بقدر ما كان خبر تحويل سجن سركاجي إلى متحف للذاكرة الوطنية مفرحا، بقدر ما كان كذلك مؤثّرا في نفسية كل الأحرار الذين قبعوا في غياهبه لسنوات طويلة، منهم من أعدم ومنهم من عذّب، ومنهم من خرج وأثار الحرق والضرب والمرض شاهدة وبادية على جسمه.
لا نستطيع في هذا الشهر من استقلال الجزائر، أن نترك هذا القرار التاريخي والإجراء الوطني يمر مرور الكرام دون استحضار روح التضحية ونكران الذات والصبر والأناة، والتحمل التي اتّصف بها المناضلون والمجاهدون الجزائريون من أجل بلادهم، بالرغم من المقصلة أي “الفنڤة” التي كانت بجانب أبواب قاعاتهم التي كانوا محبوسين فيها.
ومن يذكر “سركاجي” أو “برباروس” سابقا يقشعر بدنه وتتوقّف ذاكرته لهنيهة ليسترجع شريط مشاهد الألم في قمتها جراء التعذيب الذي لحق بالجزائريين، والقتل النفسي جراء الإلقاء بهم في الغرف المعزولة أو الأماكن المنسية قبل إعدامهم. كل هذه الأعمال الإجرامية المنافية لحد أدنى من الإنسانية بعد فرض “الأعراف الخاصة” لم تحرك قيد أنملة من إيمان الجزائريين بقضيتهم العادلة، ودون أن يشعر القتلة المشرفين على هذا السجن تحوّل هذا الأخير إلى مدرسة للوطنية بالنسبة لكل الأحرار المناهضين للنظام الكولونيالي والمناوئين للإستيطان، في الاطّلاع أكثر على القضية الوطنية، ومعرفة شخصيات ثورية فذّة كأحمد زبانة وعبد القادر فراج ومفدي زكريا، وإيفتون، وسعيد تواتي وبوعلام رحال وطالب عبد الرحمان، وآخرون من الرجال البواسل أسّسوا لنظام خاص بالثورة بداخل هذا السجن، كل الاتصالات بين “الخاوة” كانت تجري وفق تعليمات صارمة ودقيقة، ولم يكن هؤلاء في انفصال عمّا كان يحدث خارج السجن، بل كل المعلومات كانت تصل في وقتها، أدهشت الإدارة آنذاك، ممّا ولّد ذلك التضامن القوي بين كل المسجونين آنذاك، حتّم على مدير هذا السّجن في كثير من الأحيان التراجع عن التّدابير التي كان يريد فرضها بواسطة الإضراب عن الطعام أو نقل البعض إلى قاعات أخرى في انتظار إعدامهم.
وما تزال عبارة “تحيا الجزائر” ترنّ في أذان كل من مرّ على “سركاجي” في لحظات معينة تدوّي يخرج صداها إلى القصبة، ليمتزج “الله أكبر” بـ “تحيا الجزائر” وزغاريد النساء إذانا بعهد جديد ينتظر هذا الشعب الأبي “هذه القوة الوطنية هي التي زعزعت أركان هذا النّظام الإستعماري، وأخرجته مذلاّ في يوم من أيام ٥ جويلية ١٩٦٢.
وستكون أجيال ما بعد الاستقلال شاهدة على ما اقترفه الجلاّدون ضد أبائهم وأجدادهم من خلال ما تركه من كتابات على الجدران حبا لبلادهم أو المقصلة الموجودة بالسّاحة المركزية، وغيرها من المظاهر التي كانت تريد كسر إرادة شعب لا تقهر، وسنحتفل هذه المرة مع كل أحرار الأمة من داخل السجن وليس في مدخله كما هو الحال اليوم.
سركاجي متحف للذاكرة
مدرسة للوطنية
جمال أوكيلي
شوهد:1074 مرة