أرّخت الأغنية الشعبية الثورية لمعاناة الجزائريين إبان الاحتلال وللمعارك ولحياة المجاهدين في الجبال وبطولاتهم في سبيل تحرير الوطن.
عرّفت الأغنية الشعبية الثورية ببعض قادة الثورة ومجاهدين وشهداء، وكانت النساء من أكثر الفئات التي حافظت على هذا الموروث التاريخي بترديد الأغاني، قبل وبعد الاستقلال.
يؤكد الباحثون على أن الأغنية الشعبية الثورية مصدرا مكملا للوثيقة الأرشيفية لكتابة تاريخ الثورة.
اختلف باحثون كثر في تاريخ نشأة القصيدة الشعرية الشعبية. أطلقت كتابات عليها تسميات منها “الزجل”، “الملحون” و«الشعبية”، لكن الأكثر شيوعا هي الشعبي، وهو إبداع شفوي.
يُطلق هذا النوع من الشعر على كل كلام منظوم من بينة شعبية بلهجة عامية، تضمنت نصوص التعبير عن وجدان الشعب وأمانيه ومتوارث جيل عن جيل عن طريق المشافهة.
ويعرف الباحثون الأغنية الشعبية على أنها شكل فني أدبي له صدى كبير في الأوساط الشعبية، ارتبطت بحياة الشعب وتغنت بقيمه الروحية والأخلاقية، ولكل شعب أغان، خاصة به تعكس هويته وتشكل تراث المنطقة.
تعتبر الأغنية الشعبية نمط من أنماط التعبير الشعبي، تؤدي وظيفة خاصة في حياة الشعب، وتختلف عن سائر أشكال التعبير الشعبي لأنها تؤدي عن طريق الكلمة واللحن معا.
حافظت الأغنية الشعبية على العادات والتقاليد والمعتقدات الخاصة بالجماعة الشعبية، بتناقلها شفهيا من جيل لآخر، حاملة معها كم هائل من الموروث الثقافي الخاص بالجماعة الشعبية عبر الزمن.
يُعرفها شوقي ضيف بأنها تصدر من قلوب شعوبها، ومن أفئدتها في مختلف العصور فهي دائما تصور حياتها وآمالها وآلامها، هي صورة لمشاعر الشعب وحياته الاجتماعية والسياسية والدينية.
نماذج للأغاني الثورية
خلدت الأغاني الثورية مجازر 8 ماي 1945 في الشعر الملحون لولاية ميلة خلال الفترة 1954-1962 للشاعر محمد السعيد خليفة:
في 08 ماي خرجنا نطالب بالميعاد.. 45 ألف جرحى في قلوبنا غارسة
حرقوا القرى وقتلوا العباد.. قتلوا حتى المرأة اللي كانت نافسة
أرعد الرعد واحمل الواد.. وحرك كل العقول اللي كانت حابسة
وقصيدة أخرى بعنوان معقل الثوار :
في الخامس والأربعين.. صاروا معجزات
في سطيف وقالمة.. فالشاو بذات
بني عزيز وخراطة.. بكل ثبات
فرجيوة تألمت وبكات.. كانت البداية بحراس الغابات
من كيد الأعداء.. قاموا بالتضحيات
عمار مروج.. ورجال أذكياء
وفي قصيدة أخرى..
بكات العين ودموعها سالت بالدم.. يوم ما رخست وهانت لعمار
شافت صبيان تبكي وتتألم.. والأب المذبوح أمام البصار
الأخ المفقود بحالو ما تعلم.. والأم الحنون في يد الجزار
مربوطة بسلاسل ما عندهاش الفم.. صابرة لحكم الله وتسنى لقدار
هذا حال المظلوم في يد الظالم.. وحال المحكوم في يد الاستعمار
يقدّم الدكتور عبد اللطيف حني من جامعة بن جديد الطارف في دراسة بعنوان “دور الأغنية الشعبية الثورية في بناء الهوية الوطنية دراسة سوسيولوجية بمنطقة الطارف”، نماذج من الأغاني الثورية المتوارثة في المنطقة، والتي كانت تلهب الحماسة والوطنية ورسخت الهوية وساهمت في بلورة الفكر الثوري، ونقلت صورا حية عن جرائم الاستعمار ومعاناة الجزائريين.
أغاني مجهولة المؤلف
وعثر الباحث حني على مجموعة من الأغاني الشعبية مبعثرة في شكل مقطوعات يتداولها السكان شفهيا، مجهولة المؤلف مع اختلاف طفيف في بعض الألفاظ الواردة في النص، بسبب عامل النسيان والتحريف.
يقول الباحث إن الشاعر الجزائري اكتوى بنار الثورة وتفاعل مع أحداثها، وأنتج شعرا خلد فيه ذكريات وأيام الكفاح المرير ضد الاستعمار، وصاغه على شكل أغاني شعبية، يسجل الأحداث ويصور المعارك ويظهر شجاعة المجاهدين، ويتفاخر بالعلم الوطني وألوانه، يؤدي الأغاني بطريقة تلقائية وعفوية.
ويؤكد: “أن نصوص فترة حرب التحرير اعتبرها الباحثون في الأغنية الشعبية وثائق تسجيلية، أي أنها عبارة عن بيانات عسكرية وسياسية واجتماعية، وأحداث منطقة القاعدة الشرقية إبان الثورة تقدم لنا حقائق هامة قد لا نجدها في غيرها من النصوص”.
ويشير الدكتور حني أن الأغنية الثورية الشعبية بمنطقة الطارف، تناولت مواضيع مختلفة تؤكد على الهوية الوطنية، أبرزها التعريف بالمجاهدين والأمكنة والأزمنة التي جرت فيها الأحداث والمعارك الثورية، والسلاح المستعمل من كلا الطرفين، وحددت موقف الجزائريين من الموالين لفرنسا من بني جنسهم وغيرهم.
ويذكر جملة من الأغاني الثورية منها:
الجندي الطويل الطويل .. ومحزم على القشابية
هو يحارب عالدين.. والكافر عالشهرية
ويبرز أن الأغنية الشعبية الثورية كرست مفاهيم الشجاعة، الحرية والخيانة، تأثر بها معظم الشعب الجزائري خلال الثورة.
وثمنت الأغاني الشعبية المجموعة بمنطقة الطارف، قيمة التضحية من أجل تحرير الوطن والإشادة بالجهاد والشهادة أثناء الثورة، تجلت هذه القيمة في صورة الشهيد الذي أخذ حيزا هاما في الأغنية الشعبية الصورية بالمنطقة، لما عانته من تقتيل.
وهنا الأغنية تبرز ذلك:
أي قداش نفكر.. فالجزاير عادت حية
دم الشبان يقطر.. وامبزع في كل ثنية
صورة المجاهد في الأغنية الثورية وتجسدت في القصيدة
نطلع لجبل نموت وما نرنديش.. الله الله ربي رحيم الشهداء
وتحدث المغني عن المجاهد بن سالم وبطولاته وشجاعته، يصفه بالفارس المغوار في المعارك.
حذر يا بن سالم أنا أخيك مسكين.. راكش في شعبة وجنود وخمسين
أو كيجاهم بن سالم رتلهم ترتيل.. وينك يا بن سالم فداي الثار
انصبت لبياسة وشعلت النيران.. ع ناحية بن سالم قطع السيلان
ومن بين المجاهدين الذين تغنت بشجاعته الأغنية الشعبية سي علاوة :
سي علاوة راجل حرسي.. داير حكومة في جبل الكرسي
وما حكم غير القومية.. سي علاوة يا مسكين.. وتحرم تهز السكين
وفي مقطع آخر يصف مجاهدي المنطقة:
الطاهر معروف مجاهد ميحسبش الموت.. قسمها طروف طروف وذبحها وفك امكحلها
مجمد الصنم واحكم الكفرة في لكتم.. وذبحها وفك امكحلها.. صالح بوخميس خلاها كغمار الديس.
وصفت الأغنية الشعبية مطاردة المجاهدين بواسطة الدبابات والطائرات وظروف إلقاء القبض عليهم، وحالة الهول والفزع والحزن السائد آنذاك، ونوعية الطعام الذي يتناوله المجاهدون:
الصبة والخبز الراشي.. والسيما باردة مخلية
كي جبنا على بوحجار.. والخبز محروق حرقان.. والصبة الباردة دونية
ومقطع آخر:
يا أنا نخمم تخميما.. وإرقادي في النشعة ديما
ماكلتي كسرة قديمة.. حرقتها لغزوز بالنار
ومن بين مظاهر معاناة المجاهدين قلة الأسلحة ويظهر في:
اتحرمت القافلة وامشت .. وللشرق أم طلبوا الرخصات
يا ربي إيكون فالحيرات.. وإحنا جملة مصحيين
يا ربي وأنا كيفاش اندير.. القوة كثيرة والكرتوش قليل
وفي مقطع يصف معاناة المجاهدين في جبل بوحجار:
في جبل بوحجار كي تقلب الريح.. أوكي تقلب الريح.. الخاوا أم هنا أولخرين أمجريح
وأغنية تصف كيفية إلقاء القبض على أحد المجاهدين تقول:
أدوني لعين لغسل ومكتفيني بحبل
لميما لا خويا إطل مفاتيحها عند الرومية
وفي مقطع آخر يصف كيفية تعذيب المجاهدين:
كي جبنا على سوق أهراس.. وضرب فرنسا لراس
ضربونا بين العينين.. والقلب راهو حزين
تقطع فينا من ذرعينا.. تعلق فينا كالبوشية
ويثني في أغنية على العلم الجزائري بالقول:
الحب فيك دينور.. شاركنا في الوطنية
دافع عالدرابو المنصور…تاع الدولة الإسلامية
وصورت مدى تعلق الجزائريين بعلمهم في هذا المقطع:
درابونا نجمة وهلال.. تقوموا بيه نسا ورجال
وإذا ما كفناش الحال.. نخلوا التاريخ للدريا
وأغنية أخرى:
علمنا أخضر وحرير.. لا حاتو العكري في البير
تقوموا بيه كبير وصغير.. احنا اللي نجيبو الحرية
تغنت الأغنية الثورية في بدايتها بتوظيف المصطلحات الدينية، والافتتاح بالبسملة لتقوية عزيمة المجاهدين، وتستخدم للتضرع بالدعاء لحماية المجاهدين من كيد العدو.
يا ذراري المجاهدين.. يا لي جيتوا لجبل لوراس
نطلب ربي ومحمد.. يمنعكم من ضرب الرصاص
الجزاير أرض الجدود.. وأنت وين رايح يا معبود.
وتحدثت إحدى الأغاني عن الخونة وتفرنسهم :
ما تربح يا لي مفرنس.. منجوس ومفرنس
أصلك العربي خليتو.. ورحت للقاوري تبعتو
ما ينفعك يوم الحساب.. خير الخير مع الحباب.
وتعرضت الأغنية الثورية إلى أعمال الخونة ومواقفهم الدنيئة، وتصفهم في أغنية بالقومية:
إزهاو إزهاو يا القومية…واضربوا لبندير
طيشتو درابو الجزاير.. أو قلتو فرنسا خير
تحدثتو بالقاورية ديما.. وهذه خصلة منكم عديمة
طيشتوا درابوا الجزاير.. وتبعتو ديغول
وأغنية تحذر نساء الخونة بعد استرجاع السيادة الوطنية وطرد العدو ومعه الخونة ونسائهم وأبنائهم:
يا نسا القومية.. ديرو لملايات
انهار تروح فرنسا.. يسرحوكم بالمعزات
وفي أغنية أخرى يصف صاحبها ويروي كيف مارست فرنسا عليه كل أنواع الاضطهاد والتعذيب.
وأغنية أخرى تصف معاناة الأم عند فراق ابنها وذهابه للجهاد:
ما نزكيش عروس.. وما نديش القاطو
نحزن على ولد أما.. لي دفنتو بيديا
والأغنية المشهورة التي يعرفها الجزائريون، وفيها حزن وألم شديد لأخت على فراق أخيها وتتوعد بعدم الزواج حزنا عليه:
خويا فارح بالدنيا.. ويلا دارت بيه
وسي يالميمة وسي ما تبكيش
وليدك مجاهد رايح ما يوليش
الطيارة الصفراء .. احبسي ما تضربيش
أنا عندي فرد أخي.. لميمة ما تضنيش
وفي دراسة أخرى للدكتور غيلاني السبتي من جامعة باتنة01 بعنوان “الأغنية الشعبية الثورية الأوراسية مصدرا شفهيا مكملا لأحداث الثورة التحريرية 1954-1962″، نجد تعريفا بإحدى المصادر التاريخية لتدوين أحداث الثورة وهي الأغنية الشعبية الثورية، التي أدت دورا لا يستهان به في تأجيج أحاسيس الشعب الجزائري، ودعوتهم للإلتحاق بمعاقل الثورة كمجاهدين، ودعمهم بالمؤونة والأسلحة.
يقول الباحث أن الأغنية الشعبية في الأوراس عبرت عن معاناة الشعب الجزائري في المعتقلات والسجون ووصفت الأسلحة الفتاكة التي كان يستعملها.
وتصف الأغنية الثورية المرأة الأوراسية في المعارك.
يا دليلة يا للي جات من بوزينة.. الجزاير راهي لينا يا ديغول روح أخطينا… دليلة بنتي أعطيني البندير انقصر.. لحقتني لجيب مليانة عسكر.. لاحوني في السجن يا ربي واستر
ما تبكيش يا لعجوز.. ما تبكيش ولدك شهيد.. تبكي أميمه القومي.. اللي سينيا وولي رومي
ووصفت فظاعة السياسة الاستعمارية من خلال مصادرة أراضيه وتجويعه وتشريده، وتمكين طبقة المستوطنين الأوروبيين الذين استقدمتهم فرنسا من الهيمنة على الاقتصاد الجزائري.
ويؤكد الدكتور غيلاني أن هذا النوع من الشعر تأثر بالنضال والكفاح المسلح في الجزائر منذ احتلالها وظف الشاعر والراوي هذا النمط الثقافي الشعبي، لخدمة أهداف المقاومة والثورة وإيقاظ ضمائر الجماهير الشعبية وتجنيدها للدفاع عن القضية الوطنية، ووقف بالكلمة إلى جانب الثورة.
تخليد شخصيات ثورية
وسايرها عبر مختلف مراحلها منذ بداية الاحتلال إلى غاية اندلاع الثورة ثم استرجاع السيادة الوطنية.
ويعرف الباحث الأغنية الشعبية في الأوراس بأنها أغنية يؤديها الرجال والنساء، أحيانا تعتمد على الصوت فقط، وأحيانا أخرى على أله الناي، غالبا ما تكون مواضيعها مستمدة من معاناة الشعب.
ويوضح أن مضامين الأغنية الأوراسية ارتبطت بالواقع الاجتماعي، وأفرزت أغاني ثورية تتغنى ببطولات قادة الثورة والمجاهدين والمعارك التي قادوها ضد الاحتلال الفرنسي، وشتمت الخائنين للوطن ولعنت الفرنسيين بقادتهم وجنودهم وآلات جرائمهم الشاهدة على وحشيتهم.
تناولت الأغاني الشعبية في الأوراس شخصيات هامة، وخلدت بالكلمة واللحن تاريخ الأبطال، فتغنى الناس ببطولات المقاومين الجزائريين أثناء الاحتلال الفرنسي، وبطولات المجاهدين أمثال مصطفى بن بولعيد، أحمد بن بلة، الحاج لخضر، قرين بلقاسم وغيرهم.
ووصفت بن بولعيد وصفا يليق بمكانته البارزة في المنطقة، باعتباره قائد الولاية الأولى أوراس النمامشة ووصفت طريقة كلامه وقدرته على إقناع الشعب بآرائه الحكيمة السديدة، وتناولت قرين بلقاسم بعبارات تلهب المشاعر بما عرف عنه من بطولات أذهلت العدو، واصفة إياه بالبطل الأسطورة.
وخص النص الغنائي الحاج لخضر بأغاني جسدت عظمة شخصيته، وتغنت بشخصيات أخرى مثل عمار دريدي المعروف “بالقايد” لما عرف عنه من حسن قيادة وتسيير، وخاصة في المواقف الحرجة في قيادته للعمليات الفدائية ضد مراكز العدو، قاد عدة معارك انتصر فيها.
ويؤكد الباحث أن مؤدي الأغنية الشعبية في الأوراس كان له دورا لا يستهان به، في تغيير أحداث الثورة ومجرياتها ما جعله عرضة لملاحقات الشرطة الفرنسية، فإلتحق الكثير منهم بمعاقل الثورة بجبال الأوراس.
ومن بين المعارك التي خلدتها معركة بني سويك في 16 فريل 1961، نقلت الهجوم المفاجئ لقوات الاحتلال الفرنسي على أحد مواقع المجاهدين بنواحي بني سويك بالمكان المسمى الواد لقطح، شاركت فيها الطائرات، وتواصلت المعركة لمدة يومين.
ونقلت الأغنية الثورية مشاهد مروعة عن معركة إيقلفن بأريس في جبل بني فرح، ومعركة ديار الشكالة في 18 سبتمبر 1961.
ويذكر الباحث مجموعة من الأغاني بالمنطقة منها:
فرنسا لغدارة .. وغدرت بالطيارة
سي الحسين رافد لبياسة.. ويحارب في الكفارة
ومعركة حمر خدو بمشونش في 1960 بأغنية تقول:
معركة حمر خدوبمشونش.. والرفال واش يحدو
مات احميدة بن المصم.. مات يحارب على دينو
وصورت معركة الجبل الأزرق
يا جبل لوراس العالي.. سبع سنين والنار تقدي
ما يفك غير العالي.. غاضوني الرجال
وما بياش المال.. عزموا للنضال وحرقوا الجبال
وأشادت الأغنية الثورية الجزائرية بدعم الأشقاء التونسيين للجزائريين بأغنية
أتونس يا لحنينة.. داك النيف علينا
دزي ارايس إيجينا.. يرحل ديغول يخطينا
ووصفت في مقطع أخر معاناة الجزائريين وحالة المجاهدين المزرية
الجندي مسكين .. ربي زاد عليه
من قوة الجهاد.. شلفطو رجليه
يربح لاستقلال.. وبروح لماليه
وتخاطب الأغنية الثورية سكان الأوراس بحثهم على الجهاد بالقول:
يا خوتي يا مسلمين .. بيبان الجنة مفتوحين
لو كان تحاربوا على الدين.. باش تربحوا الحرية
وشتموا الخونة في أغنية
ألقومية ألذمية .. أللي تبعثوا المرقى واللوبية.. خلاوالدين والحرية