاختفاءات القسرية التي عرفت فيما بعد باسم “رحلات الموت”.
وثقّت تلك الأساليب لتصبح قواعدا لاستراتيجيات مكافحة التمرّد، وذلك في الكتاب الذي ألفّه الكولونيل روجير ترينكيير (Roger Trinquier) سنة 1961م والذي أطلق عليه اسم “الحرب الحديثة: مكافحة التمرّد من وجهة نظر فرنسية”، وهو أحد المراجع في مجالي الحروب المضادة للثورات” والحروب النفسية.
وبالرغم من أن استخدام جمهورية فرنسا للتعذيب أصبح معروفا بشكل سريع حتى أن المعارضة اليسارية في فرنسا عارضته، إلا أن الدولة نفت باستمرار أنها توظف التعذيب في الحرب، كما منعت الرقابة في فرنسا أكثر من 250 كاتبا وصحفيا وفيلما في فرنسا متروبوليتان فقط من تناول تلك القضية، ومنعت كذلك 586 وسيلة إعلامية جزائرية تناولت الموضوع.
كان التعذيب يجري بأوامر من الحكومة الفرنسية، وهذا ما أكده الجنرال المتقاعد بول أوساريس.. جاءت تلك الاعترافات بعد الشهادة التي قدمتها الناشطة السابقة في جيش التحرير الوطني لويزة إغيل أحريز التي عذبتها القوات الفرنسية آنذاك. ونشرت شهادتها بتاريخ 20 جويلية 2000م في صحيفة لومند، وصرحت لويزة أنها تعرضت للتعذيب لمدة ثلاثة أشهر وذكرت أن المسؤول عن ذلك هو الجنرال ماسو باعتباره قائد القوات الفرنسية المسلحة حينها. واستغل ماسو تلك الفرصة ليعلن عن ندمه عن عمليات التعذيب التي كان من الممكن تجنبها.
اعترف الجنرال بول أوساريس في كتابه خدمات خاصة، الجزائر (1957-1955م) الصادر عام 2001م، أنه اشترك في عمليات التعذيب والإعدام غير الشرعية بأوامر مباشرة من الجنرال ماسو. كما صرح أوساريس أن التعذيب جاء بأوامر مباشرة من حكومة الرئيس غاي موليه لمواجهة ما سماه بـ«إرهاب الجبهة الوطنية”.
آثـار الـسـيــاسـة الاسـتـدمـاريـة عــلى المجـتـمـع
كانت لسياسة الاحتلال الفرنسي الممنهجة والمدروسة في الجزائر آثارا سلبية مدمرة مادية ونفسية على كل أفراد المجتمع الجزائري، حيث أدخلته في متاهات الفقر والمجاعات والهجرة، الكثير من الأهالي من فقد حياته وأملاكه وتعرضت عائلاتهم للطرد والنفي، بعد أن استولى المعمرون على أراضيهم الخصبة، وأصبحوا خدما خماسين لدى المعمرين في تلك الأراضي نفسها.
بفعل تلك السياسة الاستدمارية انخفض مستوى المعيشة للفرد الجزائري فلم يعد قادراً على ضمان قوته اليومي، وتدهورت أحواله الصحية نتيجة تفشي الأمراض والأوبئة وسوء التغذية، وتدهور وتدني المستوى التعليمي لدى الجزائريين.
إن كثيرا مما حدث في فترات ما بعد الاستقلال كان نتيجة حتمية للسياسة التي انتهجها الاحتلال الفرنسي في حق الأهالي الجزائريين، حيث مسّت جميع الجوانب، خاصّة السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
الحلقة الثانية