تمر اليوم 76 سنة على الأحداث الدامية التي شهدتها عدد من ولايات الوطن، في مقدمتها قالمة، سطيف، خراطة من مذابح ومجازر في الثامن من ماي 1945، إلاّ أن ذكريات مشاهد «شاحنات الموت» التي كانت تجمع الجزائريين وتقوم بإعدامهم وحرقهم، ما تزال راسخة في أذهان الجزائريين وتتوارثها الأجيال..محرقة «ماي الاسود» الثامن ماي 1945، التي ارتكبت بكل وحشية، راح ضحيتها من الجزائريين عامة وسكان ولاية قالمة خاصة، أطفال، نساء وشيوخ، كانوا جميعهم عزلا خرجوا من اجل تذكير فرنسا بوعودها بمنح الاستقلال للجزائريين بعد انتصار الحلفاء على النازية في الحرب العالمية الثانية.
شهادات حيّة جمعتها «الشعب» حول أحداث 08 ماي 1945 بقالمة، تتحدث عن مشاهد القتل والتعذيب والإبادة التي نقشت بالذاكرة، أحداث تداولت وقائعها عديد المناطق ودارت حولها الاحاديث بين أفراد العائلات...أحداث عايشها من هم على قيد الحياة لصغر أعمارهم آنذاك، لكن تقادم التاريخ ومرور السنين لم ينسهم تلك الوقائع التي عايشوها، فلا يخلو بيت عائلة من مجاهد أو شهيد.
الحاجة الطاوس..شاهدة على اليوم الأسود
«دادو الطاووس» أحد المناضلات، تقربنا منها لتحدثنا عن تفاصيل ما عايشته في المجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الجزائريين بقالمة، تقول الجدة الطاوس، من مواليد 26 أفريل 1926 ببلدية الفجوج قالمة، سجينة سابقة في وقت الاستعمار، بأن الاستعمار الفرنسي قام بالإبادة والتدمير والتقتيل الجماعي، في حق الشعب الاعزل، الذي انتهكت أعراضه ونهبت ممتلكاته بوحشية منقطعة النظير..
قبل بزوغ فجر الثامن ماي..
تروي لنا «الحاجة الطاووس» انه في ليلة السابع الى الثامن ماي 1945 بمنطقة حمام دباغ غرب مقر الولاية قالمة، جاء المناضل «طاهر بن حيمود» الى زوجي مسعود بكوش» المدعو خرشيش «ليخبره عن مظاهرات الغد وحثه على ان تقوم الزوجة بإخفاء الملابس التي قامت بخياطتها للمجاهدين، مخافة ان يتم كشفها من قبل المستعمر، تقول المناضلة دادو الطاووس: «سمعت ما كان يدور بين زوجي والطاهر بن حيمود، في تلك الليلة قمت بالتسلل الى خارج الفندق «حمام خرشيش المعدني» حاليا، وأنا أزحف على بطني ومعي العلم الجزائري الذي قمت بخياطته في السابق، وعلقته على عمود كهربائي، كان بجانب الفندق ومقابل الشلال، تحضيرا ليوم المظاهرات....
وتضيف «الحاجة الطاوس» أن أول علم جزائري في منطقة «حمام دباغ» كنت انا من خاطه.
يوم المظاهرات، تفاجأ سكان حمام دباغ لرؤيتهم العلم الوطني مرفوعا بعمود كهربائي، بجانب الفندق (حمام خرشيش) اليوم، ما زرع فيهم الحماسة والإيمان بقرب استقلال بلادهم، لذلك قام مجموعة من شباب حمام دباغ برفع الفؤوس في وجه الدرك الفرنسي مطالبين بالاستقلال، تقول «الحاجة الطاوس»: «تفاجأت بمجموعة من العسكر امام الفندق الذي نسكن فيه، حيث تقدم رقيب من ثكنة عين احساسنية او هواري بومدين حاليا،( كلوزيل) سابقا ليقوم بتفتيش الغرف، وعلى اثر ذلك اتهمني بتعليق العلم وإطلاق بزغاريد، الا أنني قمت بتكذيب التهمة الموجه لي، فتم اقتياد زوجي للتحقيق معه في قضية العلم الى الفيرمة الدياس، مقر (الحرس البلدي) بحمام دباغ حاليا، وتم ممارسة كل انواع التعنيف في حقه، وفي وقت متأخر من الليل قاموا بإطلاق سراحه».
وحسب شهادة الطاوس تقول إن المجاهدين «ساسي بن حملة» و»عمار شرفي» وكذا ولد الزيتوني من عائلة هباش، رحمهم الله، جاؤوا مع عائلاتهم الى الفندق الذي اصبح حمام خرشيش حاليا لقضاء إجازة، بعد يومين من مظاهرات 08 ماي 1945، غير ان قوات الجيش الفرنسي جاءتها معلومات ان المتظاهرين الذين تبحث عنهم موجودون في حمام دباغ، حيث ارسلت مجموعة من العسكر للبحث عنهم، اين إكتشف المجاهدون بأنهم مطلوبون وان القوات فرنسية تبحث عنهم، فكان رد فعلهم الطبيعي هوالهرب قبل أن يتم كشفهم، تاركين عائلاتهم في الفندق، وتشير «الحاجة الطاوس» ان مجموعة من الجيش الفرنسي قامت بكسر ابواب الفندق من اجل التفتيش بحثا عن المطلوبين، إلا انهم لم يعثروا عليهم، وتقول الطاوس: «تقدمت في تلك الحظة الى إحدى النساء، وإستفسرت عن سبب البحث عن زوجها، فأخبرتها أن زوجها كان من المشاركين في مظاهرات الثامن ماي في قالمة».
يوم الخروج بقالمة..
تقول دادو الطاوس: إن فرنسا وعدت الجزائريين، بعد مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية، بمنحهم الحرية والاستقلال، فخرج الشعب في مظاهرات 08 ماي 1945، في تجمعات ومسيرات سلمية للتعبير عن فرحتهم بإنتصار الحلفاء على النازية، وكذا الإحتفال بإستقلال الجزائر المرتقب، لكن هذه المسيرات والمظاهرات قوبلت بعنف، وأطلقت الشرطة النار على المتظاهرين وقتلت وجرحت العديد منهم في وسط قالمة، فارتكبت بذلك أبشع مجازر التقتيل الجماعي في حق السكان والمشاركين بتلك المسيرات.
وتذكر الحاجة الطاوس كيف حدثها ابن عمتها المجاهد «شكاطي رابح» الذي كان يتسوق في قالمة، عن تلك المسيرة عصر يوم الثلاثاء 8 ماي 1945، والتي كانت حاشدة وسلمية ومنظمة، حمل فيها الاف المتظاهرون الذين جاؤوا من مختلف مناطق ولاية قالمة، العلم الوطني والتي تزامنت مع السوق الأسبوعي بقالمة.
وردد المتظاهرون عدة أناشيد وطنية وشعارات تنادي بإستقلال الجزائر وإطلاق سراح المعتقلين من الحركة الوطنية، وعلى رأسها مصالي الحاج، في مقدمة المتظاهرين تواجد رابح شكاطي، لعويسي احمد، الساسي بن حملة وعمار شرفي، الى ان إنقلبت الشرطة الفرنسية على المتظاهرين، وتم تفريقهم بالمياه الساخنة، وإطلاق النار عليهم بوسط المدينة، والتي شهدت أول إنزلاق حقيقي لشرطة المستعمر الفرنسي مع المتظاهرين، تم خلالها قتل المتظاهرين السلميين العزل، وحسب معلوماتي أن عمار بن جدو قتل برصاص قوات الشرطة في عملية تفريق المتظاهرين...
وتضيف الحاجة الطاووس: نقلا عن شهادة حية من أحد المتظاهرين وهو دادومحمد المدعوالكابران رحمه الله، الذي أخبرها ان أبشع المجازر التي قامت بها القوات فرنسية، وقعت في الثكنة القديمة بوسط مدينة قالمة، بتاريخ الحادي عشر من ماي، والتي شهدت على إعدام جماعي لتلاميذ رفقة مجموعة مناضلين من الذين شاركوا في مظاهرات 8 ماي 1945.
استأصلوا «ثديي» فاطمة رقي واستخدماه كمطفأة للسّجائر
في رواية أخرى، تفضح جرائم المستدمر في الثامن من ماي، تسرد الحاجة الطاووس أن الابادة التي حدثت ذلك اليوم راحت ضحيتها عائلة «رقي»، وبالتحديد الاخوين رقي عبد الحفيظ ومحمد اللذين تأخرا في العودة الى المنزل بعد المشاركة في مظاهرات الثامن ماي، خرجت الشهيدة فاطمة الزهراء رقي للبحث عن إخوتها ليتم اعتقالها من طرف البوليس الفرنسي، الذي سلط عليها أبشع صور التعذيب الذي وصل الى حد «قطع ثدييها» وإستعمالهما كمطفأة للسجائر، لتعدم رميا برصاص والتنكيل بجثتها وجرها بشوارع قالمة عن طريق مركبة عسكرية.
وتضيف الحاجة الطاووس أن رئيس دائرة قالمة قال حينها «أندري أشاري»، هو من قاد الإبادة والقتل العشوائي لكل ما هو جزائري في ذلك اليوم.
«كاف البومبا» شاهد حي
كاف البومبة معلم تاريخي وشاهد حي على أكبر المجازر التي ارتكبها الإستعمار الفرنسي، بالإبادة الجماعية في حق سكان قالمة، حيث جمعت القوات العسكرية المواطنين المتظاهرين وأوقفتهم فى صف واحد، بمنطقة «كاف البومبة» المتواجدة على قمة جبلية بـ «هيليوبوليس» ثم قامت بإعدامهم رميا بالرصاص، ليسقطوا من على القمة الجبلية، كما استمرت الإعدامات بذات المنطقة إلى اسابيع متتالية، ثم قامت بردم جثثهم فى دفن جماعي بالمكان، حيث قتلت فرنسا المئات من المناضلين الأبرياء، في هذا المكان الذي تشبعت أرضه يوم 08 ماي 1945 بدماء الشهداء.
تقول الحاجة الطاوس: لما علمت فرنسا بقدوم لجنة تحقيق أوروبية لمعاينة المجازر التي إرتكبت في حق الجزائريين، سارع جنود المستعمر إلى المقابر الجماعية «بكاف البومبة» ليلا، وأخرجوا الجثث ونقلها على متن شاحنات نقل البضائع أطلق عليها اسم «شاحنات الموت»، إلى منطقة حمام برادع التي توجد بها «محرقة» حقيقية عبارة عن فرن لصناعة الجبس، كان يمتلكه أحد المعمرين بمنطقة هيليبوليس اسمه
«لافي»، إذ تحولت هذه الأفران إلى حرق جثث الأبرياء الذين أعدموا على يد البوليس الفرنسي، لإخفاء آثار الجريمة وعمليات الابادة وكل انواع التجاوزات في حق الشعب الجزائري.
تقول الحاجة الطاوس في إحدى أناشيدها حول مجازر الثامن ماي والإبادة الجماعية التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء المنطقة، «ولد اللافي جانا سكران....يقتل في الأمة ويطيش في الويدان « وتقصد المعمر لافي صاحب الارض التي أقيمت عليها أفران الجير وافران المحرقة.
وتضيف الحاجة الطاووس أن ما أخبرها به ابراهيم عبد الرحيم أن الآلاف من الإعدامات تقام يوميا في مناطق مختلفة من قرى دواوير قالمة، في أبشع صور الجرائم في حق الشعب.
بقر نساء حوامل..
كما تستذكر «الحاجة الطاووس» ما قام به الجيش الفرنسي، في إحدى القرى القريبة من هيليوبوليس من الجرائم البشعة في حق الإنسانية، حيث كان الجنود يقامرون فيما بينهم على بطون النساء الحوامل، حول من يكتشف جنس الجنين، الذي في بطن الأم، إذ قاموا ببقر بطون أكثر من عشرة نساء من سكان المنطقة في ليلة واحدة، كما تم إعدام عائلات باكملها بقنبلة الطائرات للمشاتي والقرى المتواجدة ما بين هيليوبوليس وحمام أولاد علي والفجوج»...
هي شهادات حيّة نقلتها «الشعب» عن المناضلة الطاووس، التي تحدّثت بألم وحسرة عن مجازر الثامن ماي التي كشرت خلالها فرنسا الاستدمارية عن أنيابها الوحشية المتعطشة للدماء، ولم تفرّق حينها بين كبير وصغير.
مواقع شاهدة على وحشية المستدمر
تشير الوثائق التاريخية حول هذه المجازر إلى «وجود 11 موقعا شاهدا على بشاعة المستدمر الفرنسي، أقيمت بها معالم تذكارية في السّنوات الماضية، وتتوزّع على كل من بلديات بلخير وبومهرة وهيليوبوليس وواد شحم ولخزارة، وخاصة بعاصمة الولاية التي توجد بها كل من الثكنة العسكرية القديمة وممر السكة الحديدية، ومحطة القطار، ونادي الكشافة.
وتتذكّر الحاجة الطاووس: كيف أنّ الاستعمار الفرنسي لم يكتفي بجرائمه في ذلك اليوم، حيث توالت الإبادات الجماعية في حق المناضلين والمواطنين العزل، في محطة القطار (لاڨار) بوسط مدينة قالمة، بإعدام جماعي للعاملين في المحطة، والذين كان معظمهم ينشطون في صفوف الحركة الوطنية، والتي وجد الاستعمار فرصة سانحة في 08 ماي 1945، ليبطش بهم ويقوم بتصفيتهم.
في ذات السياق، تضيف الطاووس «أنّه بذات المحطة ان ما علمت به من المناضلين، أنّ الاستعمار الفرنسي قام بوقف حركة المرور بالسكة الحديدية في قالمة، مع إنزال جميع المسافرين من القطار وإعدامهم رميا بالرصاص في مشهد مروع».
أكثر من 18 ألف شهيد
تفيد الأرقام المقدمة لـ «الشعب» من طرف رئيس جمعية 8 ماي1945 المحلية، بأن الحصيلة التقريبية لضحايا مجازر 08 ماي، تفوق 18 ألف شهيد من أبناء ولاية قالمة، وعدد من البلديات التابعة لها على غرار بلخير، بومهرة أحمد، ولخزارة، ووادي الشحم، هيليوبوليس وغيرها من مناطق الولاية..
تقول الحاجة الطاوس: ان المجازر التي عرفتها الجزائر خلال احداث «ماي الأسود»، كانت القطرة التي أفاضت الكأس، وان الكفاح المسلح السبيل الوحيد لإسترجاع السيادة الوطنية.
