يستوقف تمثال تافورة، العابرين من محطة المسافرين، يثير تساؤل المارة عن قصة «رجل لا يتعب»، يقاوم الفصول ويصمد أمام كل التّغيّرات التي تجري حوله فارضا نفسه في الذّاكرة الجماعية للجزائريّين، يرشدها إلى حقائق التاريخ لاكتشاف أسرارها.
سيول بشرية تقصد العاصمة كل يوم لا يمكن لها إلا أن ترى ذلك التمثال، فيستنطق مخيّلتها ليغوص كل ضمير حي في الزمن البعيد بآلامه وآماله، بطولاته وتضحياته ولكن أيضا تلك الجرائم البشعة التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي عن طريق تطبيق سياسة إبادة عنوانها الأرض المحروقة.
ينتصب التمثال على مستوى ساحة تافورة، يرمز لعامل ميناء الجزائر وهو يواجه متاعب الحياة في تحدّ له دلالات، هي صورة تعكس معاناة جيل «الدواكرة» خلال فترة الاحتلال الفرنسي، لبلدنا، لتذكّر بتضحيات قدموها ذات 2 ماي 1962، حينما راح عدد معتبر منهم ضحية تفجير إرهابي غادر.
في فجر ذلك اليوم باغتت عصابات المنظمة المسلحة الإرهابية الفرنسية (OAS) جموع عمال جزائريين كانوا يصطفون في طوابير طويلة أمام مكتب تشغيل العمال اليوميين، أملا في الحصول على فرصة عمل يتمثل في إنزال السلع من السفن او شحنها على الأكتاف، كان عملا شاقا تهون من أجله التضحية لسد الرمق، فالاحتلال رمز للجوع والضياع.
التمثال يُوقّع شهادة عن ذلك الجيل من العمال، قوّتهم في عضلاتهم، التحموا مباشرة في ذلك اليوم بمصير بلدهم، حينما كان الشعب الجزائري يستعد لدق آخر مسمار في نعش الاستعمار الفرنسي، والمشاركة في استفتاء تقرير المصير والإنعتاق من أغلال الاحتلال وأدواته من كولون وبوليس عنصري وموظفي المصالح الإدارية المتخصصة لاصاص.
قبل 59 سنة
قبل 59 سنة، يوم الأربعاء 2 ماي 1962، وقعت المجزرة الرهيبة كما ترويها شهادات تحفظها سجلات وتناقلتها روايات من عايشوا الحدث الأليم. يومها باكرا، احتشد جزائريون بسطاء أمام شباك مكتب تشغيل «الدواكرة» للفوز بتذكرة عمل، يحصل عليها أول من يصل حسب الطابور والمتأخر يعود بخفي حنين والألم يعتصره، كيف لا والفقر يتقاسمه سنواتها الجزائريون أمام هيمنة الكولون على المقدرات الاقتصادية وتحكمهم في أسباب العيش.
الجريمة وقعت بالذات في الجانب الشرقي لمحطة تافورة التي تحمل اليوم تسمية 2 ماي، حيث كان مكتب التشغيل بالمحطة القديمة. وتوجد في الموقع لوحة تذكارية تخلّد الحدث بينما يجري العمل لتحويل المكان إلى متحف.
جريمة ضد الانسانية
يومها، الساعة 6 صباحا قام المجرمون (مجموعة فرنسيين عنصريين، متخفين، كلهم أعضاء ناشطين في تلك المنظمة الإهابية) بركن سيارة مفخخة من صنف» 4 شوفو» أمام مكتب التشغيل، موهمين بأنها معطلة، دون أن يعير الناس اهتماما، قبل أن تنفجر محدثة دويا عنيفا اهتزت له أحياء العاصمة.
وما أن انقشع الدخان حتى بيّنت حصيلة مأساوية بسقوط 200 جزائري قتيل و250 جريح. كان هدف الارهابيين اغتيال أكبر عدد من الجزائريين، المتواجدين بكثافة في الموقع. الانفجار العنيف بلغ صداه أسماع المواطنين مختلف الأحياء الشعبية المجاورة، بلوزداد بلكور سابقا صالامبي، لتتشكل فورا موجة بشرية عارمة للتضامن وتقديم المساعدة والإسعاف، لكن مجرمي المنظمة العنصرية الفرنسية، المتخفّين في العمارات القريبة، واصلوا تنفيذ مشروعهم فراحوا يفتحون نيران أسلحتهم على المُسعفين، كان القتل الجماعي عقيدتهم.
غرب مكان وجود التمثال، يوجد موقف نقل الطلبة الجامعيين حيث يقف شباب الجامعة كل يوم للانطلاق إلى رحاب العلم والدراسة يحملون معهم بالتأكيد معاني هذا المعلم التاريخي بكل دلالاته، التي تتجاوز أنا الفرد ومتاعبه وتطلعاته لتنصهر في ذاكرة جماعية لا تزال تكتنز موروثا زاخرا ببطولات وتضحيات وتضامن بين الجزائريين لا تنال منهم جرائم أو مخطّطات تآمر.
هنا تسقط كل التوجهات وتختفي خلافات الرأي في شتى مناحي الحياة، فالتمثال بحجمه وملامحه الرمزية يشير إلى قوة الإنسان الجزائري، وتصميمه على المواجهة ورفع التحديات مهما عظمت.
بالأمس كانت تضحيات بالدم والتحمل، واليوم بالعرق والعمل والعلم من خلال تكامل الأجيال.
وقفة تذكّر وترحّم
اليوم، أجيال جديدة من العائلة المينائية، تتذكّر وتكرّم الضحايا، الذين شرّفوا الوطن. لقد تغيرت الأزمان، لكن المعركة مستمرة على مستوى الأراضي المينائية، وكل المواقع الاقتصادية رمز الإخلاص والوفاء. هذا ويتم إحياء يوم 2 ماي من كل عام، وإن أعاقت جائحة «كوفيد-19» السنة الماضية، فإنّ هذا العام شهد الأحد الماضي تنظيم وقفة تذكر وترحم تكريما لكل الذين قدّموا أرواحهم للجزائر الحرّة والمستقلة.
كان الميناء الوجهة التي يمكن العثور فيها على عمل «حمال» لإنزال البضائع من السفن وشحن خيرات الجزائر من حبوب وحلفاء وخضر وفواكه، وغيرها إلى ما وراء البحر. حالة الرفاهية بالمجان التي منحها المحتلون لأنفسهم في الجزائر تحولت إلى شوكة في الحلق، لجانب من الكولون وأوصيائهم في إدارة الاحتلال فأعلنوا رفضهم لاتفاقيات ايفيان الموقعة بين الحكومة الجزائرية المؤقتة والحكومة الفرنسية.
إرهابيّون بدأوا وكذلك انتهوا
في خضم مفاوضات ماراطونية ومعقدة أكد فيها الوفد الجزائري تصميمه الكامل على صون كل الحقوق الوطنية أثمرت اتفاق وقف إطلاق النار مع الاعتراف الصريح للشعب الجزائري بممارسة حق تقرير المصير، خرجت زمرة من جنرالات الاحتلال الفرنسي معلنة أنّها تعارض مسار الحقيقة التاريخية ودخلت في تمرد على دولتها، والتف حولها من آمن بأكذوبة الاحتلال، لتظهر منظمة ارهابية حاقدة تضم متطرفين وعنصريين تدعى المنظمة المسلحة السرية.
حاولت هذه المنظمة الإرهابية عرقلة مسيرة استقلال الجزائر، وهو مكسب انتزع الشعب الجزائري بتضحيات لا توصف. تأسست هذه المنظمة الخارجة عن القانون، والتي ولدت من رحم الفعل الاستعماري البغيض في 11 فيفري 1961 بمدريد (اسبانيا) معتمدة العمل الإرهابي وسيلة للتعبير. تشكلت خلال لقاء بين جان جاك سوزوني (فر إلى ايطاليا في 18 جويلية 1962) وبيير لاغايارد ولحق بهام آخرون مثل رؤول صالان، جو ادموند، ايف غودار، شال وزيلير واذنابهم من المتطرفين في مختلف الهيئات.
ظهر أول شعار للمنظمة الإجرامية بقيادة السفاح صالان في مدينة الجزائر يوم 6 مارس 1961، وانتشر شرها عبر مختلف المدن الجزائرية وحتى في فرنسا منتهجة الاغتيالات ومسّت حتى بعض الفرنسيين انفسهم. ومكّنت امتداداتها في الإدارة الكولونيالية وأجهزة البوليس الفرنسي عناصرها من التحرك، فكان لها نشاط إجرامي واسع في العاصمة وفي وهران أيضا.
وشكلت لنفسها سجلا دمويا باستهداف العمال وسعاة البريد وعاملات النظافة، وكل من يعترض اتجاههم العنصري.
لماذا الدواكرة؟
لعمال الميناء ماض في المقاومة والتضامن مع الشعوب ضد الاحتلال، فقد عارض عمال ميناء الجزائر خلال الفترة بين 1940 - 1950 الحرب في فيتنام، وامتنعوا عن انزال وشحن عتاد حربي موجه الى الهند الصينية (للتضامن جذور).
كتابات مؤرخين تشير إلى أن هذه الفئة من العمال الجزائريين قامت بدور مشهود له في مساندة الحركة الوطنية بالتزام موقف بطولي لمناهضة الاستعمار، وتوقيع مواقف تجاوزت حدود الوطن متحدية الاحتلال.
قبل تلك الجريمة كانت مواقف بطولية على امتداد المواقع، فمثلا قام عمال ميناء وهران في فيفري 1950 بشن اضراب لمدة 15 يوما رفضا لشحن عتاد حربي موجه الى فيتنام وسنة من بعد قام عمال ميناء الجزائر برفض شحن عتاد بريطاني موجه الى مصر التي كانت تحت الانتداب وفي السنة الموالية 23 ماي 1952 وقع إضراب ليوم، حدادا على اغتيال اخوين جزائريين من طرف بوليس الاحتلال وفي 1956، 11 أوت، جرى توقف عن العمل احتجاجا على عملية إرهابية قام بها متطرفون فاشيون فرنسيون في قلب القصبة ضد سكانها.
ويذكُر مؤرخون أن سنة 1961 عرفت اغتيال عمي سعيد وهو نقابي بميناء الجزائر.
كل هذا الرصيد اعطى لميناء الجزائر وعماله مكانة في مشهد التصدي للاحتلال وأدواته التي استنزفت موارد الجزائر واستعبدت سكانها، ومن ثمة كانوا هدفا لمخطط الارض المحروقة التي سطرتها منظمة «أو أس»، وقامت بتطبيقها من خلال عمليات اجرامية لا يمكن للذاكرة تجاوزها.