جيجل / هجومات الشمال القسنطيني نوفمبر ثان

تحطيم التفوق العسكري الفرنسي وتحرير «آراقو» برج علي حاليا

إعداد / جمال كربوش

كان الخطر محدقا بالجميع على حد سواء، على حد قول كبار السن القاطنين في المنطقة وضواحيها خلال فترة الثورة التحريرية خاصة وأن جل السكان يقطنون في المناطق الجبلية، الأكثر رعبا وخوفا، خاصة من ردود الفعل الوحشية للجيش الفرنسي، الذي كان في كل مناسبة يظهر همجية في حق الأبرياء والعزل، في محاولة لإعادة فكرة تفوقه وإعادة هيبته داخليا وخارجيا بعد اندلاع الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر 1954، لكن كل محاولاته ضربت في العشرين «20 من أوت 1955» على امتداد الشمال القسنطيني، التي أشرف عليها القائد البطل زيغود يوسف، فكانت هذه العمليات وبحسب المختصين في تاريخ الثورة التحريرية بمثابة نوفمبر ثان، لكنه كان أكثر فعالية، وأكثر تأثيرا على العدو الفرنسي خاصة أنها استطاعت بوضوح تحطيم فكرة التفوق العسكري الفرنسي التي كان يحاول استرجاعها وبدل استرجاع هيبته عفر أنف الهمجية الفرنسية في الوحل بعمليات أقل ما يقال عنها أنها نوعية وفعالة.
إن خلفيات وتفاصيل وإجراء هذه العمليات ليؤكد أنها لم تكن من محض الصدفة، بل كانت بفضل جهد وتخطيط، وما يؤكد ذلك أيضا أنها تمت بشكل منظم ومتقن، وكانت بذلك تهدف إلى تحقيق نتائج كبيرة لصالح الثورة والشعب الجزائري، والرد على مقولة «الخارجون عن القانون»، وإن نتائجها جعلتها منعرجا حقيقيا، وتحولا كبيرا في مسار الثورة التحريرية المباركة، وبمثابة الإنطلاقة الفعلية لثورة شعبية شاملة.
في هذا الإطار، نتناول عمليات العشرين «20» من أوت 1955، أين سنركز على جزء منها التي جرت على مستوى شرق ولاية جيجل، في منطقة الميلية، باعتبار أن الميلية «أم القرى»، كما يصفها البعض من المختصين، التي شهدت عمليات مهمة جدا، كان ثمرتها تحرير أول بقعة جغرافية في الجزائر، وهي منطقة برج علي حاليا، المسماة آنذاك «آراقو»، حيث جرت العمليات في إطار عمليات شاملة في منطقة الشمال القسنطيني، لكننا سنتناولها من نظرة أحد المشاركين فيها، إنه المجاهد بوسنان الزيتوني، الذي استطعنا الحصول على شهادته من خلال التنقيب في تاريخ ثورتنا المجيدة، الذي سبق وأن قدم شهادته حولها في العشرين «20 من أوت 2017» ببلدية السطارة، قبل وفاته في جانفي 2020، كما ترك شهادته بخط يده في مذكراته للأجيال اللاحقة.
التحضير للهجوم:
بدأ التحضير لهذه العمليات التي ستنفذ في محيط منطقة السطارة في الحادي عشرة «11»من شهر أوت 1955، في مركز «اليسريين» تايراو حاليا، عند الأحمر محمد، المسؤول السياسي في المنطقة، والذي أشرف عليها المجاهد عبد الله بن طبال، بحضور مجموعة من المجاهدين، ومنهم عبد الله بن طبال، مسعود بوعلي، محمد الأحمر، مسعود بن الصم المدعو بمسعود الطاهيري، العبودي أحمد، السارجان بابا، بوالصيادة رابح، على العواطي المعروف بعلي زغدود وبوسنان الزيتوني وآخرون...
كان الهدف من هذا اللقاء التحضير المادي واللوجستي والتخطيط لإجراء هذه الهجومات، ودراسة الوسائل والطرق وكيفيات الهجوم على مراكز ومسالك الجيش الفرنسي، ومكان إقامة المعمرين، في ذلك يؤكد المجاهد بوسنان الزيتوني أن التحضير للعمليات قد دام ثمانية «08» أيام كاملة، وكنا ــ بحسبه ــ خلال هذه المدة ننتقل خلال النهار إلى الجبل قرب منطقة العين الحمراء، أما ليلا فنعود إلى المركز.
في يوم التاسع عشر «19» من شهر أوت 1955 اجتمع المجاهدون في جبل دار عمران فوق مشتة الدرامة، أين حضر مجموعة من أفراد ومسؤولي جيش التحرير الوطني، وكذا المسؤولين المدنيين، وحينها ألقى السيد مسعود بوعلي بحضور بن طبال الذي طلب منه ذلك، كان تدخل مسعود بوعلي خطابا حماسيا، تحدث فيه عن المهمة التي ستنفذ في اليوم الموالي «20 أوت 1955» في وضح النهار، على الساعة الـ: 12 زولا، أين ستشمل كل الأماكن التي حددت من قبل، والتي ستحطم هاجس الخوف من فرنسا وجيشها وسط الشعب الجزائري، ثم حددت مهمة كل مجموعة ومكان تدخلها، فكان المجاهد بوسنان الزيتوني ضمن المجموعة التي ستنفذ الهجوم على قرية «كاتينة» السطارة حاليا وضواحيها.
تنفيذ الهجومات:
في ليلة العشرين من أوت تم القيام بالهجوم على قرية «أراقو» برج علي حاليا، فأشعلت النيران في كل شيء يملكه المعمرون، بداية بإحراق المحصول الزراعي الذي كان قد جمع في مكان الدرس، وجرارات ووسائل أخرى، ثم استهدف مستودع المازوت فأحرق، وأحرقت كل سكنات المعمرين والطاحونة ذات العجلة الحديدية الكبيرة، بحيث أصبحت كل القرية في فترة وجيزة مشتعلة عن آخرها.
وفي العشرين «20» من أوت 1955 اتجهت المجموعة نحو قرية «كاتينة» السطارة حاليا، وبدأ الهجوم بعدما تسلل المجاهدين من الجنوب الغربي للمنطقة عبر الغابة، إلى غاية وصولهم إلى القنطرة، فقطع المجاهدون الطريق مشيا تحت أشجار الزيتون ليصلوا إلى القرية، أين وجدوا أفراد الجيش الفرنسي في الحانة، الذين أمطروا بالرصاص، وكان ذلك على الساعة الثانية عشرة «12» زوالا، ومن شدة الصدمة على العساكر الفرنسيين فروا إلى الشعاب المحيطة بالقرية.
فاقتحم المجاهد علي بوزردوم مكتب الضابط الفرنسي «برتبة نقيب» وقضى عليه، ثم استشهد بعد ذلك في نفس العملية، من جهة قام المجاهد بوسنان الزيتوني كما يؤكد بالهجوم على مكتب البريد، وبعد استحالة كسر باب المكتب، قام بكسر النافذة الموجودة فوقها، وبعد دخوله اتضح له أن المكتب هو في الأصل عبارة سكن، وبعدما دخل أحسس بوجود شخص وراء خزانة، فأطلق عليه النار ليرديه قتيلا، أين تبين له إمرأة، بعد خروجه وصل صاحب المنزل وكان يقود سيارة «جيب»، الذي تلقى بدوره هو الآخر وابلا من الرصاص ومات بجانب المنزل، ليتضح بعدها أنه نائب رئيس بلدية الميلية.
وبعدها انسحب المجاهدون نحو منطقة « «آراقوا» على الطريق المعبد، وبعد عبور منطقة «بوشارف» صادف المجاهدون جموع من الناس، الذين وجدوهم قد قاموا بهدم الطريق لمنع مرور أي سيارة، تابع المجاهدون الطريق ولما وصلوا إلى منطقة «الشميلي» أخرج المجاهد بوسنان الزيتوني العلم الجزائرية وعلقه فوق شجرة زيتون بمحاذاة الطريق، وقبالة عين قشرة.
«آراقو» تحت سيطرة المجاهدين:
أكد المجاهد بوسنان الزيتوني أن الجيش الفرنسي الذي كان يراقب المنطقة من عين قشرة التابعة لولاية سكيكدة حاليا، صرح بأنه يوجد حوالي 3000 فلاق منتشر في المنطقة.
بعدها دخل المجاهدون قرية «آراقو» كالفاتحين وسط جموع من الشعب الجزائري، وبذلك استطاعت الثورة تحرير أول منطقة في الجزائر، وحينها أمروهم بأن يأخذوا كل ما يوجد صالحا للإستعمال من داخل سكنات المعمرين؛ من أثاث وأواني ومستلزمات أخرى، والحبوب وغيرها، تم قاموا بوضع مراقبة على البساتين التي كانت ممتلئة بالأشجار المثمرة، والتي كانت مثقلة حينها بالفواكه، كما تم توزيع حيوانات المعمرين على السكان من الشعب الجزائري.
أهداف هجومات 20 أوت
لهذه الهجومات هدفين أساسيين، الأول دحض مقولة «الخارجين عن القانون»، أما الهدف الثاني هو إبراز قوة جيش التحرير الوطني، بدليل الهجوم على الجيش الفرنسي في وضح النهار « ساعة الزوال 12 « وبدون خوف، أما الأهداف الثانوية فهي فك الحصار على المجاهدين بمنطقة الأوراس التي جندت لها فرنسا قوة كبيرة باعتبار أن الأوراس مهد الثورة التحريرية، ثم التضامن مع ملك المغرب محمد الخامس، الذي نفته السلطات الفرنسية إلى جزيرة مدغشقر ونصبت مكانه «القلاوي» ملكا على المغرب.
39 عملية أرعبت الجيش الفرنسي
نفذت الثورة 39 عملية موزعة عبر منطقة الشمال القسنطيني، التي تفاوتت من حيث تحقيق أهدافها، ومن حيث رد فعل السلطات الفرنسية عليها، وقد دامت مدة العمليات ثلاثة «03» أيام كاملة 20، 21 و22 أوت، واستهدفت العديد من المناطق، منها نصب كمائن، ككمين منطقة الزان على الطريق بين الميلية وسكيكدة، أين تم قتل شرطي فرنسي وغنم مسدسه، كمين أم الحنوش بالميلية على طريق مدينة القل، كما تم تحطيم عدة جسور، وقطع الأشجار على الطريق بين الميلية وسكيكدة قرب زرزور، وقطع أعمدة الكهرباء والتليفون.
بضواحي مدينة الميلية وعلى مسافة حوالي خمس «05» كيلومتر على الطريق المؤدي إلى قسنطينة وضع كمين استهدف حاكم الميلية «رينو»، والذي قضي عليه وتم غنم مسدسه الرشاش، وقد عمل المجاهدين آنذاك على عزل مدينة الميلية عن العالم الخارجي، فقاموا بمحاصرتها وهو ما دفع بالجنود الفرنسيين بالبقاء في أماكنهم وثكناتهم، واتخذوا موقف الدفاع والحذر فقط.
ومن أهم الكمائن أيضا التي أرعبت الجيش الفرنسي، كمين واد زقار، أين تم القضاء على عدد من الجنود الفرنسيين، وغنم بندقية رشاشة، ومن المجاهدون الذين استشهدوا من ناحية الميلية، قليل زيدان ولقرون يوسف.
ومن الشهداء الذين سقطوا في هذه العمليات بغيجة بوخميس وزرطال عبد الحميد اللذان كانا بدون أسلحة، فانقضا على جنديين فرنسيين باستعمال السلاح الأبيض واستطاعا القضاء عليهما وأخذا سلاحمها، وواصلا به القتال حتى استشهدا في نفس اليوم.
زيغود يهدي قائد المنطقة مصحفا شريفا
للإشارة، ومن خلال مصادر أخرى، فقد تم تشكيل خمس «05» فرق في هذه المنطقة، الأولى يترأسها أحمد العبودي كلفت بالهجوم على كاتينة، الفرقة الثانية بقيادة صالح مزدور هاجمت عين قشرة التابعة حاليا لولاية سكيكدة، الفرقة الثالثة بقيادة عمر قرفي هاجمت جسر احزوزاين، أما الفرقة الرابعة فاستهدفت العنصر بقيادة شعراوي مسعود، في حين أن الفرقة الخامسة بقيادة مسعود بوعلي فقد قسمت بدورها إلى فرقتين، الأولى للمسلحين والثانية للمسبلين وتنشط بمنطقة الميلية.
وقد أدت عمليات العشرين «20 من أوت 1955» إلى سقوط خمس شهداء فقط في مختلف العمليات، هذا على مستوى منطقة الميلية بضواحيها الميلية، العنصر، السطارة وعين قشرة، وقد حققت نجاحا كبيرا بالنظر إلى باقي المناطق، خاصة وأنها اعتمدت في هجوماتها على طريقة الدفع بالمجاهدين المسلحين ثم يأتي دور المسبلين والشعب في الأخير لتفادي سقوط ضحايا، فكانت خطة قائد المنطقة «مسعود بوعلي» ناجحة حالت دون تسجيل خسائر في صفوف الشعب.
للإشارة أيضا فإن ذكرى عمليات 20 من أوت 1955 التي عاشها شرق ولاية جيجل ما زالت لم تنل حظها من الإهتمام وهو ما يجعلها خارج جداول الإحتفالات الرسمية، رغم كونها أهم محطات تاريخ الجزائر وليس تاريخ الثورة التحريرية المباركة فقط، وهو ما يطرح الكثير من التساؤلات التي حملنا إياها بعض المواطنين الذين طالبوا بشكل صريح بضرورة إعادة الإعتبار لهذه الذكرى، التي تعتبر من أمجاد أبناء المنطقة، والتي حققت نجاحا كبيرا كلل بتحرير أول منطقة في الجزائر، إنها «آراقوا»، ونالت الإعتراف من القائد زيغود يوسف الذي قدم لمسعود بوعلي مصحفا شريفا، وقال له: «إن هجومات 20 أوت فشلت عسكريا في سكيكدة، ونجحت سياسيا وعسكريا في الميلية».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024