بن طوبال أحد القادة والمنظّرين الرئيسيين للثورة التحريرية ووزير الداخلية في الحكومة المؤقتة، ولد في مدينة ميلة سنة 1923، ونشأ في أسرة ريفية فقيرة، تلقّى تعليمه الابتدائي بمسقط رأسه وتعليمه الثانوي الذي لم يكمله بقسنطينة، وانخرط في حزب الشعب خلال الحرب العالمية الثانية، وأصبح عضوا نشطا في المنظمة الخاصة بعد تأسيسها عام 1947 لجأ إلى الأوراس بعد انكشاف المنظمة ثم رجع الى السمندو ومنها إلى القبائل، وعاش مطاردا يترقب موعد اندلاع الثورة. آمن بفكرة الاستقلال وضرورة استرجاع السيادة بالقوة، ولعل ذلك راجع إلى ظروف الحرمان التي عاشها والى فطرته السليمة، وهذا ما تشهد به شهادته، “أنا شخصيا انخرطت في الحزب، ومنذ صغري وأنا أومن إيمانا راسخا بأن هذا الحزب يتجاوب مع مطامحي، وهذا هو السبب الوحيد الذي جعلني أنظر إليه، وكنا نؤمن بأن السبيل الوحيد للخلاص من فرنسا.
لقد آمن بن طوبال أنّ الشّعب قد وصل الى مرحلة النضج والمبادرة لحمل السلاح، وأن الأحزاب بما في ذلك حركة الانتصار هي التي عجزت نتيجة أزماتها في تحقيق الغاية من النضال السياسي، وكانت تجربته ثرية في المنظمة الخاصة، وتحفل شهادته المقدمة عام 1981 بمعلومات ثرية، فهو يؤكّد أن انخراطه في هذه المنظمة العسكرية سمح له بمراجعة تفكيره السياسي ودروسه العسكرية عدة مرات، “وصرنا نتساءل وأحيانا كان يتسرّب إلى نفوسنا الشك، وكنا نقول أن الحزب قد اختار العناصر الثورية التي برزت في سنة 1948، وأدخلها في هذه المنظمة العسكرية لكي يشغل هذه العناصر، هل هذا الرأي صحيح ؟ لكن مع الأسف أكدت الأيام صحته ، وكانت مرحلة ما بعد اكتشاف المنظمة الخاصة قد فتحت أعين ابن طوبال ورفاقه على السياسة التي يمارسها الحزب بذكاء مصلحي فئوي”.
عاش بن طوبال في الأوراس ظروفا صعبة من المشقة والعزلة وهو ما أوضحه بقوله: وكنا منعزلين عن حزبنا وتعرضنا لضغوط أدبية ومادية لكي نيأس ونفشل ونترك الحديث على الثورة، وكانت التعليمات تمنعنا من التكلم في السياسة لأن الناس في الأوراس حسب زعمهم لا يعرفون المقاومة ضد الاستعمار”، كانت هذه حجة واهية في نظر ابن طوبال، الذي قضى 26 شهرا بالأوراس وتأكد من أن سكانه كانوا مستعدين، وبانتظار أوامر الحزب بالدخول في الكفاح المسلح، وجدنا الشعب قد سبقنا بخطوات أي سبق الحزب، ووجدنا في ذلك الوقت أن الحزب هو الذي كان متأخرا عندما كان يقول بأن الشعب ليس مستعدا.
وفي رأي أن هذا كان بسبب قلة إيمان الحزب بالشعب لأنّ الانفصال قد وقع بين القيادة والشعب، وقد كنا نعيش في المدن ولا نعرف حقيقة الوضع في البوادي.
وبذلك كانت الأوراس مدرسة لبن طوبال وأقرانه، اكتشف من خلالها طبائع الشعب الجزائري خاصة في الريف، وحقيقة استعداده للثورة وضرورة انتهاز الفرصة لإعلان الثورة، في هذه الظروف رفض بن طوبال بشدة مقترح الحزب الذي بلغه المرحوم بوجريدة للمناضلين بالاستسلام للشرطة الفرنسية، وفضل خيار الهجرة الى الخارج، كان بإمكان بن طوبال أن يصبح مناضلا سياسيا بالخارج، لكن كتب له أن يبقى متخفيا بجبال الأوراس والسمندو والقبائل إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية.
وقد كانت أزمة الحزب مناسبة لبروز تيار قدامى المنظمة الخاصة كما يوضح ابن طوبال، كنّا نقف منها موقف الحياد ولا نحمل مسؤولية هذا الانفجار على أحد من طرفي النزاع سواء مصالي أو اللجنة المركزية، وإنما كنا نعتبر أن القيادة بطرفيها كانت هي الخاسرة، ولم نختر الانحياز إلى أحد الطرفين وهو ما قمنا به فعلا”، وكان بن طوبال يجتمع حول زيغود ويشكل مجموعة متماسكة من قدامى المنظمة الخاصة، سوف يكون من السهل انحيازها للتيار الثوري الذي فجر الثورة.
المشاركة في تحضير وقيادة الثّورة
حضر بن طوبال اجتماع الاثنين والعشرين التاريخي رفقة زيغود وابن عودة وباجي مختار، ومن بين ما سجّله عن هذا الاجتماع أنّه حصل الإجماع فيه على الانتقال إلى مرحلة العمل المسلح وانتخاب منسق وطني لاختيار قيادة، وخلاله لم يطرح مشكل السلاح والتموين كأولوية حسب بن طوبال، لأن كل واحد كان يعرف أن الآخر لا يملك سلاحا، وجاءت مرحلة تجسيد هذا القرار التاريخي فتوجهت قيادة الشمال القسنطيني إلى الميدان، وبرز دور بن طوبال جليا، حيث ذكر في إحدى شهاداته ما كان يشغل باله قائلا: “وعندما اتخذنا القرار، قرار إعلان الثورة توجه كل واحد منا لمنطقته واستعمل وسائله الخاصة، وما أذكره حسب تجربتي الخاصة أننا في ذلك الوقت لم تكن مسألة السلاح من بين الأمور الصعبة التي كانت تواجهنا، لأنّنا لم نكن نفكر في فتح جبهة مواجهة قوات العدو، إذ لم يكن الحصول على السلاح هو المسألة الصعبة، إنما المسألة الصعبة حقيقة هي مسألة الحرب بيننا وبين أنفسنا، هل أنّ الإخوان الذين عاهدونا بأن يسيروا معنا سيثبتون ويطلقون الرصاصة الأولى أم لم نكن متأكّدين من أنه عندما نشرع مع هؤلاء الإخوان في خوض المعركة المسلحة في أول نوفمبر في تلك اللحظات القصيرة الحاسمة باستطاعتهم أن يتجاوزوا تلك اللحظة التاريخية، وهكذا كنا في حرب مع أنفسنا، هل نقبل الموت أو نفر منه؟”.
ويؤكّد بن طوبال على أهمية خطوة تفجير الثورة في إنجاح الثورة، وذلك باعتبار أن ذلك كفيل بدفع الشعب لاحتضان الثورة وإنجاحها، عندما اجتزنا مرحلة الانطلاقة أدركنا أننا سننجح لأنه إذا انطلق الرصاص في أول نوفمبر في الجزائر بأسرها فإن الأمر يصبح عندئذ سهل لماذا؟ لأنّ الحركة الوطنية لم تكن في المدن فقط بل كانت في البوادي كذلك، فقد دخلت البوادي ويعني أنها دخلت لدى الشعب الحقيقي فالأوراس وحده كانت قسمتها عندما غادرناها تضم ألفين وأربعمائة مناضلا، وكانت قسمة سكيكدة تضم ألفين وستمائة مناضلا، والقسمة ليست الدائرة، ولم تكن مشكلة الأكل عندما نخرج من المدن مطروحة، فالمناضلون في البوادي كانوا على أهبة الاستعداد للقيام بذلك.
وعندما انطلقت الرصاصة الأولى، وما كنت أفكر فيه في الولاية التي كنت موجودا بها هل انطلقت هذه الرصاصة في الولايات الأخرى لأن الاتصال كان غير موجود بيننا، بحيث كان الاتصال الوحيد بيننا هو بواسطة الجرائد الفرنسية أو الإذاعة...وكان فرحنا شديدا عندما سمعنا بأن كل الجزائر قد ثارت وسارت في طريق الكفاح وعمتها الثورة.
وقد كان بن طوبال في مستوى تحدي إنجاح تفجير الثورة، تولى مسؤولية قيادة ناحية ميلة والميلية، وبذل جهودا كبيرة في تحضير الأفواج للعمليات التفجيرية، في الميلية كانت الانطلاقة ناجحة كما يشهد على ذلك مسؤولو المنطقة المحليين، وفي ميلة تسعفنا شهادة العربي بلرجم الميلي في الإحاطة بظروف تفجير الثورة، حيث يذكر أنّ فوج ميلة المشكل من 16 مجاهدا كان يقوده بن طوبال، وأن التحضيرات كانت شاقة وعصفت بها خلافات المسؤولين أنفسهم، وأن بن طوبال كان مقربا من زيغود وبن عودة، رجع إلى ميلة بالتعليمات التي جاء بها ديدوش من العاصمة، ولكنه وجد صعوبة في الاتصال بفوج ميلة كما يذكر بلرجم، وقد اجتهد هذا الأخير في ربط الاتصال به بعد أن اعتقد بن طوبال أن الجماعة تخلوا عن الثورة، ولكنه الحمد الله بعد أن أدرك أن الأمر يتعلق بانعدام الاتصال، كانت أفواج ميلة والميلية في موعد تفجير الثورة، وكان بن طوبال حكيما في تسيير هذه الناحية، فقد كان متفهما للظروف وعطوفا على جنوده من جهة، وصارما حريصا على النظام من جهة أخرى.
أخذ بن طوبال تعليماته من قائد المنطقة ديدوش مراد، كان تصور هذا الأخير للثورة واضحا، ينبغي بعد العمليات التفجيرية للثورة التفرغ للعمل السياسي وزرع خلايا الثورة في الأرياف ثم المدن ولا يمكن خوض العمليات العسكرية في نظره خلال هذه المرحلة إلا في حالة الضرورة، لأن ذلك يفقد الثورة ملاذها الآمن بين السكان ويخرجها إلى مجابهة غير متكافئة، كانت حرب العصابات إذن هي إستراتيجية العمل الثوري لابن طوبال حسب شهادات المجاهدين، وقد أظهر بن طوبال ورفاقه حنكة في مواجهة الظروف الصعبة التي واجهت الثورة في أشهرها الأولى، والتي كان من ملامحها سلسلة ملاحقات الثوار المدروسة، والتي كشفت إحداها موكب مراد ديدوش وقضت عليه في 17 جانفي 1955 بالسمندو.
وإثر استشهاد ديدوش وتولي زيغود قيادة المنطقة، اعتمد بن طوبال مساعدا رئيسيا لقائد المنطقة إلى جانب مسؤوليته على ناحية ميلية والميلية، وسمحت خبرة هذا المسؤول ونجاحاته بانتشار الثورة على نطاق واسع بهذه الجهة، وقد كان ثوريا مثل زيغود لازمه طويلا وتقاسم أفكاره، وقد وافقه على مخطط الهجومات الكبرى، والهادفة إلى تأكيد حضور الثورة في وجه السياسة الفرنسية الساعية لقبر الثورة في مهدها بالشمال القسنطيني، كان بن طوبال يحضر الاجتماعات التي ترسم استراتيجية العمل الهجومي ويعود لتنفيذ هجماته في نواحي ميلة والميلية، وافق ابن طوبال زيغود على شن هجمات يوم الثامن ماي 1955، للرد على العدو وإشعار الجماهير باستمرارية الثورة في يوم تاريخي. وجاءت ذكرى احتلال الجزائر في 5 جويلية 1955 ليخطّط زيغود وابن طوبال لهجمات مماثلة، ومهد هذا لهجمات 20 أوت 1955 التي كانت لها أبعاد محلية ووطنية ودولية.
20 أوت 1955..يوم الفصل
نضجت فكرة الهجمات في ذهن زيغود يوسف خلال جوان 1955، وبدأ يعد جديا لتنفيذها في الشهر الموالي، حيث وجّه الدعوة لمسؤولي المنطقة لحضور اجتماع بمنطقة بوسطور” قرب سيدي مزغيش، ولدواعي أمنية غير مكان الاجتماع إلى منطقة “الزمان” ببلدية محمود بوشطاطة حاليا، بدأ الاجتماع أشغاله يوم 23 جويلية 1955 ، واستمر إلى نهاية هذا الشهر، تدارس المجتمعون خلاله الوضعية العامة للثورة بشكل عام وبمنطقة الشمال القسنطيني بشكل خاص، وأكد خلاله زيغود ضرورة الخروج بالثورة من المأزق الذي وصلت إليه، وإثبات قوتها وشموليتها بعمل باهر، وطرح فكرة تنظيم هجومات شاملة على مدن وقرى الشمال القسنطيني يوم 20 أوت 1955، يشارك فيها المجاهدون والمواطنون جنبا إلى جنب وبالإمكانات المتوفرة.
وقد آمن بن طوبال بأهمية الخطوة واستعد لإنجاحها، وكان مساعده العربي بلرجم حاضرا عندما أعطى زيغود الأوامر لبن طوبال وبعد عقود قدم لنا شهادة في ملتقى كتابة تاريخ الثورة التحريرية عام 1981 تثني على جهود وحكمة بن طوبال في تنفيذ هذه الهجمات، فهو يقول: وبمجرد وصولنا إلى الجهة شرعنا في التخطيط بحضور المسعود الطاهيري، وكذلك سي مسعود بوعلي، تمت العملية تحت رئاسة بن طوبال، بعد تخطيط سليم جدا، وأقول التخطيط سليم لأن سي عبد الله بن طوبال حكيم وحكيم جدا، ولا ألقي له الزهور وإنما هي الحقيقة”.
وقد تولّى بن طوبال مسؤولية قيادة الناحية الأولى التي تمتد من سوق الاثنين غربا إلى وادي الرمال شرقا وتصل إلى ميلة والعلمة وسطيف جنوبا، وكانت الهجمات ناجحة في هذه الناحية، ففي جهة الميلية شنت عدة هجمات على مشارف المدينة بهدف السيطرة عليها ، وقد نجح كمين المجاهدين في الإيقاع بحاكم الميلية العقيد “رينو”، ونصب كمين آخر في طريق حمام بني هارون. كما وقعت عدة هجمات على مراكز العدو بجهة جيجل، ومنها الهجوم على الطاهير، وكذلك الحال في منطقة ميلة التي كانت مركز قيادة ابن طوبال وتذكر شهادات المجاهدين أن ابن طوبال قاد بنفسه معركتين في “أرقوا” و«بادسي”، مكّن الانتصار فيهما من تحرير أول منطقة مستقلة في تاريخ الثورة اتخذها ابن طوبال مركزا لقيادة منطقة الشمال القسنطيني.
الحلقة الأولى