«اجتماع لقرين التاريخي هو بمثابة اجتماع إعلان الحرب”، هكذا وصف البروفيسور محمد الأمين بلغيث اجتماع لقرين الذي انعقد في أواخر شهر أكتوبر 1954. هو مصطلح متداول أكثر في أدبيات العلاقات الدولية وعلم العسكريات، والاستراتجيات، نظرا للقرار المصيري الفاصل الذي يتخذ، بعد أن يتمّ استيفاء جميع المحاولات السلمية لإرغام الطرف الآخر إلى الرضوخ لمنطق العدالة والطوق للحرية.
هكذا كان القرار المصيري الذي أعلنه القائد مصطفى بن بولعيد أمام جميع هيئة أركان المنطقة الأولى - أوراس النمامشة - باجتماع لقرين التاريخي، وتعدّدت الروايات الشفهية والكتابات التاريخية التي وثقت لهذا الاجتماع، سنحاول التطرّق لكل منها على حدى.
أولا - الرواية الشفهية
تلعب الرواية الشفوية أدوارا عديدة في عملية التوثيق للمعرفة التاريخية ومنها تاريخ الثورة التحريرية الجزائرية، ومن بين الشهادات الشفوية التي وثقت لاجتماع لقرين التاريخي الشهادة المسجلة للمجاهد الصيد الربعي أحد مناضلي الحركة الوطنية والمنظمة الخاصة، يقول “أنه تمّ تجنيده ليلة الفاتح نوفمبر 1954، من طرف المجاهد سعد حب الدين ويقول عن اجتماع لقرين حسب الشهادة الموثقة في كتاب “شهداء منطقة الأوراس - الجزء6 -.. أنه بعد انتقال المجاهد سعد حب الدين إلى منطقة لقرين بأمر من النظام والزعيم مصطفى بن بولعيد، استعدادا لتكوين المناضلين وإنشاء خلية للجنة الثورية للوحدة والعمل (كما سنرى لاحقا مدى تجانس هذه المعلومة للمجاهد الصيد الربعي والوثيقة الصادرة من الأرشيف الفرنسي)، حيث أقام مع أحد عناصر الخارجون عن القانون شبشوب الصادق، بديار عائلة بن مسعودة “لمزيطي”، حيث خصّص له القائد بن بولعيد غرفتين للإقامة مع عائلته بجوار الزاوية، التي كان يعلّم فيها القرآن الكريم، مع تقديم الدروس الدينية للكبار والصغار وغمامة المصلين وممارسة الفتوى، وفي هذا السياق، قمنا بنقل شهادة القاطنين بجوار المعلم التاريخي الحالي آنذاك، الشيخ “سي الحسين عشي “غمام مسجد بولفرايس السابق واحد المناضلين الذين كانوا في خلية C.R.U.A، حيث يقول: “كنا نؤدي صلاة الجمعة في المدرسة القرآنية وكانت خطب الشيخ سعد حب الدين مفعمة بحب الوطن وكذا مكانة الجهاد في الدين الإسلامي وأن الاستعمار ما هو إلا جسم غريب عن مقومات هذه الأمة، وهي الخطب التي تزرع في الإنسان روح التضحية على الوطن”، كما ذكر أننا كنا نجمع وندفع عند الشيخ ساعد حب الدين الاشتراكات الشهرية والمقدرة بـ4 سنتيم (4 دورو على حد قوله)، كما يورد الشيخ عشي سي الحسين معلومة وهي الزيارات الأسبوعية والشهرية للقائد شيحاني بشير المدعو سي المسعود، حيث كان يزور المدرسة القرآنية ومتنكّرا بأثواب رثة في بعض الأحيان وكأنه أحد عابري السبيل حتى لا يكتشف أمره من طرف الاستعمار وأعوانه، ويؤكد الشيخ سي الحسين بوزغاية (ت.2017) شهادة حول بوادر التحضير للاجتماع وتفجير الثورة من خلال شهادته “حيث يقول إن “رسائل مشفرة كانت تصله من الشيخ حب الدين تعلمهم بالثبات والالتزام وكان شيئا ما سيقع “ويورد المجاهد الصيد الربعي في مقام آخر، أن القائدين مصطفى بن بولعيد وشيحاني بشير كانا دائما في زيارات روتينية لمنطقة لقرين وما جاورهما، حيث يزور عناصر الحركة الوطنية، حيث زار عائلة موري خاصة الشهيد موري مسعود بن أونيس، علما أن فوج لقرين يمتد من بولفرايس إلى الشمرة والمدون في الكثير من الوثائق الأرشيفية بدوار أعمر بن فاضل، وقد استطاع المجاهد الشيخ سعد حب الدين تكوين ما يقارب عن 140 مناضل - ويروى المجاهد مسعود عشي أنه كلف من طرف عبدا لله بن مسعودة بالحراسة على الاجتماع وتأمينه رفقة العديد من عناصر النضال السياسي السري آنذاك، كالمجاهد غجاتي عمار المدعو “خماته” المجاهد اليد الربعي، الشهيد حسين بلجمل.. الخ.
أما الرواية الشفوية التي جاءت على لسان المجاهدة بن فيفي فيالة (زوجة المجاهد سعد حب الدين)، فتقول “إنه في ليلة الاجتماع لقرين التاريخي، أخبرني زوجي أنه لدينا ضيوف (لم يفصح عن طبيعة الضيوف ودورهم؟)، ولابد من إعداد وجبة العشاء، فقمنا أنا وزوجة عبد بن مسعودة “الشيخة” وفي تلك الليلة كذلك كانت زوجة الشهيد شبشوب الصادق معنا، فحضرنا طبق الشخشوخة، وقد قام المجاهد عبد الله بن مسعودة بحمل قصعتين من الوجبة المحضرة للمجتمعين، حيث كانت الأجواء تلك الليلة ممطرة، وقد أعلمني لاحقا زوجي إن الحضور هم مصطفى بن بولعيد والطاهر النويشي وشيحاني بشير ومرداسي بلقاسم وشبشوب الصادق.. الخ من الحضور هكذا ختمت زوجة المجاهد سعد حب الدين شهادتها حول الأجواء التي سادت اجتماع لقرين التاريخي. والملاحظ على مجمل الشهادات الشفوية التي أوردناها حول اجتماع لقرين التاريخي، أنها تتفق كلها مع الوثائق الأرشيفية الواردة من الأرشيف الفرنسي والرسائل الأرشيفية التي تركها المجاهد سعد حب الدين منها رسائله إلى الرئيس أحمد بن بلة ورئيس قدماء المحاربين لولاية باتنة، والبيان الموجود في ملف منح الاعتراف صفة مجاهد التي تشترطها الإدارة وفيها يذكر طالب الاعتراف مساره النضالي والثوري.
ثانيا / الوثائق الأرشيفية
أكد العديد من المؤرخين على أهمية الوثيقة كمصدر مهم لكتابة التاريخ، وهذا ما عبّر عنه أحد المؤرخين الفرنسيين “لانجو” و«سنيوس” في أواخر القرن التاسع عشر إلى القول “إن التاريخ يصنع من الوثائق، وحيث لا وثائق لا تاريخ “ويؤكد هذا الرأي “أسد رستم “ حيث يقول، إذا ضاعت الأصول - ضاع التاريخ -”، وهكذا فإن الاستغناء على استغلال الوثيقة يفقد البحث التاريخي قيمته.
وانطلاقا من هذا، توجد العديد من الوثائق التي تحصلنا عليها والتي وثقت لهذا الحدث الهام والمفصلي في تاريخ الثورة، مثل أرشيف المجاهد سعد حب الدين / والأرشيف الوارد من فرنسا وبالضبط من أرشيف مركز بروفانس.
بالنسبة لأرشيف الشيخ المجاهد “سعد حب الدين”، أحد الفاعلين في هذا الاجتماع فيذكر في رسالته الأولى وهي رسالة خطها بيده بتاريخ 25 / 08 /1962، موجهة إلى الرئيس أحمد بن بله، والتي كانت عبارة عن شكوى لبعض المظالم التي تعرض لها حيث ذكر في سياق كلامه نضاله ومساره الثوري وكانت محطة اجتماع لقرين التاريخي ضمن هذا السرد حيث يقول: “إنّ هذا الاجتماع وقع في داره وترأسه الزعيم مصطفى بن بولعيد وحضرته العناصر الأساسية لهيئة الأركان المنطقة الأولى الأوراس وهم شيحاني بشير المراق العام لدائرة باتنة (لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية) والطاهر النويشي المدعو غمراس رئيس قسم فم الطوب ورئيس وكاتب فوج لقرين سعد حب الدين والمسعد بلعقون وشبشوب الصادق وقرين بلقاسم ومرداسي بلقاسم، حيث ذكر الشيخ حب الدين في هذه الرسالة (الرسالة مرفقة بهذا المقال)، أنّ في هذا الاجتماع وضعت اللمسات الأخيرة لتفجير الثورة التحريرية وتمّ تعيين رؤساء الجيش وأفراد الجيش والإعلان عن تاريخ اندلاعها واستنساخ بيان أول نوفمبر -وبالموازاة كان هناك أكثر من مائتي (200) من دوار أعمر بن فاضل والشمرة والأوراس، وفي الرسالة الثانية والتي خطّها إلى رئيس قدماء المحاربين لولاية باتنة آنذاك “الطاهر النويشي” مؤرخة في 07 /12 / 1962، أنه وجد نفسه فقيرا معدما لا دار له ولا أرض ولا حيوان يتكسب به عاجز عن العمل وبعد قام بسرد مساره الثوري، خاصة حول اجتماع لقرين.. فيقول: “انخرطت في الحزب الوطني مع الأخ مصطفى بن بولعيد وكنت معلما بمدرسة تازولت وكنت ساعيا له حين قدمه النظام في المجلس الجزائري ثم انتقلت إلى دوار أولاد سي معنصر معلما هناك ثم قدم إليّ الأخ سي مرداسي بلقاسم وكنا نخدم النظام هناك ونجند المناضلين ثم انتقلت إلى مشته لقرين بأمر من النظام وكنت كاتب الفوج وكاتب القسم معا، وقد كوّنت هناك مئة وأربعين مناضلا وفي الليلة التي كوّنت الثورة (أي الاجتماع) بحضور الأخ سي بلقاسم مرداسي والأخ بن بولعيد وشيحاني بشير المراقب العام لدائرة باتنة وقرين بلقاسم وشبشوب الصادق ومسعود بلعقون وجميع المناضلين من الأوراس والشمرة ودوار أعمر بن فاضل، ما يقرب من مائتي نفس (شخص) وعينّا رؤساء الجيش والجيش والباقون داخل البلاد يجمعون الحبوب والاشتراكات وقد جمعنا مئة وخمسين صاعا من الحبوب.. الخ من الرسالة، كما ذكر نفس التفاصيل السابقة حول اجتماع لقرين وأكدها في التصريح (البيان) وهو تصريح يذكر فيه طالب الاعتراف بصفة مجاهد مساره النضالي والثوري، وتوجد على مستوى الإدارات الوصية بقطاع المجاهدين. والملاحظة في رسائل الشيخ هو الاختلاف في الجهات التي أرسلها لهم لكن وجود تطابق تام في تفاصيل المعلومات المتعلقة بفحوى اجتماع لقرين التاريخي.
محضر استجواب عاجل عجول
وفي وثيقة أخرى ـ وهي محضر استجواب القائد عاجل عجول من طرف المصالح الفرنسية والموثقة في كتاب الأستاذ صالح لغرور بعنوان “إضاءات في التاريخ الداخلي للولاية الأولى، “إنه تلقى رسالة من غمراس الطاهر بن النويشي في نحو 18 / 10 /1954 يطلب مني أن أنتقل إلى المكان المسمى لقرين الواقع في دوار أعمر بن فاضل بمنزل المجاهد بن مسعودة عبد الله، الوقت اللازم للالتحاق بهذا المكان كان قصيرا يوما أو يومين ذهبت وحدي إلى الموعد، حيث كان موجودا شيحاني بشير - غمراس الطاهر بن النويشي - خنطرة محمد ثم وصل فيما بعد بن بولعيد مرفوقا ببشير شيحاني مسؤول الخروب ثم وصل فيما بعد لغرور عباس، صرّح القائد بن بولعيد بأننا سوف نؤدي اليمين بالمصحف (المصحف ملك للشيخ المجاهد سعد حب الدين سلم كهدية لمؤسسة رئاسة الجمهورية، في مئوية ميلاد القائد بن بولعيد سنة 2017) كما فعل كل المجندين، وأنه سيعلن خبرا مهما جدا، كنا جالسين على حصير، فتح بن بولعيد المصحف ووضعه على الأرض وأدى اليمين الأول قائلا، “لن أخون أبدا القضية الإسلامية، وأنه سيذهب بعيدا حتى النهاية إلى آخر رمق فيما بعد جاء دورنا واحدا تلو الآخر أقسمنا بالقرآن على أن نطيع بطريقة عمياء بن بولعيد مصطفى، بعدها أعلن لنا هذا الأخير أنّ بداية انطلاق العمل المسلح سيكون، يوم الاثنين أول نوفمبر 1954، أدينا اليمين مرة أخرى على ألا نفشي سرّ تاريخ العمل المسلح إلى أيّ شخص ولو المقاتلين..”.
وقد وصل الكاتب صالح لغرور في مؤلفه إلى نتيجة جد قيمة وتاريخية أن انعقاد اجتماع لقرين التاريخي ـ واعتبارا لما وعد به بن بولعيد لمجموعة 22 ومجموعة 5+1 ومقارنة بتاريخ لقرين وتاريخ اجتماع مجموعة الستة الأخير - 06 - (1954/10/23)، أنّ بن بولعيد مصطفى يكون قد أراد قبل سفره إلى العاصمة أن يتأكد من الاستعداد التام لرجاله حتى يؤكد لمجموعة الستة قدرة منطقة الأوراس على تحمل عبء الثورة مدة 06 أشهر الأولى للثورة، كما وعد سابقا في اجتماع - 22 ـ في جوان 1954.
وفي وثيقة أخرى صادرة من الأرشيف الفرنسي تؤكد دور فوج لقرين في الحركة الوطنية وتحضير اجتماع لقرين التاريخي، حيث تحصلنا على وثيقة تحت رقم العلبة بالأرشيف الفرنسي أكس بروفانس (91-69)، أنّ النواة الأولى للجنة الثورية للوحدة والعمل التي أسّسها المجاهد سعد حب الدين بلقرين كانت خلية نشطه وفعالة، حيث كان يجمع الاشتراكات وحسب ترجمة نص الوثيقة أنه جاء من الأوراس لممارسة الدعوة ونشر أفكار الثورة في منطقة أولاد أعمر بن فاضل وقد أسس خلية للجنة الثورية للوحدة والعمل التي كانت مهمتها تفجير الثورة.
وفي الختام، نستنتج ذلك التقارب والتقاطع الكبيرين اللذان وجدناه عند مقارنتنا بين الروايات الشفوية والوثائق التاريخية في عملية التوثيق لاجتماع لقرين التاريخي، وأنّ اجتماع لقرين التاريخي يبقى حدثا مفصليا حدّد مصير الثورة ودفع بها إلى الوجود، كما يبقى فوج لقرين بدوار أعمر بن فاضل أحد النواة الصلبة في الحركة الوطنية وبها كان المناخ الذي جعل القائد مصطفى بن بولعيد يأتمن على نجاح هذا الاجتماع الذي لم يأخذ حقّه من الدراسات التاريخية، خاصة الدراسات المحلية بالأوراس التي كانت في الغالب دراسات تستند إلى الانتماء إلى القبيلة والعشيرة ومع تدفق الكثير من الوثائق من الأرشيف الفرنسي، بدأت الكثير من الحقائق في الوضوح والتجلي وهي دعوة للباحثين للتعمّق أكثر في محتواها والكثير من الحقائق المتناولة سابقا دون سند علمي.
طالب دكتوراه ومهتم بتاريخ الثورة