هجومات الشمال القسنطيني، الباحث أحسن ثليلاني :

زيغـود وضع الثـــورة في مســار تدويـل القضية

حوار: فاطمة الوحش

 هجـومـات 20 أوت عجّلت باستقـلال الجزائـر

تزامنا وذكرى هجومات الشمال القسنطيني التي انطلقت بتاريخ 20 أوت 1955، خصّ الدكتور أحسن ثليلاني جريدة « الشعب » بحوار تحدث فيه عن تلك الهجومات التي شنّها جيش التحرير الوطني بقيادة الشهيد زيغود يوسف كردّ فعل على محاولة جيش الاحتلال الفرنسي تطويق الثورة ودعما للنضال السياسي لجبهة التحرير، فكانت بمثابة صفعة قوية للسلطات الاستعمارية أدت إلى تحقيق أهداف استراتيجية كبيرة جعلت كل المؤرخين يصفونها بأنّها بمثابة فاتح نوفمبر ثان.

الدكتور أحسن ثليلاني، أستاذ جامعي باحث أكاديمي ناقد ومترجم، شغل عدة مناصب منها أستاذ في الأدب بكلية الآداب واللغات الأجنبية بجامعة 20 أوت 1955، ويشغل حاليا منصب مدير الثقافة لولاية عنابة. له عديد الكتب المنشورة من بينها: الثورة الجزائرية في المسرح العربي، الحداد الثائر – صفحات من سيرة البطل الشهيد زيغود يوسف، المسرح الجزائري والثورة التحريرية...، كما له دراسات وبحوث منشورة في عديد من المجلات الجامعية.
الشعب: الشهيد زيغود يوسف شخصية بارزة كان له دور كبير وبارز في تخطيط وتنفيذ هجومات الشمال القسنطيني واعتبر عقلها المدبر، كيف توصل زيغود يوسف إلى هذه الفكرة؟
أحسن ثليلاني: قناعتي كباحث أنّ تنظيم زيغود يوسف للهجومات اتسم بعبقرية كبيرة التي لا يوجد لها مثيل في العالم ولا أحد نظم هجومات كاسحة في يوم واحد بغتة وفي منتصف النهار، وبحثت كيف توصل زيغود يوسف إلى هدف الفكرة فوجدت أنه كان قد تأثر كثيرا باستشهاد قائده ديدوش مراد يوم 18 جانفي 1955، إذ أنّ ديدوش مراد الذي ينحدر من قرية إبسمرين منطقة أغريب، والذي ولد بالعاصمة، يعد أصغر القادة الستة التاريخيين، وأكثرهم ثقافة، أول شهيد سقط في ميدان الشرف في الشمال القسنطيني وعمره لم يتجاور الـ 27 سنة، تحديدا في منطقة سمندو، أو كما تسمى بوكركر، المحاذية لبلدية زيغود يوسف ولاية قسنطينة حاليا.
يروي لي المجاهد الفذ بوشريحة بولعراس، أحد رفقاء زيغود يوسف، أنّ الشهيد  قد غضب غضبا شديدا لاستشهاد ديدوش مراد لدرجة امتناعه عن الأكل والشرب لعدة أيام، وكان لا يتوقف عن القول «يجب أن نهجم على الاستعمار كلنا جميعا مرة واحدة»، فكنت أناقشه وأحاول تهدئته سائلا «ايه، كيفاش نهجمو عليهم كلنا ؟» وكان رده «كلنا، يعنى كل الشعب، رجالا، نساء وأطفال»، ولما نبهته أنّ ذلك قد يؤدي إلى قتل المئات أو الألاف على يد المحتلين، كان يرد علي «نموت شهداء ولا حياة الجيفة»، فسألته «ومن قال لك أنّ الشعب سيهجم معنا ؟» فرد علي «نستفتي الشعب ونستمع لردهم»، فسألته «ماهي الطريقة التي نستفتي بها الشعب ؟» أجابني بكل ثقة «نطرح المبادرة على أهلنا أولا، ثم نمضي بسؤالنا بمعارفنا الذين نثق فيهم وشيئا فشيئا نوسع الاستشارة في سرية حتى يتضح لنا الطريق». وبعد الاستفتاء وجد مساندة شعبية واسعة لفكرته لينطلق زيغود يدعو رفاقه للاجتماع والتشاور فيما يعرف بمؤتمر الزامان أين رسم الخطة للقيام بهجومات 20، 21 و22 أوت 1955.
- ما هي الخلفيات التي سبقت الهجومات وما هو إطارها الزماني والمكاني؟
 جاءت هجومات 20 أوت 1955، بعد تسعة (9) أشهر من اندلاع الثورة، حيث شددت السلطات الفرنسية الخناق على منطقة الأوراس التي تعد مهد الثورة التحريرية ومركز قوتها، فبدأ زيغود يوسف يفكر في شن هجومات شعبية شاملة عندما تلقى رسالة من القائد شيهاني بشير يطلب منه فيها القيام بعمل من شأنه إجبار إدارة الاحتلال على تشتيت قواتها وبالتالي فك الحصار عن منطقة الأوراس.
كانت خطة زيغود يوسف أن تكون هجومات شاملة لكل القطر الجزائري شرقا وغربا شمالا وجنوبا، لكن الظروف جعلت الهجومات تقتصر على الشمال القسنطيني والذي يضم ستة (6) ولايات هي جزء من سطيف وقسنطينة وميلة وجيجل وسكيكدة وقالمة وعنابة، حيث كانت الهجومات مباغتة وكاسحة وفي منتصف النهار.
- كيف ولماذا اختار الشهيد زيغود هذا التاريخ بالتحديد؟
 اختار زيغود يوسف تاريخ 20 أوت بعناية فائقة وعبقرية منقطعة النظير، لأنه يوافق يوم السبت، هو بالنسبة للمعمرين يوم عطلة، يكون فيه نوع من التراخي في المراقبة، وأيضا لأنه يصادف الذكرى الثانية لنفي ملك المغرب محمد السادس إلى مدغشقر وبالتالي فهو تضامن مع الشعب المغربي، وهذا ما يؤكد البعد المغاربي للثورة الجزائرية، ولم يخبر زيغود يوسف أحدا من قادة الثورة ولا حتى من نوابه أو رفاقه بموعد الهجومات إلا قبيل 3 أيام من انطلاقها.
- ما هي الأهداف التي تم تحديدها من وراء الهجومات على الصعيدين الداخلي والخارجي ؟
 كان لهذه الهجمات أهداف متعددة، إذ لا ننسى أن هذه الهجمات جاءت أياما قبيل انعقاد مجلس الأمم المتحدة، وهذه الهجومات أدخلت القضية الجزائرية لأول مرة إلى الأمم المتحدة، كما لا يمكننا تجاهل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة داخل البلاد العربية، إضافة إلى الظروف السياسية الدولية التي كانت لصالح شن هذه الهجومات الكاسحة من أجل التعريف بالقضية الجزائرية وإعلاء صوتها، وقضت على تردد الكثير من رجال السياسية الجزائريين الذين تأخروا في مساندة الثورة، ولم ينخرطوا في النضال السياسي لجبهة التحرير الوطني إلا بعد ردة فعل السلطات الاستعمارية التي اتسمت بالعنف الشديد والمبالغ فيه.
- كيف كانت ردة فعل قوات الاستعمار الفرنسي؟
 تفاجأت فرنسا بهذه الهبّة القوية بخروج الرجال والنساء، فمثلا بمدينة القل من شدة قوة الهجومات شاهد شهود عيان مواطن جزائري يجري وراء عسكري فرنسي بـ «المزبر» والفرنسي بيده رشاش لكنه كان يصرخ هاربا، والناس في مدينة القل من شدة الاندفاع حرروا المدينة ولم تستطع فرنسا استرجاعها إلا باستعمال البوارج الحربية.
قدمت باخرة من فرنسا إلى سكيكدة وكان على متنها أكثر من 700 عامل جزائري كانوا يعملون في فرنسا ليجدوا أنفسهم في قلب الهجومات وشاركوا فيها، فانتقمت منهم فرنسا وقتلت منهم المئات ويقدر عدد الشهداء في سكيكدة وحدها تقريبا 10 آلاف حتى أنّ فرنسا قامت بدفنهم في ملعب سكيكدة بالجرافات، كما تم حفر خنادق عديدة للدفن الجماعي للشهداء وبعضهم أحياء في صورة إجرامية بشعة، وأرغمت جزائريا من بلدية إمزاج الدشيش على سياقة هذه الجرافة ودفن إخوانه، ولأن هذا السائق وطني، لم يتحمل بشاعة الفعل والمنظر فجنّ جنونه وفقد عقله.
وفي بلدية عين عبيد الواقعة بين قسنطينة وقالمة، قضت فرنسا على نصف سكانها الذين كان يقدر عددهم في ذلك الوقت بـ 1500 شخص استشهد منهم أكثر من 750 فرد، ويؤكد المؤرخون أنّ القتل قد استمر لأسبوع كامل وأنّ عساكر الاحتلال كانوا يدفنون الشهداء بالعشرات بل بالمئات جماعيا، إذ أنّ كل جزائري في عين عبيد كان هدفا لرصاص المحتل، ومن أغرب الحكايات التي وقعت هناك عقب هذه الهجومات، أن عساكر العدو وضعوا المتاريس وحواجز التفتيش في كل الطرقات المؤدية من وإلى عين عبيد بين قالمة وقسنطينة، وصادف أن مرت حافلة قادمة من عنابة متجهة نحو قسنطينة، فأوقفها العساكر وراحوا يتفحصون هويات ركابها ويفتشونهم، فكان هناك مسافر شاب ينحدر من مدينة عنابة، ذنبه الوحيد أنّ بطاقة هويته مكتوب عليها «ولد بعين عبيد»، لأنّ والده كان يعمل في محطة القطار بعين عبيد، وشاءت الصدف أن يصحب زوجته الحامل معه فوضعت طفلها هناك، وعبثا حاول الشاب أن يشرح وضعه لعساكر الاحتلال الذين لم يتركوا له الفرصة وأطلقوا عليه الرصاص وسط دهشة ركاب الحافلة، وتم إعدامه بدم بارد.
للإشارة، بلغ عدد الشهداء 20 ألف شهيد حسب أحدث دراسة للمؤرخ الأمريكي الشهير ماتيو كونلي، الذي أكد المؤرخ أنّ أغلبهم قد تم قتلهم بطريقة انتقامية بشعة على يد المعمرين الفرنسيين بعد أن تلقوا الضوء الأخضر من السلطات الاستعمارية. كما أن هجمات 20 أوت 1955 عممت الثورة على ربوع كل الوطن فبعد انتفاضة سكيكدة انتقلت شرارة الثورة إلى الغرب الجزائري لتقع أحداث أخرى في مدينة وهران.
- هل ترون أنه تمت دراسة تلك الهجومات بالقدر الذي تستحقه من طرف الجزائريين ؟
 للأسف، لم تتم دراسة تلك الهجومات بالقدر الذي تستحقه، لحد الآن، ولم نعمل عليها شريطا وثائقيا صحيحا وسليما، كما أن أبعادها ووقائعها لم تدرس، يجب أن نسترجع محاضر الاستنطاقات تلك التي تكشف لنا هوية الشهداء لأن المئات منهم تم دفنهم وهم غير معروفين، لماذا لا نبحث مثلا عن اسم الباخرة التي تحدثت عنها آنفا ونحاول إحضار أسماء الجزائريين الذي جاؤوا على متنها ؟ ألفت مؤرخة فرنسية موسكوبو كتاب 20 أوت 1955، تكلمت فيه عن المذبحة التي وقعت في شاطئ القل وقالت أنه قتل عدد كبير من الجزائريين هناك، يجب على المؤرخين دراسة تلك الهجومات لأنها في اعتقادي عجلت باستقلال الجزائر.
-  أسفرت هجومات 20 أوت عن نتائج هامة في صالح الثورة، برأيكم ما هي أهم هذه النتائج ؟
 يعجبني عمار بن عودة رحمه الله وهو أحد رفاق زيغود يوسف الذي قال أنه يوم 19 أوت كان عندما يلتقي الجزائري مع الفرنسي في الطريق يطأطئ الجزائري رأسه والفرنسي يرفعه معتدا ومتكبرا، لكن بعد 20 أوت انقلبت الموازين وأصبح العكس، وهناك من المعمرين من بدأوا يحملون حقائبهم ويغادرون البلد، أي أنهم فهموا بأنه لم يبق مكان ووجود في الجزائر. وضع زيغود يوسف الثورة في المدار الحقيقي فدخلت القضية الجزائرية إلى الأمم المتحدة وتم فضح فرنسا، ولذلك توصف هجومات 20 أوت بأنها نوفمبر الثانية، بل أنّ الكثير من المؤرخين قالوا لو أنّ زيغود يوسف لم ينظم هذه الهجومات لكانت الثورة ستطول أكثر، فهجومات 20 أوت عجلت باستقلال الجزائر.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024