اعتبرت الدكتورة حورية جيلالي، أستاذة باحثة دائمة بالمركز الوطني للبحث في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية(كراسك وهران)، “اتفاقيات ايفيان محطة تاريخية هامة ونقطة تحول حاسمة في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر.”
الشعب: حين نتحدث عن حنكة وعبقرية الوفد المفاوض، يسطع نور سعد دحلب والطيب بولحروف وغيرهما؟
د. حورية جيلالي: خاض الشعب الجزائري وعبر عدة أجيال صراع طويل ومرير ضد الاستعمار الفرنسي، الذي اتبع سياسة قمعية، هدف من خلالها إلى القضاء على الهوية الجزائرية، غير أنه ونتيجة لتطور الوعي السياسي داخل المجتمع الجزائري، ونضجه ثقافيا وسياسيا، ولاسيما النخب؛ فبعد المقاومات الشعبية، بدأ النضال الثقافي والسياسي، ثم الثورة المسلحة، التي كانت تهدف منذ اندلاعها إلى تفادي إراقة الدماء، وفتحت باب الحوار والتفاوض من أجل إيجاد حل للأزمة وهو ما عبرت عنه في بيان أول نوفمبر 1954.
فكرة التفاوض مع الطرف الفرنسي، كانت حاضرة في إستراتيجية جبهة التحرير الوطني، وكان قادتها على استعداد للدخول في مفاوضات مع السلطات الاستعمارية كلما طلب منهم ذلك، سعيا منهم لحفظ الأرواح.
أما فرنسا، فبالرغم من أنه لم تكن هناك رغبة جدية من طرفها في التفاوض، إلا أنّ اللجوء إلى المفاوضات جاء حتمية للعمل الثوري، وما قدمه الشعب الجزائري من تضحيات، تحت قيادة جبهة التحرير الوطني، وما تكبده الاستعمار الفرنسي من خسائر في شتى المجالات، ناهيك عن التصدع الداخلي والخارجي الذي عانت منه فرنسا والضغوطات التي تعرضت لها، ولاسيما على مستوى منابر هيئة الأمم المتحدة.
تعتبر اتفاقيات إيفيان نهاية للمرحلة الاستعمارية وبداية لمرحلة جديدة من تاريخ الجزائر، تميز من خلالها المفاوضون الجزائريون بالصلابة والالتزام بمبادئ الثورة التحريرية، حملوا على عاتقهم مصلحة الجزائر، وهو ما مكنهم من افتكاك الاستقلال، بعدما تشبثوا بالمسائل الرئيسية المتعلقة بوحدة التراب الوطني وتحقيق الاستقلال الكامل.
كيف تم تسيير المرحلة من 19 مارس إلى يوم الاستفتاء؟
بعد سنة من الاتصالات والمفاوضات الأولى بمدينة ايفيان في ماي 1961، توصل الوفدان الجزائري والفرنسي إلى ضرورة مباشرة المفاوضات الرسمية والعلنية بمدينة ايفيان بفرنسا، هذه المفاوضات التي مرت بعدة لقاءات سرية، وعلنية بين ممثلي الطرفين، وتركزت المحادثات فيها حول السيادة الوطنية على الصحراء، الاستفتاء العام ليشمل سكان الصحراء، وقضية ازدواجية الجنسية والمرحلة الانتقالية.
لتنتهي هذه المفاوضات بالإعلان عن وقف إطلاق النار يوم 19 مارس 1962، وتبدأ مرحلة انتقالية في الجزائر مدتها ستة أشهر(من 19 مارس إلى 5 جويلية 1962) تسيرها هيئة تم الاتفاق على تركيبتها وصلاحيتها خلال المفاوضات، ولقد تميزت هذه المرحلة بأهمية كبيرة بالنسبة لكل من الجزائر وفرنسا، وكان للأحداث التي وقعت خلالها الأثر البالغ على الوضع الداخلي للجزائر في تلك الفترة، وساهم بشكل كبير في وضع معالم الدولة الجزائرية المستقلة.
لتبدأ في هذه الظروف عملية التحضير لعقد مؤتمر طرابلس الذي كان هدفه الرسمي هو إعداد برنامج الدولة المستقلة ووضع مؤسساتها، لذلك قرر المجلس الوطني للثورة الجزائرية يوم 27 ماي 1962 إجراء دورة استثنائية للتحضير لاستقلال الجزائر، وفي الفاتح من شهر جويلية 1962، تم الاستفتاء حول تقرير المصير الذي وضع حد لسنوات الجمر التي عاشها الشعب الجزائري، وفي يوم الخميس 5 جويلية 1962 دخل أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية محتفلين بعيد النصر إلى العاصمة الجزائر.
مثلت هذه المرحلة الانتقالية ثمرة كفاح طويل للشعب الجزائري، ومن أهم الحلقات في تاريخ الجزائر المعاصرة، غير أنّ الكثير من التطورات والأحداث غير المتوقعة، والتي كانت الجزائر وجبهة التحرير الوطني مسرحا لها.
جعلت هذه الاتفاقيات في موضع العاجز عن إيجاد الحلول للكثير من المشاكل التي ظهرت خلال هذه المرحلة، ولاسيما العمليات الإرهابية لمنظمة الجيش السري في حق الجزائريين، ومن أيد استقلال الجزائر، هذا إلى جانب الخلاف الكبير داخل جبهة التحرير الوطني حول مسألة القيادة، والتي انفجرت في شكل أزمة حادة حول السلطة سنة 1962.
تعتبر الفترة الممتدة من 1960 إلى 1962، من أهم الفترات في تاريخ استقلال الجزائر، فهي مرحلة المفاوضات والاستقلال، وجاءت بعد تحقيق الثورة لعدة انتصارات على المستوى الدولي، ولاسيما على مستوى هيئة الأمم المتحدة.
واستطاعت هذه الاتفاقيات أن تضع حدا لحرب إبادة تعرض لها الشعب الجزائري، وذلك بالرغم مما سجل عنها من سلبيات، لا تقاس أبدا مع أهم إنجاز، وهو وقف إطلاق النار، الذي يعد اليوم عيد النصر، وذلك رغم الصعوبات التي عرفتها في مراحلها الأولى، بسبب المناورات الفرنسية، وتمسكها بوجهات نظر مخالفة تماما لثوابت الجبهة خاصة تلك المتعلقة بالوحدة الترابية للجزائر. لكن المفاوضين لم يتنازلوا عن أي شرط من الشروط التي أملوها لوقف إطلاق النار، وظلت الصحراء دائما السبب في تعليق المفاوضات، وموقف فرنسا المتشدد كان بسبب ظنها أن الحكومة المؤقتة الجزائرية ستتراجع عن تصلبها وتلين بعض الشيء.
أثبت التاريخ أنّ اتفاقيات ايفيان كانت إيجابية في عدة أوجه؛ فقد حققت الهدف الأسمى للشعب الجزائري المتمثل في اعتراف فرنسا بالسيادة الجزائرية على كامل التراب الوطني، أما القيود العسكرية والاقتصادية التي وردت في الاتفاقية فقد تمكنت الجزائر من تأميم أراضي المستوطنين سنة 1963، وجلاء القوات الفرنسية في بداية 1965 من رقان وتأميم المعادن.
ناهيك عن الإفراج عن المعتقلين السياسيين، ووضعت هذه المفاوضات بندا يخص المستوطنين، يمنح لهم الخيار الحر في الحصول على الجنسية الجزائرية أو الفرنسية بعد انقضاء مدة ثلاث سنوات من تاريخ تقرير المصير، ورفض مبدأ ازدواجية الجنسية لأنّه يعتبر مشكلة لسيادة الجزائر.
والمفارقة العجيبة أنّ ما كان يعتبر بالأمس نتائج سلبية في اتفاقيات ايفيان، زال وأصبح من التاريخ، خاصة بعد رفض الجزائر منح الجنسية الجزائرية تلقائيا إلى مليون أوروبي، وأصبحت الجزائر تتمتع بسيادتها، وشكلت رمزا من رموز التحرر الوطني، وساهمت سلسلة التأميمات في حصول الجزائر على استقلالها الحقيقي.
وما تجدر الإشارة إليه أنّ مفاوضات ايفيان الأولى، كشفت عن رغبة شرائح واسعة من الشعب الفرنسي في إنجاح المفاوضات وإحلال السلام بالجزائر، بدليل أنّ مقر إقامة الوفد الجزائري بضاحية بوا دافولت Bois d’Avault تحوّل إلى مزار يتردّد عليه الفرنسيون بالحافلات لإبداء تعاطفهم وتشجيعهم.
الباحثة حورية جيلالي:
كـانت معركــــة لا تختلف عن معــارك الميدان
حوار: براهمية مسعودة
شوهد:714 مرة