في إطار الاحتفالات المخلّدة للذّكرى الـ 67 لاندلاع ثورة نوفمبر، نظّمت مكتبة المطالعة العمومية ببسكرة وقفة لتخليد ذكرى أحد شهداء الجزائر الذي جاهد بالبندقية والقلم، وكان محاربا ومعلّما. الوقفة المخلّدة لثالث قواسم الثورة (مولود قاسم زيدون وقاسم رزيق) حضرها نجله وعدد من مثقفي الولاية والأسرة الثورية، تناول فيها المتدخّلون جوانب من سيرة وجهاد الشهيد، وتوّجت بتكريم أسرة الشهيد.
قاسم رزيق نموذجٌ ثوريٌ نادر، زاوج في جهاده بين فعالية الحرف والقلم، وبين صدق الرّصاص والبارود، في مواجهة القوّة الغاشمة التي لم تعترف بالضّعيف. مارس العمل الوطني قبل الثورة، وانخرط في جهاد تعليم الجزائريين في قريته امخادمة بولاية بسكرة. اختار المواجهة والاستشهاد على خيارات أخرى أكثر إغراء، منها اقتراح رئاسته لبعثة تعليمية إلى تشيكوسلوفاكيا، خلال سنوات الكفاح المسلح، وقدّم نفسه قربانا لحرية شعبه سنة 1959.
المولد..والمنطلق
أمخادمة الواحة العريقة، كانت في بداية عشرينات القرن الماضي كغيرها من قرى الزيبان، ترزح تحت نير القهر والفقر، ومورد سكانها الأساسي ما تجود به باسقات النّخيل التي تطرح أكلها رزقا لعشرات العائلات التي تمتهن الفلاحة وغراسة النخيل. في هذا المناخ الصّعب، الموصوف بالفقر والبؤس والحاجة، كان سليمان رزيق الفلاح العادي كغيره من أبناء منطقته سنة 1924 ينتظر مولوده الثالث، وفي قرارة نفسه يناجي ويدعو أن يرزقه الله مولودا ذكرا، فقد أنجبت له زوجته هنية، بنتين، لكنه كان يتوق إلى المولود الذكر.
وتتحقّق أمنية سليمان، وتُزف له بشرى المولود الصبي، فأطلق عليه اسم قاسم تيمّنا باسم ابن سيد الخلق ﷺ. أدخل المولود الجديد البهجة، ونوعا من العزّة في نفس الرجل، فقد تخلّص من عقدة إنجاب الأنثى. قاسم، الصبي احتلّ اهتمام الوالدين، وكانت أمه تفضّله على شقيقتيه، بينما شغف وحُبّ الوالد ذهبا به بعيدا إلى التفكير المبكر في تعليمه، وإدخاله لكتّاب القرية ليحفظ القرآن الكريم، تمهيدا لضمان تعليم كاف له.
بداية ونبوغ مبكّر
دخل الطّفل قاسم رزيق كُتّاب القرية لحفظ القرآن الكريم في سن الرابعة، حيث حفظ القرآن الكريم بسرعة فائقة وغير معتادة، وصلّى بالناس وهو في سن العاشرة. لقد تحوّل إلى طالب أو شيخ، لكن طموحه سيقوده إلى مدرسة التربية والتعليم، حيث واصل دراسته على يد العلامة الشيخ نعيم نعيمي، وأظهر تفوّقا واستعدادا لتحصيل العلم، وتمكّن من مبادئ اللّغة العربية وعلومها ليزداد شغفه وشهيته لمواصلة درب الحث عن العلم وتحصيله.
وقتها كان جامع الزيتونة بتونس مقصد طلاّب العلم من الجزائريّين، وفكرة التوجه إلى تونس تخمّرت سريعا في ذهن الفتى، وقرّر السفر، ولكن تكاليف الرّحلة والإقامة تتطلّب المال والإمكانيات، ولكن الوالد كان قد احتاط للأمر، فلم يتردّد في بيع أحسن وأجمل بساتينه لتوفير المال اللازم لابنه.
وانطلق الطفل، الذي لم يتعد الخامسة عشر ربيعا، في رحلة البحث عن المعرفة في مسار شاق على الأقدام عن طريق تبسة رفقة مجموعة من أترابه، منهم الشيخ بلحامدي إمام امخادمة بعد الاستقلال، والروائي الحفناوي زاغز وآخرون.
في الزيتونة..طالبا ومناضلا
في أروقة جامع الزيتونة، خضع التلميذ رزيق لامتحان القبول الذي اجتازه بتفوّق، ليصبح طالبا متميّزا أيضا ومتفوّقا علما وأخلاقا و»خفّة روح» على جميع أقرانه، وبالرغم من شغفه بالتحصيل العلمي، فإنّ ذلك لم يشغله عن الاهتمام والانغماس في العمل النضالي الوطني من أجل قضية بلده الرازح تحت نير الاستعمار.
خارج أروقة الدرس، كان الصّراع حادا وأحيانا عنيفا بين قطبين يمثّلان طلبة الزيتونة الجزائريين، من جهة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومن جهة أخرى حزب الشعب الجزائري.
وشكّل نشاط الطالب قاسم رزيق المناضل في صفوف الحركة الوطنية رأس الحربة في هذا الصراع الإيديولوجي، وقاد المنازلات الفكرية التي كانت في بعض الأحيان تتحوّل إلى مواجهة جسدية.
زملاؤه في هذا النّشاط كوكبة من الطّلبة المناضلين، في مقدّمتهم المرحوم عبد الحميد مهري، الذي ترأّس جمعية الطلبة الزيتونيين الجزائريين، ومولود قاسم، وعلي كافي، والعربي دماغ العتروس، والشهيد قاسم زيدون خرّيج جامع الأزهر والسربون، وأوّل طالب شهيد في ثورة التحرير المجيدة، حيث التحق بالرفيق الأعلى سنة 1954 أي قبل إضراب الطلبة والتحاقهم بالثورة سنة 1956.
وكانت مهمّة جمعية الطلبة التابعين لحزب الشعب التي ترأّسها مهري ثم الشهيد قاسم رزيق الاهتمام بتأطير الطلبة الجزائريين الوافدين لجامع الزيتونة، وتوفير المأوى والإطعام وغيرها من الوسائل المساعدة على الاستقرار والتفرغ للدراسة، وفي خضم ذلك يتم التأطير السياسي الداعي لوحدة الطلبة المناضلين تحت لواء واحد وهو «جمعية الطلبة الجزائريّين الزيتونيّين».
ولم يقتصر نشاط الشّهيد في الجمعية بل تعدّاه إلى مجالات أخرى، حيث بدأ في الكتابة للمجلات مثل جريدة «المنار» مع انغماسه في العمل النضالي مناصرا للحركة النضالية التونسية، وأُدخل السجن عدة مرات بسبب مواقفه الاستقلالية، وكثيرا ما كانت تزوره في محبسه قرينة الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، السيدة «وسيلة» وهي تحمل له الكتب والجرائد والطعام، عرفانا منها له بمشاركته في نضال أشقائه في تونس.
مع ملاحظة أنّ الشّهيد، وإن كان أقرب في تفكيره لنهج يوسف بن صالح في مواجهة المستعمر، لكن بعد حدوث الانشقاق والقطيعة بين بورقيبة وبن صالح، دعا الشهيد قاسم رزيق الطلبة من مناضلي الحركة الوطنية المنخرطين في الجمعية إلى الوقوف على الحياد.
ومن بين الأعمال الجليلة التي قدّمها للحركة التّحرّرية التونسية، تكليفه من طرف بن يوسف بإيصال تقرير كامل ومفصّل عن وضعية الشعب التونسي تحت نير الاحتلال إلى جمعية الأمم المتحدة، وهو ما تمّ بالفعل، حيث كلّف المراقب العام للجمعية الرئيس علي كافي بالمهمّة، والتي أدّاها بنجاح.
وانتخب الشّهيد قاسم رزيق لعضوية اللجنة المركزية لحزب انتصار الحريات الديمقراطية ممثلا لمنطقة الجنوب، إضافة إلى ترؤّسه لجمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين، حيث أصبح يتحرّك بين الجزائر وتونس، قبل أن يعود بصفة دائمة إلى أرض الوطن لاستكمال نضاله السياسي.
وعُرف عن الشّهيد قربه من الزعيم مصالي الحاج، وامتهان التّعليم في الجزائر العاصمة، لكن السلطات الاستعمارية كانت ترصد تحرّكاته، وتمّ اعتقاله وتعرّض لمحاولة اغتيال فاشلة. بعدها أُبعد من العاصمة وعاد إلى مسقط رأسه «أمخادمة»، وقام بفتح مدرسة لتعليم أبناء بلدته صغارا وكبارا بما في ذلك النساء، وحتى المتزوجات منهن، وقد لاقت هذه المبادرة استحسانا كبيرا، وكان لها الأثر الجيد في نشر الوعي الوطني، زيادة على تعليم الناس القراءة والكتابة.
ومكّنته هذه التّجربة من تحقيق أهداف نبيلة تمثلت في القضاء على الأفكار العشائرية والعنصرية، وتقريب الناس من بعضهم البعض، مع دعوته للتواد والتراحم بين أبناء الوطن الواحد، ونجح في ذلك أيّما نجاح. وقد تتلمذ على يديه مئات الطلبة ليس من امخادمة فقط، ولكن أيضا من القرى المجاورة.
مسيرة الكفاح المسلّح
انخرط قاسم رزيق في العمل الثوري السري سنة 1955 إلى غاية سبتمبر 1957، حيث قرّر مغادرة العمل السري والالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني. وفي إحدى أمسيات الخريف، وقد اتّخذ قراره، طلب من زوجته تحضير بعض أغراضه الخاصة، كان الأمر واضحا للزوجة، لكنها سألته: إلى أين المسير هذه المرة؟ وألحّت في السؤال، وأجاب الشّهيد أنه في انتظار بلقاسم زاغز، أحد شباب القرية المهاجر في فرنسا وقد عاد إلى البلدة، وأنّه سيلتحق معه بالعمل الثّوري المسلّح، أي الانضمام إلى جيش التحرير الوطني. لم ينم تلك الليلة، كان سلاحه بين يديه، وأوصى زوجته خيرا بوالديه، خاصة أمه وابنه الذي لم ير النور بعد.
ولم يكن صباح اليوم التالي كبقية الأيام، إنّها لحظات الوداع، تناول طعام غذائه رفقة والده وكل من قريبيه رزيق رزيق وعمار رزيق، ورفيقه في المسيرة بلقاسم بن زاغز، آخر طبق شخشوخة بلحم «الفروج»..كان آخر غذاء مع الوالد. وجاءت لحظة الوداع قاسية ومؤلمة للشيخ الوالد، الذي أجهش بالبكاء وهو يتسلّم برنس ابنه الذي خلعه إعلانا ببدء مرحلة جديدة في حياة وكفاح قاسم رزيق، أما والدته فلم تتمالك نفسها وانخرطت في بكاء مؤثّر، ويبدو أنّ الشّهيد قاسم أحسّ بمشاعر والديه، لكنه أخفى دموعه، وقال مخاطبا والديه وزوجته: أنا ذاهب لأكمل رسالتي، الجزائر أغلى منكم جميعا ولا أعتقد بأنّني سأعود..
التحق قاسم رزيق بالعمل المسلّح رفقة الشهيد بن زاغز بلقاسم، وقد أُذيع نبأ التحاقه بالعمل المسلّح في إذاعة صوت الجزائر، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الرجل الذي كرس شبابه لخدمة شعبه والمساهمة في تحريره.
وبين صفوف المجاهدين، استغّل الشهيد ثقافته لينطلق في عملية واسعة لتعليم المجاهدين أصول الكتابة والقراءة، إضافة إلى المهام السياسة التي كلف بها في الولاية الأولى ثم في الولاية السادسة. وقد أبدى الشّهيد شجاعة وإقداما في جهاده بالرغم من أنّ الابتسامة وخفة الظل لم تفارقه حتى في أحلك الظروف.
وقد اتّخذه القائد محمد شعباني قائد الولاية السادسة كاتبا له برتبة ملازم، حيث شارك في عدة معارك بالمنطقة الرابعة بالولاية السادسة، إلى غاية استشهاده سنة 1959 بجبل قعقع، وبذلك أُسدل الستار عن أحد أبطال الجزائر، الذين ذادوا عنها بالقلم والبندقة.