من باب تذكر عالم متوفي هو إعادة الحياة إليه من جديد ، نتوقف عند محطات بارزة في حياته القصيرة،فقد توفي الشيخ فرحات بن الدراجي في 13 ماي 1951 و هو لم يتجاوز الثانية و الأربعين من عمره ،غير أنه خلدها بجلائل الأعمال و المواقف المشرفة . و برحيله المبكر فقدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين دعامة قوية من دعائم الحركة الإصلاحية في ميدان الخطابة و التدريس والقلم، و خسرت جريدة البصائر أحد كتابها المتميزين، حيث نشر في عددها الأول من سلسلتها الأولى الصادر في 27 ديسمبر 1935 مقالة تحت عنوان ( جمعية العلماء و حاجتها الى جريدة )، كما نشر في عددها الأول من سلسلتها الثانية الصادر في 25 جويلية 1947 مقالته ( انتهت حرب الحريات فأين الحريات ) .
يكفيه فخرا أن اسمه قد أطلق على مؤسسة تربوية ببلدية ليشانة دائرة طولقة من ولاية بسكرة هي إكمالية فرحات بوحامد ،كما كان محور الندوة الفكرية الثالثة التي أقامتها شعبة جمعية العلماء ببلدة ليشانة حول مكانة و دور العلماء في الإصلاح المقامة يوم 07 جوان 2014 ، و كنت من بين الأساتذة المشاركين في فعالياتها المتميزة .
نسبه و عائلته:
ينتمي الشيخ فرحات بن الدراجي الى فرقة العبيديات المنحدرة من أبناء أبي الهول إحدى القبائل القادمة من الساقية الحمراء ،عكس ما ذهب إليه الأستاذ أحمد بن ذياب من كونها إحدى القبائل الهلالية المنتشرة بالبلاد ،و قد حملت اسم أبي الهول لشدة الهول و الفزع الذي كانت تثيره في نفوس الناس عند إقامة حفلاتها الدينية التي تشبه الى حد كبير طقوس شايب عاشوراء، كما كان أبناؤها من المحافظين على ترديد قصيدة البردة للبوصيري في المناسبات المختلفة .
و قد جاء أجداده الأولون من الأراضي التونسية ،و استوطنوا منطقة وادي الذهب التابعة لبلدية القلتة الزرقاء التي تبعد عن مدينة العلمة من ولاية سطيف بحوالي 12 كلم .
عند تنصيب بوعزيز بن قانة شيخا للعرب على منطقة الزيبان بعد الاحتلال الفرنسي خلفا لفرحات بن سعيد من عائلة بوعكاز ، أسندت الى أفراد من عائلة بوحامد مشيخة بلدة ليشانة، من أجل تسيير شؤونها الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية ، وهكذا استقروا بالمنطقة ،و امتلكوا الأراضي الفلاحية و اندمجوا مع سكانها،و مع مرور الزمن أصبحوا من أبنائها المحترمين الفاعلين و منالعائلات المشكلة لنسيجها الاجتماعي.
و هناك من يرجح أن لقب ( بوحامد ) ينسب الى أصولهم المرتبطة بقلعة بني حماد التي تقع شمال شرق مدينة المسيلة على سفح جبل المعاضيد بالحدود الشمالية لسهول الحضنة .و قد تم بناء هذه المدينة سنة 1007/1008 من طرف حماد بن بلكين .
كانت عائلة بوحامد تملك غابة المبدوعة الغنية بنخيل التمر الجيد و أشجار الفواكه المثمرة خاصة أشجار البرتقال ،إضافة الى تربية الطيور المختلفة مثل الطاووس. كما كانت المبدوعة المكان المفضل لأداء صلاة التراويح خلال شهر رمضان الفضيل، حيث تستقبل الوفود القادمة من الأحياء المجاورة و بلدات الزاب الغربي ،و يطلق على هذا المكان اسم الزوية .
و من الذين تولوا المشيخة من عائلة بوحامد :
- لحسن الى غاية مقتله حوالي سنة 1869 ، فاستخلفه ابنه أحمد الى غاية سنة 1899 حيث تم عزله من طرف القايد ابن قانة ، و قد كتب رسالة الى الحاكم العام الفرنسي يطلب منه توضيحات لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أدت الى تنحيته من منصبه ، ثم تولى المشيخة الدراجي- والد مترجمنا - الى غاية وفاته سنة 1938 ،فاستخلفه ابنه الباشا حتى وفاته بفرنسا سنة 1954، ثم جاء بعده أخوه عبد الملك الذي لم يعمر طويلا في منصبه كقائد على منطقة طولقة ،فقد رفض المنصب و تخلى عنه بعد اندلاع الثورة التحريرية ( 1954-1962) مباشرة .
مولده و تعلمه :
هو فرحات بن الدراجي بن أحمد بن لحسن بن بوحامد . و حملت عائلته لقب بوحامد بعد دخول تسجيلات الحالة المدنية الى منطقة الزيبان في جانفي 1933.و سجل أفراد عائلة بوحامد يوم 25 جانفي 1933 .
و والدته هي المرأة الصالحة نامة بنت إبراهيم (حسب شهادة وفاته رقم 451 ) أو نميرة بنت ابراهيم ( حسب عقد زواجه الأول رقم 07 ) أو تاتبة بنت ابراهيم (حسب عقد زواجه الثاني رقم 148 ) .
ولد الشيخ فرحات في 01 مارس 1909 ببلدة ليشانة حسب شهادة ميلاده رقم 1032 المسجلة ببلدية بوشقرون ، و إن كان بعض من كتب عنه يرجح تاريخ ازدياده بسنة 1906 .
و ليشانة هي إحدى بلديات دائرة طولقة من ولاية بسكرة حاليا ، كانت تابعة الى بلدية بوشقرون قبل التقسيم الإداري لسنة 1984 .
أنجبت العديد من العلماء منهم: سعادة الرحماني الرياحي من القرن الثامن الهجري الذي حارب دولة بني مزني ،و الشيخ عبد الرحمان بولقرون من القرن العاشر الهجري وهو من أساتذة الشيخ عبد الرحمان الأخضري المعروف بتآليفه العديدة في الفقه و الفلك و التصوف و الحساب ،وفي العصر الحديث الشاعر أحمد سحنون أحد وجوه الصحوة الإسلامية في الجزائر، كما شهدت أرضها ملحمة البطولة في أحداث ثورة الزعاطشة الشعبية بقيادة الشيخ بوزيان سنة 1849 ضد المحتل الفرنسي .
و مترجمنا هو الثالث في عائلة الدراجي المؤلفة من أربعة أولاد : المخازني توفي سنة 1936 ،و الباشا توفي سنة 1954، و فرحات توفي سنة 1951 ،و عبد الملك توفي سنة 2008 و ثلاثة بنات هن: زكية و شهلة و بشرة .
حفظ القرآن الكريم و مبادئ اللغة العربية ببلدة ليشانة و فرفار على يد الشيخ محمد خير الدين مع مجموعة من أقرانه منهم: أحمد سحنون و حسين بوعبد الله و علي بن العرافي مغزي .
و لأن أسرته ميسورة الحال، فوالده الدراجي كان شيخ البلدة - حسب المصطلح الحالي رئيس البلدية - ،لهذا شجعه على التحصيل العلمي خارج حدود الجزائر حتى يراه يوما من كبار علمائها ،و يفتخر به بين علماء المنطقة ،خاصة علماء زاوية الشيخ علي بن عمر ببرج طولقة .
و هو ما يؤكده ابن بلدته الشاعر أحمد سحنون في قصيدة رثائه للشيخ الدراجي بوحامد نشرت في جريدة البصائر العدد 123 الصادر في 22 جويلية 1938 يكشف فيها عن الخصال الحميدة التي تميز بها الفقيد منها قوله :
بأب لك كان آخر ما أبقى لك الدهر من خيوط الرجاء
كان و الحق ليس ينكر في الناس مثالا من همة و مضاء
كان و الحق ليس ينكر للإصلاح مهما يدعى من النصراء
كان أقصى مناه أن تك في يوم قريب من أكبر العلماء
السفر الى تونس :
سافر الشاب فرحات بن الدراجي في خريف 1924 الى تونس و تفرغ للتحصيل العلمي على كبار علماء جامع الزيتونة المعمور.
خلال السنوات التي كان يتابع فيها دراسته بجامع الزيتونة ، و أثناء عودته الى بلدته في العطل الصيفية ، كان يتطوع بالتدريس لأبناء المنطقة ، و منهم أخوه الباشا الذي حفظ على يديه القرآن الكريم ،و كان يحترمه كثيرا رغم توجهاته السياسية المختلفة عنه ،فهو قريب من أفكار السياسي فرحات عباس ، الى غاية حصوله على شهادة التطويع سنة 1931 و عودته النهائية الى أرض الوطن ،و هي السنة التي تأسست فيها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بنادي الترقي بالعاصمة و كأن الأقدار أرسلته ليكون من جنودها العاملين الفاعلين .
في تونس كان الشيخ فرحات بن الدراجي مهتما بالمطالعة و شراء الكتب القيمة من مكتبات الخلدونية و العبدلية و العطارين ، و أغلب ما يصله من مال من طرف والده كان ينفقه في شراء الكتب و المجلات .
و هو ما أشار إليه في مقاله ( تهذيب المدونة لأبي سعيد البراذعي ) المنشور في جريدة الشهاب الجزء 6 المجلد 15 لسنة 1939 ( و لعت من عهد الصغر بكتب السلف و آثار القدماء ،لعلمي أنها أكبر عون على تحصيل العلم و أقرب موصل الى تفهم الدين ،و لأنها ألفت في عصور ازدهار الإسلام ،و لأن السلف رضي الله عنهم كانوا أقدر تصرفا في علومهم، و أفصح تعبيرا عن مقاصدهم من الخلف ).
كما أكده زميله في الدراسة الشيخ حمزة بوكوشة في مقال نشر في جريدة البصائر (عرفته تلميذا في رحاب جامع الزيتونة ، فكان مثال الحرص و الاجتهاد و المواظبة على الدروس، و مثلا شرودا بين التلامذة في حفظ المتون و استظهارها ،و اقتناء أعلاق الكتب و نفائسها).
وأنشأ مكتبة عظيمة كانت تحتوي على أكثر من 800 مجلدا قبل وفاته حسب المقربين منه .
المصلح المربي :
بعد عودة الشيخ فرحات بن الدراجي الى أرض الوطن ،انتقل الى مدينة سيق بناحية معسكر للتدريس بمدرستها الحرة ،خلفا للشيخ العربي التبسي الذي رجع الى مدينته تبسة بطلب من سكانها ،بعد تأسيس مدرسة تهذيب البنين والبنات في أواخر سنة 1931 .
غير أن طموح مترجمنا كان كبيرا ،مقارنة بحجم مدينة سيق الصغيرة ، مما أجبره على أن يقضي أوقاته في المطالعة والخروج الى المدن القريبة منها ،من أجل نشر الأفكار الإصلاحية بين العامة ،مع حثهم على تأسيس المدارس الحرة ،والدعوة الى إرسال أبنائهم للدراسة و التعليم و حفظ القرآن الكريم .
لم تطل به المدة في مدينة سيق ،فما أن تم انتقال مدرسة الشبيبة الإسلامية الى مقرها الجديد بشارع لوني أرزقي بالجزائر العاصمة في نوفمبر 1932 ،حتى استدعي من طرف جمعيتها الخيرية للتدريس بها .و كان يديرها الشاعر محمد العيد آل خليفة منذ سنة 1927 بمعية مجموعة من الأساتذة هم :أحمد جلول البدوي ، عبد الرحمان الجيلالي ، باعزيز بن عمر ، محمد الهادي السنوسي .
مع العلم أن الإمام عبد الحميد بن باديس طلب منه القدوم الى مدينة قسنطينة حتى يكون ضمن هيأة التدريس بالجامع الأخضر ، لكن الظروف لم تساعده على تلبية الطلب .
زواجه:
كانت الظروف ميسرة للشيخ فرحات بن الدراجي للزواج و بناء أسرة بالعاصمة ،فقد تزوج في 16 جانفي 1935 من كريمة الرجل الفاضل أمحمد بوفجي أحد أنصار الإصلاح و مؤيديه بالعاصمة ،و هي السيدة بوفجي زوليخة من برج زمورة بناحية برج بوعريريج ،و هي أخت المربية المجاهدة شامة بوفجي التي تعتبر أول معلمة بالعربية في الجزائر ،حيث أسست مدرسة شريفة الأعمال لتعليم البنات في حي القصبة بالعاصمة ،كما كانت مديرة مدرسة ببرج بوعريريج بعد الاستقلال ، و قد رزق منها بابنه البكر عز الدين في نوفمبر 1936 ،لكن القدر أخذه منه يوم الاثنين 03 فيفري 1936 وهو لم يتجاوز الثلاثة أشهر ،و قد رزء بفقد ولده في نفس الأسبوع الذي توفي فيه أخوه المخازني .
ثم رزق في جانفي 1937 ببنتين توأمين اختار لهما من الأسماء فاطمة و صفية ،و قد أهدى إليه زميله الشاعر محمد العيد قصيدة يهنئه فيها بالبنتين وينوه بفضل البنات على البنين. نشرت القصيدة في جريدة البصائر العدد 51 الصادر في 15 جانفي 1937 منها قوله:
أخي فرحات طب بالا ^^ بما أعقبت من نسل
لما ضاعفت من خير ^^ جزاك الله بالمثل
حباك الله بنتين ^^ معا فضلا على فضل
فعش برا ببنتيك ^^ و كن برا أبا عدل
هنيئا لك ما أنتج ^^ ت في قول و في فعل
و إن لم تقتنع رأيا ^^ و حن الليث للشبل
فمن قد جاد بالطفلة ^^ سوف يجود بالطفل .
و بعد وفاة زوجته الأولى، تزوج ثانية في الجزائر الوسطى بإحدى تلميذاته بمدرسة الشبيبة الإسلامية و هي السيدة الفاضلة عتيقة قاسم بنت السعيد أصيل بلدة البليدة بتاريخ 12 فيفري 1940 ،و قد توفيت سنة 2014 بالعاصمة عن عمر تجاوز 90 سنة . و أنجبت له من الأبناء :
- ناجي: من مواليد 04 أفريل 1940، بعد اندلاع الثورة التحريرية انضم سنة 1956 الى أحد الأفواج الفدائية بالبليدة ، سقط شهيدا يوم 10 أكتوبر 1956 و عمره 16 بالقرب من مسكنه بحي باب الزاوية بالبليدة حيث لاحقته دورية عسكرية للمحتل الفرنسي ،و أطلق اسمه على أحد الأحياء السكنية بها .
- فيصل المقيم بمدينة البليدة و صاحب مصنع الورق .
بالإضافة الى بنتين هما : فوزية و نجاة .
و كان الشيخ فرحات بن الدراجي يقيم في المسكن العائلي بحي الأبيار بالجزائر العاصمة، و الذي كان بمثابة ملتقى يقصده العلماء و الأدباء للالتقاء مع بعضهم في حياته ، و كان يزوره الشيخ محمد البشير الابراهيمي و الأستاذ محمد الأمين العمودي خاصة .
كما كان يسافر مع وفود جمعية العلماء الى المدن القريبة من العاصمة مثل: خميس مليانة و البليدة و بوفاريك و شرشال و قصر البخاري و الشلف و العفرون بهدف التعريف بمهام الجمعية ،و دورها الريادي في المحافظة على المقومات الأساسية للشخصية الوطنية ، مع الدعوة الى تأسيس شعب جديدة للجمعية لتنوير و توعية الشعب مع المساهمة و التبرع لبناء المدارس الحرة .
و هو ما أثبته في مقاله ( وفود جمعية العلماء في القطر) المنشور في جريدة البصائر العدد 35 بتاريخ سبتمبر 1938 ،و كان الوفد يضم شخصيات بارزة في الجمعية من أمثال المشايخ: محمد البشير الإبراهيمي و نعيم النعيمي و محمد خير الدين و أحمد بوزيد قصيبة و العباس بن الشيخ الحسين .
يقول:( لا يفوتني هنا أن أذكر على سبيل الإجمال ،الحفاوة التي استقبلنا بها ،و الإكرام الذي أهداه لنا أنصار الجمعية في كل بلد حللنا به ،و أنا أرى أن إكرامنا إكرام للجمعية و إكبارنا إكبار لها ،و دليل على مكانتها من نفس الأمة ).
و لنشاطه البارز و المتنوع في صفوف جمعية العلماء ،انتخب عام 1937 نائبا للكاتب العام الشيخ العربي التبسي، بعد أن تحصل في الانتخاب على 156 صوتا من 163 صوتا، و عين في لجنة تنظيم التعليم التي ترأسها الشيخ الإبراهيمي وكانت تضم مجموعة من الأساتذة منهم :عبد المجيد حيرش و عبد العزيز بن الهاشمي و بلقاسم اللوجاني. كما عين كاتبا عاما للجنة الأدب و التي تضم: محمد العيد آل خليفة و أحمد جلول البدوي و محمد الهادي السنوسي و حمزة بوكوشة و محمد السعيد الزاهري و مفدي زكريا و مبارك جلواح و زهير الزاهري .
و قد وصفه الشيخ عبد الحميد بن باديس بمناسبة انضمامه الى المكتب الإداري الجديد للجمعية بأنه ( ذو استعداد للدرس و المحاضرة و الخطابة لو اتسع له مجالها ) .
نشاطه في فرنسا:
لم يقتصر نشاط جمعية العلماء على أبناء الجزائر داخل القطر فقط، بل وصل صداه حتى الى فرنسا، أين تقيم الجالية الجزائرية طلبا للرزق، فقد أنشأت مدارس و أندية و مصليات لتعليم اللغة العربية بهدف البقاء على الارتباط بالمجتمع والوطن، و أوفدت الشيخ الفضيل الورتيلاني الى باريس في 22 جويلية 1936 كمبعوث خاص لها، فأسس نوادي التهذيب في باريس و ضواحيها وأخرى في المدن الكبرى ، و عين على رأس كل نادي عالما جزائريا ،و من الذين اختارتهم الجمعية للسفر الى فرنسا : الشيخ فرحات بن الدراجي لإتقانه اللغة الفرنسية ،و محمد الصالح بن عتيق و السعيد صالحي و محمد الزاهي و محمد الهادي السنوسي و حمزة بوكوشة و السعيد البيباني.
ففي شهر ديسمبر 1937 اجتمعت نوادي التهذيب ممثلة في 35 فرعا، و صادقت على برنامج جمعية العلماء،مع تعيين الشيخ فرحات بن الدراجي ممثلا للجمعية في مرسيليا ،و حمزة بوكوشة في ليون ،و محمد واعلي في سان إيتيان .غير أن الشيخ فرحات بن الدراجي لم يمكث كغيره طويلا في فرنسا ،حيث رجع الى أرض الوطن سنة 1938.
يقول عن هذا النشاط ( استطاعت دعوة جمعية العلماء أن تتخطى البحار، و تجوب القفار ،و تنفذت الى الديار الفرنسية و تتغلغل في الأحياء الباريسية ،لأن دعوة جمعية العلماء دعوة الى الحق و الحق لا يحجبه أي حجاب مهما كان صفيقا ) .
نشاطه السياسي:
بعد العودة الى الجزائر ،تفرغ الى كتابة المقالات الهادفة و تصحيح كتاب ( تهذيب المدونة للبراذعي ) مع إلقاء المحاضرات في- نادي شباب المؤتمر- الذي يشرف عليه الأستاذ محمد الأمين العمودي المعروف بتوجهاته السياسية الوطنية، و صاحب جريدة الدفاع الصادرة باللغة الفرنسية سنة 1934 ،و هو الذي أسس سنة 1937- جمعية شباب المؤتمر- التي كان هدفها المحافظة على مبادئ المؤتمر الإسلامي الجزائري، و أسندت إليه رئاستها و كان نائبه الشيخ الفضيل الورتيلاني الى جانب فرحات بن الدراجي ،
و استمرت هذه الجمعية في نشاطها الى غاية اندلاع الحرب الكونية الثانية .
في السجن :
ما أن اندلعت نيران الحرب الكونية الثانية سنة 1939 حتى زج بالشيخ فرحات بن الدراجي مع زميله العمودي في سجن برباروس ،بتهمة المساس بأمن الدولة .و خلال مدة الاعتقال - حسب الشيخ محمد الصالح رمضان - كان أغلب أصدقاء جمعية شباب المؤتمر الإسلامي يتاجرون بالسمك و يرسلون إليهما الحوت في الغذاء و العشاء، فقال مرة العمودي لصديقه فرحات مازجا لما مل من أكل السمك داخل السجن :
إن دام هذا الحال يا فرحات ^^
لا حوتة تبقى ولا حوات .
أطلق سراحه في 30 جانفي 1940 بعد مكوثه في السجن مدة شهرين ،غير أنه أجبر على مغادرة مدينة الجزائر و نفي الى منطقة بسكرة تحت الإقامة الجبرية .
نشاطه في بسكرة:
في بلدته ليشانة بقي مواظبا على تتبع أخبار الحركة الإصلاحية ،و عندما أعيد تجديد شعبة جمعية العلماء ببسكرة في جانفي 1944 ،كان الشيخ فرحات بن الدراجي يحضر اجتماعاتها.
عندما زار الشيخ محمد مبارك الميلي مدينة بسكرة نيابة عن الرئيس الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في فيفري 1944، كان من بين مستقبليه في مدينة لوطاية، و حسب محضر الاجتماع لشعبة بسكرة - الذي أحتفظ بنسخة منه - جاء فيه ( و بعد راحة قليلة قصد الأستاذ القادم محل الاستقبال حيث كان جمع غفير من الناس في انتظاره ،فسلم على المجتمعين فردوا عليه بأحسن منه، و هنأوه بقدوم السلامة و العافية، ثم تقدم الشيخ فرحات بن الدراجي الى المجتمعين و عرفهم بأن الأستاذ في حالة تعب من السفر ،و أنه يعتذر إليهم عن الكلام اليوم، و أخبرهم بموعد الدرس الذي سيلقيه غدا بجامع بكار، فافترق الناس مستبشرين فرحين ).
العودة الى العاصمة:
في ماي 1944 رجع فرحات بن الدراجي الى الجزائر العاصمة بعد عودة نشاط جمعية العلماء، و إطلاق سراح رئيسها الشيخ الإبراهيمي من منفاه ، و عندما وقع تجديد مؤقت في تشكيلة مجلسها الإداري ، عين الشيخ فرحات بن الدراجي كاتبا عاما للجمعية ،و شغل هذا المنصب حتى خلفه فيه الأستاذ أبو بكر بلقاسم الأغواطي سنة 1946 .كما عين عضوا في لجنة تحرير جريدة البصائر في سلسلتها الثانية بعد إعادة صدورها في 25 جويلية 1947 الى جانب المشايخ: أحمد سحنون و حمزة بوكوشة و الحفناوي هالي و باعزيز بن عمر و أحمد بوزيد قصيبة .
و نشر بها عدة مقالات اجتماعية و دينية ،و كلف في جريدة البصائر بتحرير بريد القراء و إعادة تحرير المقالات و تلخيصها .
كما بقي مهتما بالجانب السياسي للقضية الجزائرية ، و كان من بين الموقعين على نداء أعضاء اللجنة المركزية لأحباب البيان و الحرية الصادر بعد اجتماع 10 ماي 1945 بالعاصمة والمخصص لدراسة مستجدات الساحة الجزائرية بعد أحداث 8 ماي 1945 .
وفاته:
بعد إصابته بداء السكري عقب الحرب الكونية الثانية ،و طلبا للراحة الجسدية ،و بهدف الابتعاد عن الأجواء السياسية السائدة في محيطه بحي الأبيار بالجزائر العاصمة و التي لا تتوافق مع ميولاته الفكرية ، انتقل الى مدينة البليدة عند عائلة أصهاره ،و تفرغ لإلقاء المحاضرات في نادي الإرشاد .
غير أن الداء اشتد عليه في السنوات الأخيرة، مما ألزمه البقاء في الفراش مدة عام ، الى أن وافاه الأجل المحتوم على الساعة السادسة مساء من يوم الأحد 7 شعبان 1370 الموافق ل 13 ماي 1951 بمدينة البليدة حسب شهادة وفاته رقم 451 ،و هو في الثانية و الأربعين من عمره.
و قد شيع جثمانه الطاهر في موكب جنائزي مهيب بعد صلاة العصر من اليوم الموالي في مقبرة البليدة، و أبّنه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، و صلى عليه الشيخ العربي التبسي ، ورثاه شعرا صديقه و ابن بلدته الشاعر أحمد سحنون بقصيدة مؤثرة نشرت في جريدة البصائر منها :
ودعت داءك إذ ودعت دنياك
فاهنأ فلا داء بعد اليوم يلقاكا
كافحت جيشا من الأسقام مدرعا
بالصبر محتسبا لله بلواكا
إن يشك يوما أخو ضر لعائده
فأنت لم تبد للعواد شكواكا
فرحات أي فراغ قد تركت لنا
و أي سهم من الأقدار أصماكا
فرحات نم في ظلال الخلد مبتعدا
عن الأذى ،و اطرح أعباء دنياكا
كما نشرت جرائد تلك الفترة خبر وفاته و جنازته ،منها جريدة المنار للأستاذ محمود بوزوزو . ورثاه زميله الشاعر الشهيد عبد الكريم العقون بقصيدة تحت عنوان ( برغمك فارقت الصحاب...) نشرت في جريدة البصائر العدد 157 الصادر في 28 ماي 1951 منها :
قد اغتالك الموت الذي ليس يرحم
و من ذا الذي من أسهم الموت يسلم
أصابتك يا – فرحات - أسهمه التي
تصيب فلا تخطي،و تصمي و تعدم
طواك الردى – زين الشباب – فمن لنا
بخل يسلينا و يأسو و يرحم
رحلت عن الدنيا و خلفت صبية
و أمهم ثكلى ،و في البيت مأتم .
من آثاره:
كان يحز في نفس الشيخ فرحات بن الدراجي أن لا يرى أعماله مطبوعة في حياته بسبب نقص الإمكانيات المادية ، و كان يبوح بهذا الهم الفكري الى المقربين منه ، و يكشف لهم بأن الشيخ مبارك الميلي هو العضو الوحيد في جمعية العلماء الذي تمكن من طبع أعماله قبل وفاته، فقد نشر كتابه ( رسالة الشرك و مظاهره) و كتاب ( تاريخ الجزائر في الماضي و الحاضر ) .و من الأعمال التي تركها و نرجو من الخيرين السعي لشرها :
- شرح ( مفتاح الوصول لبناء الفروع على الأصول للشريف التلمساني ) حسب الأستاذ أحمد بن ذياب و لكن الشرح مفقود .
- ترجمة مستفيضة عن البراذعي و مكانة المدونة و أثرها و قيمة العمل الذي قام به البراذعي في تهذيبه ، و قد تناول ذلك بالتفصيل في مجلة الشهاب الجزء السادس من المجلد الخامس عشر الصادر في 18 جويلية 1939 يقول: ( في السنة الماضية تحصلت على نسخة خطية من كتاب تهذيب المدونة لأبي سعيد البراذعي القيرواني، و هي نسخة قيمة تجمع بين جودة الورق و جمال الخط ،كتبت هذه النسخة بخط أندلسي و تبلغ صفحاتها 566 صفحة في القالب الكبير و لم يذكر ناسخها تاريخ نسخها ،و المضنون أنها نسخت في القرن العاشر الهجري و قد
رأيت أن أقوم من جانبي بكتابة كلمة تتضمن التعريف بالكتاب و ترجمة المؤلف، فكتبت مقدمة ضافية عرضت فيها تاريخ المدونة و مختصراتها لأنها الأصل الأول للكتاب، ثم عرفت بالتهذيب و مختصراته و شروحه و ختمتها بترجمة المؤلف ترجمة متوسطة ،و إننا لنتأسف جد الأسف لعجزنا المادي على عدم طبع الكتاب مع شرح من شروحه ) .
- رحلاته التي كان يسجلها عند زياراته التعليمية و نشرها على صفحات جريدة البصائر .
- نشر الشيخ فرحات بن الدراجي مجموعة من المقالات في جرائد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين و مجلة الشهاب وجريدة الأمة للشيخ أبي اليقضان، وجريدة لسان الشعب التونسية لصاحبها البشير الخنقي .
و من أجل تحقيق أمنية الشيخ حتى وإن كان في قبره و حفاظا على تراثه الثقافي المتناثر بين صفحات الجرائد ، فقد تمكنت بحمد الله و عونه من جمع هذه الأعمال مع غيرها من المقالات و القصائد الشعرية التي تحدثت عنه حيا و بعد وفاته ، عسى أن ترى النور
قريبا في كتاب شامل حتى نعيد بها بعضا من الوفاء و العرفان لشخصياتنا العلمية المغمومة بسبب النسيان و التجاهل
قالوا عنه:
الشيخ مبارك الميلي :
الشيخ فرحات بن الدراجي مفخرة من مفاخر الزاب و شخصية بارزة بين شبابنا المثقف الناهض ، دؤوب على المطالعة و التحصيل ، صبور على البحث و التحليل ،و هو من أضوأ مصابيح المستقبل ،لو كثر أمثاله لم يبق مستقبل نهضتنا مجهولا .
- البصائر العدد 89 بتاريخ 03 ديسمبر1937
الشاعر أحمد سحنون :
الشيخ فرحات مثل من أمثلة المقاومة ،و أداة قوية من أدوات الكفاح ،و ثورة جامحة على الاستغلاليين و المنطوين على أنفسهم .كان رجلا اجتماعيا الى حد التطرف و أبرز
خصائصه : اطلاعه الواسع و إحساسه المرهف، و لهجته القوية في النقد ،و جرأته الشديدة في إبداء الرأي ،و بديهيته الحاضرة في الارتجال ،ثم شغفها العظيم بالكتب
و ولعه الشديد باقتنائها و التحدث عنها .
- البصائر العدد 156 بتاريخ 21 ماي 1951
الأستاذ حمزة بوكوشة :
وقد أبتلى في سبيل جمعية العلماء البلاء الحسن، فاضطهد و سجن ،و له مواقف في الدفاع عنها مشهورة مشكورة ،وإني أجزم و أقسم أن صاحبنا لو عاش تحت سماء القاهرة لكان
من أفذاذ زعمائها ،أو من هيئة كبار علمائها ،لكنه عاش تحت سماء الجزائر مقبرة العبقرية و النبوغ ،لا سيما لمن كان من علماء العربية أو أدبائها .
- جريدة البصائر العدد 158 بتاريخ 04 جوان 1951
الأستاذ أحمد بن ذياب :
كان محاضرا بارعا ،و خطيبا مفوها ،و مدرسا ممتازا، و عالما عظيما، و أديبا مبدعا .
- مجلة الثقافة العدد 35/ أكتوبر – نوفمبر 1976
الأستاذ عبد الباقي الجوبر :
الى روح فرحات المعلم الفنان ،الخطيب المصقع ،الأديب النابه الذي لا زالت أثر مقالاته في التوجيه الإصلاحي نبراسا مضيئا ،و قد شارك في إحكام بناء صرح جمعية العلماء ،أهدي هذه العبرات و هي بعض الوفاء . * جريدة البصائر العدد 158 بتاريخ 04 جوان 1951 .
الجزء 1