اهتمت الصحافة الاسبانية بمجازر الثامن ماي 1945، التي مالت في تحليلها في البداية إلى الطرح الفرنسي، وبنت كتاباتها على ما نشرته الحكومة والصحافة الفرنسية، وخاصة صحف اليسار مثل جريدة لومانيتي، لكن بسبب الضغط الذي مارسه الحلفاء على نظام الجنرال فرانكو عدلت الصحافة الصادرة بمدريد أو في غيرها من أراضي شبه الجزيرة الإيبيرية، نظرتها وتعليقاتها وتغطيتها للمجازر.
سلط الدكتور عبد الناصر عمر من قسم التاريخ بجامعة قالمة الضوء في دراسة بعنوان «مجازر 8 ماي 1945 في الجزائر من وجهة نظر ثلاث صحف اسبانية أ، ب، ث ABC بنسختيها المدريدية والإشبيلية، أوفينسيبا Ofensiva نصف الأسبوعية التي تحولت في الخمسينيات إلى يومية، والجريدة الثالثة لا بانغوارديا إسبانيولا La Vanguardia Espanola الصادرة ببرشلونة، على جميع ما كتبته الصحف الإسبانية عن سير المجازر وتبعاتها.
يقول الباحث إن جميع الصحف الاسبانية أشارت إلى مجريات أفعال الرعب العسكري الذي عاشه الجزائريون، ابتداء من 1 ماي 1945، إلى يوم الثامن من الشهر نفسه واستمر لمدة شهر كامل بمدن سطيف، قالمة، وخراطة وغيرها.
ويضيف: «صدر في الصحيفة الأولى أول نبأ عن المجازر يوم 13 ماي، وذلك نقلا عن مراسل وكالة إيفي EFE من باريس، ويعود هذا التأخير في انتشار الخبر حول ما يجري في الجزائر إلى الحصار الذي فرضته السلطات الاستعمارية وغلاتها في الجزائر، بحجبهم للعمل الإجرامي الممارس في سطيف وقالمة وخراطة، وغيرها من المناطق أثناء مواجهة آلة الحرب الفرنسية للمظاهرات السلمية التي قام بها الجزائريون».
ويشير إلى وصف البلاغ الاستعماري الصادر عن الحكومة العامة الفرنسية في الجزائر يوم 10 ماي تلك المسيرات المطالبة بحقوق الجزائريين في السيادة والتحرر بالأعمال الهتلرية. جاء عنوان بلاغ الحاكم العام صياغته كالآتي: «في سطيف، عملية فاشستية يوم عيد النصر»، ومضمون تلك النشرية الاستعمارية التي لفقت التهم للجزائريين من أجل إخفاء جرائمها ارتبط بالأضاليل التي اعتادت ترويجها السلطات الاستعمارية.
وفي يوم غد 12 ماي أوردت نفس الصحيفة في طياتها مقالا بعنوان: «بعد أحداث سطيف، إلى أين سنذهب بالجزائر». أول خبر نشر في اسبانيا عن مجازر 8 ماي بالجزائر كان مصدره الرئيسي وكالة إيفي، ورد في جريدة أ.ب،ث A .B.Cفي شكل نص صغير، لأن وكالة الأخبار الإسبانية لم تأخذ بما روجته صحيفة لومانيتي.
ويوضح الباحث أنه ذلك نظرا لموقف الجنرال فرانكو ونظامه من الشيوعية ووسائلها الدعائية، فحمل نص الخبر المغالطات التي نشرتها الحكومة العامة الفرنسية في الجزائر، عما وقع في مدينة سطيف قبل بضعة أيام.
الخبر الذي نقلته صحيفة أ. ب. ث A.B.Cالإسبانية كان نقلا عن وسائل الإعلام الفرنسية في باريس، إذ حمل عبارات لم تفصل شيئا في سير المجازر بعد خمسة أيام من بدايتها، بل مجرد دعاية روجها الحاكم العام الفرنسي ووسائل الإعلام الاستعماري، الذين فرضوا تعتيما إعلاميا حول تلك المجازر.
وأشارت الصحيفة إلى أسباب المجازر والمسؤولين عنها، وأكدت على التعتيم والتضليل الإعلامي الذي سوقته أجهزة الدعاية الفرنسية، وتناولت تطور المجازر.
يقول الباحث بجامعة قالمة: «بمرور بضعة أيام عن بداية المظاهرات، وما تبعها من قمع وحشي من طرف السلطات الفرنسية، انتشرت أخبارها ووقائعها في فرنسا خاصة، وذلك بناء على ما نشرته صحف الحزب الشيوعي الفرنسي، وعلى رأسها جريدة لومانيتي حول ما يجري في الجزائر من إجرام وأعمال عنف».
ويضيف: « الأمر الذي جعل الإعلام الإسباني يسعى للتعرف عن قرب على حقيقة ما يجري في الجزائر، إذ أوفدت وكالة إيفي مراسلا لها إلى الجزائر، ونفس الأمر اهتمت به جريدة أ. ب. ث التي أوفدت مبعوثا لها إلى باريس حيثما أعطى للموضوع أهمية».
نشرت هذه الصحيفة الإسبانية ثاني مقال لها عن المجازر التي عرفتها الجزائر في 23 ماي 1945، لكن بنظرة جديدة مخالفة تماما لما جاء على لسانها قبل عشرة أيام، فوكالة إيفي أوفدت صحفيا لها إلى مدينة الجزائر.
كان يرسل تقاريره إلى مدريد، عنونت وكالة إيفي نصها الإخباري عن الأوضاع في الجزائر بـ «الأحداث ما بين الأوروبيين والوطنيين الجزائريين لها أهمية خطيرة Los sucesos entre europeos y nacionalistas argelinos tienen grave importancia.
ويشير الباحث في تحليله إلى الاعتراف الضمني من طرف محرر هذا المقال بالواقع الاستعماري في بلادنا، وذلك من خلال إشارته إلى وجود أوروبيين ووطنيين جزائريين. وقال: « نص إيفي الوارد من مدينة الجزائر قبل يوم من نشره في صحيفة أ. ب. ث بعدديها الصادرين في كل من العاصمة مدريد وفي مدينة إشبيلية،.. إذ أكدت الطبعتان على استمرار الأعمال الدموية في الجزائر، أشارتا إلى كل من بلاد القبائل، سطيف، البليدة، و قالمة بين الوطنيين الجزائريين والأوروبيين».
ذكرت الصحيفة بعدد الضحايا الذين حددتهم بثلاثة آلاف قتيل في صفوف المستوطنين، وعشرة آلاف قتيل في صفوف الجزائريين الذين وصفتهم بالأهالي Indigenas.
وبعد التضخيم في عدد ضحايا المستوطنين، أبرز الصحفي السبب الرئيسي لكل تلك الاضطرابات، بحسب وصفه، إذ أكد على رغبة العناصر الوطنية الجزائرية في التحرر، وكذا الأوضاع المزرية التي يعيشها الجزائريون جراء حالة المجاعة المنتشرة في صفوفهم، أوضح الدكتور عبد الناصر.
وتحدث الصحفي عن استعمال فرنسا كل إمكانياتها العسكرية من القوات البحرية والجوية والبرية، فقد قصفت البحرية الفرنسية سواحل بجاية في الوقت الذي قنبلت فيه الطائرات أقاليم قالمة، وسطيف واللفيف الرابض في نواحي سيدي بلعباس، فقد تم تحويله إلى مناطق الصراع في مقاطعة قسنطينة التي ظلت منقطعة عن أي اتصال.
وتطرقت صحيفة أوفينسيا نصف أسبوعية التي كانت تصدر في مدينة كوينكا Cuenca شرق مدريد، إلى المجازر التي وقعت في الجزائر ما بين شهري ماي وجوان 1945والتي أسمتها بالأحداث، ورد فيها أول خبر عن تلك المجازر يوم 13 ماي.
جاء تعليقها في خبرين رئيسيين مصدرهما وكالة إيفي فالأول ورد بعنوان «أعمال شغب دموية في المغرب الفرنسي، وأسفله عنوان فرعي يتحدث عن تأسيس منظمة تطالب باستقلال الجزائر.
تقول الصحيفة: «في الجزائر لقي حوالي خمسين شخصا حتفهم في مختلف المناطق بناحية قسنطينة الجزائرية، وذلك نتيجة لأعمال الشغب المرتكبة في يوم 8 (النصر)، الشرطة أعادت النظام وألقت القبض على القادة».
في 3 جوان من نفس السنة صدر في أوفينسيا مقال آخر مصدره وكالة إيفي من مكتبها بمدينة طنجة في شمال المغرب الأقصى بعنوان رئيسي «كذلك في الجزائر También en Algeria ، وأشار المقال إلى حالة الاحتقان الشديدة السائدة في أوساط الشعب الجزائري، الذين وصفتهم بالأهالي وأشارت إلى الغليان الكبير، وازدياد الأعمال المعبرة عن رفض الواقع السائد.
صحيفة لابانغوارديا إسبانيولا نشرت الخبر كغيرها لأول مرة في 13 ماي 1945، وهو النص الوارد من وكالة إيفي ولم تحدث فيه أي تغيير.
جاء الخبر في الصفحة المخصصة للعالم الخارجي بعنوان: «في إفريقيا الفرنسية الوطنية في الجزائر En El Africa francesa - Nacionalismo en Argelia ، وكاتبه هو العسكري السابق توماس غارثيا فيغيراس الذي يوقع كتاباته الصحفية باسم مستعار هو بيال دي مورلا.
بدأ دي مورلا مقاله بـ « تعلمون قراء لبانغوارديا ما المقصود بالأحداث الخطيرة التي حصلت بمقاطعة قسنطينة في الجزائر، بلغت ذروة أحزانها بمجازر خطيرة في سطيف خلال النصف الأول من شهر ماي الفارط، وكنتيجة لها واخذين بعين الاعتبار بأن الجزائر مقاطعة فرنسية قررت حكومة ديغول وبعد سماعها لملف الحاكم العام للجزائر إيف شاتينيو، إرسال وزير الداخلية أدريان تيكسييه حتى يقوم بتحقيق عن أسباب ونتائج تلك الأفعال «.
بعد ذلك انتقل إلى سرد الإجراءات الفرنسية التي تبعت ذلك، متحدثا عن القرارات التي اتخذها الجنرال ديغول لفرض سيادة فرنسا من جديد على الجزائريين، والأهم فيما ذكره بيال دي مورلا هو تأكيده على وقوع مجزرة في سطيف ونواحيها.
أرجع دي مورلا السبب الرئيسي للمجازر للانحلال السياسي الداخلي الفرنسي قال : «كل هذا النزاع الشرس والصغير الطموحات يعد عملا هداما للسكان الأهالي المسلمين.. الشعب الجزائري ومن خلال هذه الحملة الممنهجة.» وأضاف: « الانفعالات ذات السمعة السيئة والنزاعات الضارية تخضع لرقابة السلطات، للملاك الكبار، للتجار، للمزارعين وينظر إلى الجميع على أنهم مضاربين في الجوع السائد ومنع العامة من أي نظام.. إنهم يتحدثون (المسلمين) عن القضاء بالقوة على الذين يقومون بذلك «.
يؤكد الدكتور عبد الناصر أن تعامل الصحافة الإسبانية مع المجازر، تطور ما بين 13 ماي 1945 و3 أوت 1945، لعدة معطيات تعود إلى موقف كل طرف من الآخر فرنسا -إسبانيا خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، والحرب العالمية الثانية.
ويشير إلى أن تغطية مجازر 8 ماي 1945 من طرف الصحافة الإسبانية، اعتمد في البداية على وكالة الأخبار الإسبانية «إيفي» وكانت في شكل فقرات مقتضبة مصدرها الأساسي وسائل الإعلام الفرنسية.
ويضيف: « تشديد اللهجة تجاه فرنسا، بدأت حينما بلغت مدريد أخبارا بأن الإدانة الدولية قائمة لا محالة للدكتاتورية الفرانكفونية التي وصلت إلى الحكم بمساعدة النازيين والفاشيين».