يُؤكد الدكتور بقسم التاريخ بجامعة باتنة 1 عاشور منصورية، أنّ الحديث عن وقف إطلاق النار يعني ألا شيء يعطى لك دون مقابل، ويعني أنّ الباطل ساعة وأنّ الحق لن يضيع وبحسب المؤرخ فإنّ وقف القتال هو الانتصار لإنسانية الإنسان، ووضع حلّ لأزمة طال أمدها عجزت فرنسا عن حلها بالقوة العسكرية.
يجزم الباحث في تصريح لـ «الشعب»، أنّ هذا التاريخ بالنسبة للجزائر هو وقف للظلم وتراجيديا «الاحتقار» التي تعرض لها الجزائري طيلة 132 سنة مصادرة من عمره وتاريخه ومدنيته، ووقف لمهانته وإذلاله، فكان الجزائري محروما من حقوقه مغتصب الأرض والعرض، وبالنسبة لمنطقة الأوراس، الذي نال شرف إطلاق الرصاصة الأولى ورعاها بعد ذلك فيرى منصورية أنه انتصر فيه وحقق مراده كغيره من مناطق الوطن، وقد دفع بأبنائه للشهادة كباقى المناطق.
ويضيف أنّ ذلك اليوم المشهود عاشه الجزائريون هو يوم فرح لا يوصف، أعقبته احتفالات هزت ربوع الوطن، بالرغم من فقدان معظم الأسر والعائلات الجزائرية لبعض أفرادها.
حنكة دبلوماسية بنبرة ثورية
ويوضح الباحث منصورية بخصوص رفض الوفد الجزائري المفاوض للاقتراحات الفرنسية التي حاولت تجزئة الوحدة الترابية ووحدة شعبها واستقلالها التام رغم قلة خبرتهم وحداثة التجربة، أنّ الألاعيب الفرنسية أو المراوغات لم تنطل على الوفد الجزائري المفاوض، ففرنسا خبَرت الشعب الجزائري طيلة وجودها وتقارير ضباطها الإداريين بعد الاحتلال، ثم رصدها لحركة التحول من المقاومة المنظمة إلى الشعبية، ثم الحركة الوطنية التي تنوّعت مطالبها وتوحّد لديها الشعور الوطني، الذي حوّلته جبهة التحرير وجيشها من حلم إلى حقيقة.
وأضاف يقول» ترجموا شعار «ما أُخٍذ بالقوة لا يسترد إلا بها»، فجميع هذه المراحل تعرفت فيها فرنسا أكثر على الجزائريين، ولاحقا أعطت استقلالا لمعظم مستعمراتها لتحتفظ بالجزائر، والسؤال هنا يتركز على الديبلوماسية الجزائرية التي ولدت من رحم الثورة، فهم شباب طلبة أو عمال مثقفون مجاهدون، يُرافعون على القضية الوطنية، فاوضوا المستعمر باللغة التي يجيدونها، ويعرفون قواعدها ومدلولاتها، فهم يرفضون التوقيع بسبب غياب حرف»s»حرف الجمع بالفرنسية».
ويوضح أنّ الصحراء التي اكتشف بها البترول سنة 1956، وفيها كانت التفجيرات النووية، تلك كانت صرامة الوفد الجزائري وذكائه، والذي كان يقوده كريم بلقاسم، بل أكثر من ذلك دعت الحكومة المؤقتة الجزائريين بالتظاهر في أول نوفمبر 1961 رافعين شعار الوحدة الوطنية، فضلا عن العديد من النقاط الخلافية التي طرحت في قضية الأقدام السود التي لم تظهر حينها بهذا الاسم، الأقلية الأوروبية، والمصالح الاقتصادية الفرنسية، وحتى العسكرية كقاعدة مرسى الكبير التي تريدها فرنسا جبل طارق ثانية.
فضلا عن المناورات التي قامت بها فرنسا استفزازا أو ليونة، مع ما تغير في العنصر البشري من مفاوضات ايفيان الثانية مارس 1962 التي كان ناطقها الرسمي رضا مالك وقد وصفها بالسرية التامة، ليكون لقاء لي روس من 11إلى 18 فيفري ووضع أسس اتفاقيات ايفيان من الجانب الجزائري، برئاسة كريم بلقاسم وعضوية سعد دحلب ومحمد يزيد ولخضر بن طوبال، ومحمد الصديق بن يحي؛ وقد وصف الرئيس بن خدة اتفاقية ايفيان «إنّ قوّة الثورة الجزائرية لا تتمثل في إرغام الفرنسيين على التفاوض فحسب؛ بل لأنّها أبدعت على مر السنين روحا وسلوكا خاصين بها كان أساس انتصار ايفيان» إذ حققت الوحدة الترابية والاستقلال التام وهو نجاح ونصر للديبلوماسية الجزائرية.
فرنسا تكتب التاريخ وفق منظور تمجيد الاستعمار
ويعود منصورية إلى الحديث عن العراقيل والصعوبات التي واجهت الحكومة الجزائرية المؤقتة التي تأسست خلال حرب التحرير في فرض نفسها كناطق رسمي باسم الجزائر، بالتأكيد على أنّ الإحالات التاريخية هي من تقود لفهم هذه الصعوبات، في اختلاف وجهات النظر والصعوبات التي واجهت الحكومة المؤقتة على الأقل خلال فترة إمضاء اتفاقيات ايفيان في ثلاثة جوانب؛ هي تكوين القوة المحلية وهي قوة عسكرية هدفها استبدال جيش التحرير والجيش الفرنسي، خلال الفترة الانتقالية لمجابهة قوات» اواسOAS»، وهي في نظر الحكومة المؤقتة عمل مبرر ترغم فرنسا على الوفاء بالتزامات استقلال الجزائر.
في حين، يراه المجاهدون الذين يرفضون تسليم السلاح، وقد أحسّ أفراد جيش التحرير وهيئة الأركان أنّهم مطلوبين وهم الذين حرّروا البلاد وبذلوا الغالي والنفيس، على أنّه التفاف على الاستقلال وترك الجزائر تحت رحمة فرنسا، غير أنّ الباحث يُؤكد أنّ الحديث عن فشل الحكومة المؤقتة أو نجاحاتها يوضع في سياقاته، وله أكثر من نقاش.
وبحسبه فإنّ « الطابوهات والمسكوت عنها»، هي في الأصل خدمة لتعزيز وحدة الصف والتوجّه المستقبلي، أيّ بمعنى أنّ النظام السياسي الجزائري له دخل في توجيه التاريخ للثورة، على ما فيه من إقصاء وأنّ ما كتب من إيحاء «كتاب البلاط».
و يقول:» ربما في رأي بعض المؤرخين أننا تأخرنا في كتابة تاريخنا، والتاريخ في عمومه يكتبه المنتصر، لكن المنهزم وجَّه مسار الحدث من حيث التغني بتمجيد الاستعمار».
ويضيف:» صحيح أنّ الاهتمام بكتابة تاريخ الثورة في البداية ظل «موضوعاتيا» من حيث التأريخ لمراحل في الثورة أو أحداثا بعينها، لكنّه ظل بعيدا عن متناول الباحثين خاصة الأرشيف الوطني».
الأرشيف الوطني واستغلاله في التأريخ للثورة
وحسب الباحث فإنّ الدراسات الجامعية، اليوم، تعزّزت في هذا الشأن فعلى كثرتها ظلت تراوح خطأ منهجيا واحدا، من حيث وجهة نظر الفرنسية؛ ووجهة نظر الجزائرية، لكن الذي يُعيد كتابة التاريخ وفق المنهج العلمي الأكاديمي استغلال الكتابات السابقة، والمذكرات الشخصية على قلتها والتي لم يستفد منها وأرشيف ما وراء البحار، ويؤكد أنّ المعركة في التاريخ ستظل معركة المنهج مع المعاملة الخاصة للوثيقة الأرشيفية التي ليست هي كل التاريخ.
ويقترح الدكتور منصورية أن يتعامل الباحث مع وثيقة الأرشيف، كرافد للتاريخ ويوضح بعض المعالم والتحري والصدق ينبغي تطبيق النقد المنهجي عليها، وهو ما يصبو إليه الباحثون الشباب الذين يتوقون الوصول لمصادر الأرشيف الوطني الذي ظل بابه موصدا، باستثناء ذلك الموجود لدى العائلات وبعض صناع الثورة الذي يحتفظون به.
ودعا منصورية المشرفين على الأرشيف الوطني لإتباع خطة لتسهيل الحصول واستغلال أرشيف الثورة التحريرية وفق قانون يصدره المجلس الشعبي الوطني، لغرض تصنيفه وتبويبه ثم وضعه بيد الباحثين لتمكينهم من استغلال الأرشيف، وهو زاخر بالفعل الثوري في جميع المجالات، تاريخ سياسي وعسكري واجتماعي وثقافي وفكري وعلاقات بين الولايات والمناطق والنواحي.
وإعانة جيش وجبهة التحرير الوطني للشعب الجزائري والإشراف على القضاء والتعليم، وإبراز دور قادة الولايات وأرشيف المحاكمات، وهي تبرز عظمة ودور التنظيم المحكم الذي بلغته إدارة الثورة التحريرية، خاصة إذا علمنا أنّ أطنانا منها استلمته الدولة بعد 1962 من القسمات والنواحي والمناطق والولايات فأين كل هذه الأطنان؟ ولم يستفد منها؟، يتساءل منصورية.
وبحكم تعاملنا ووقوفنا –يضيف منصورية- على بعض الوثائق الأرشيفية التي توضح بصدق أنّ الثورة التحريرية نظمت نفسها بالتوثيق والأرشيف، فلكل مسؤول كاتب من القسمة إلى الناحية والمنطقة والولاية.