عبقرية الوفد الجزائري المفاوض في اتفاقيات إيفيان أوصلتنا لعيد النصر
شكل تاريخ 19 مارس 1962 محطة حاسمة في تاريخ الجزائر التي عانت من ويلات الاحتلال الفرنسي لأزيد من 132 سنة، كان عيد النصر للجزائريين ومأساة للحركى والأقدام السوداء واليهود، وهو تأكيد لمذلة وعار أصاب الحركى والأقدام السوداء الذين كانوا يؤمنون بالجزائر الفرنسية، مثلما كانوا ولا يزال يتصوّر البعض منهم من الذين تسيسوا أكثر وأصبحوا من اليمين المتطرف، هذا ما يؤكده أستاذ التاريخ بجامعة محمد بوضياف بالمسيلة أحمد مسعود سيد علي في حديث لـ «الشعب ويكاند».
يقول أحمد مسعود إن الاحتفال بالذكرى 59 لعيد النصر في جزائر 2021، يختلف كثيرا عن الاحتفالات السابقة، حيث تمكنت الجزائر، منذ أشهر قليلة، من استرجاع جماجم شهداء الحركة الوطنية الجزائرية أي شهداء القرن 19، ويضيف أن هذا في حد ذاته يشكل انتصارا، وأن بلادنا، اليوم، تحتفل من منطق آخر، وهو مواصلة مسيرة الانتصارات التي حققتها عبر الثورة الجزائرية، ويشير أستاذ التاريخ إلى أن ثاني انتصار هو طرح ملف الذاكرة بقوّة، بالرغم عن الطابع السياسي لكلا الطرفين، وهو طرح موضوعي.
في هذه النقطة، يوّضح أن ملف الذاكرة أصبح يشحذ همم الطرفين من طرف الرأي العام الفرنسي الذي يزعم أنه يؤمن بالديمقراطية والإيخاء وغير ذلك، كما أن الناطق الرسمي باسم ملف الذاكرة عن الطرف الفرنسي المؤرخ بنجامين ستورا رد على الانتقادات الموجهة له خلال المرّة السابقة من طرف الرأي العام الجزائري حول الاقتراحات التي قدمها للرئيس ماكرون.
وبالتالي عيد النصر لهذه السنة يحمل الكثير من المعطيات التي جعلت من هذا العيد نكهة خاصة، يقول محدثنا، ويعتقد أستاذ التاريخ أن ملف الحركى لا يزال بعيدا عن الطرح في الوقت الراهن، كما أن هذا الملف عالجته اتفاقية إيفيان وصانت حقوقهم، لكن الكثير منهم فضلوا الذهاب مع اليمين المتطرف والآن هم يتحملون أوزار ذلك، وبحسبه ليس من الممكن طرح قضايا ليست مطروحة بقوّة.
يضيف أحمد مسعود، إن المصالحة مع التاريخ لن تكون على حساب الذاكرة الجماعية للجزائريين والشهداء وهي لا تعني التنازل عما قدّمه مليون ونصف مليون شهيد وهذا غير معقول.
ويؤكد أن 19 مارس 1962 أسقط أكذوبة الجزائر فرنسية التي كان يتغنى بها الجنرال ديغول، هذا الأخير الذي قوّض واقع الحركة الاستعمارية التي تأسست، منذ 1830، وصافح كريم بلقاسم، وهو متذمر، كما أن ممثل الوفد الرسمي لحكومة ديغول وميشال دوبري حينها رفض مصافحة كريم بلقاسم موفد الحكومة المؤقتة في مفاوضات إيفيان، في هذا الشأن يبرز محدثنا أن هذه المحطة التاريخية أكدت أن الجزائر لم تكن ولن تكون فرنسية بدليل أن ديغول في النهاية اعترف بجبهة التحرير الوطني كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري، وهذا الذي نادى به بيان أول نوفمبر 1954.
يضيف أستاذ التاريخ، إن عيد النصر أكبر انتصار حققه هو تأكيد أدبيات بيان أول نوفمبر 1954 والحركة الوطنية، وهو أن هذا الشعب واحد وتراب واحد وحدوده ثابتة، منذ 1830 وأن المفوض الرسمي له في الفترة الأخيرة من عمر الحركة الوطنية هي جبهة التحرير الوطني، ويقول: «قد قوّضت أسطورة الجزائر فرنسية مادام ديغول وقّع مع دولة كان ينكر سيادتها وأن هذه الأمة كانت في طور التكوين ولم تكن موجودة وأننا كنا شعوبا وقبائل، وفي النهاية جلس على طاولة المفاوضات وفي بلد محايد وهو سويسرا».
ويشير أن هذا معناه أن النوفمبريون من جبهة التحرير الوطني وفّوا بعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم، وهو أن لا وقف لإطلاق النار إلا بالاعتراف المسبق لجبهة التحرير الوطني، وهذا الذي قبل به ديغول ضمنيا حتى ولو كان يلعب بشكل آخر لعبته التي كان يريد من خلالها استضافة مائدة مستديرة للطرف الآخر في إطار القوّة الثالثة، لكنه في النهاية فشل».
ويضيف إن ما ارتكبته منظمة الجيش السري الإرهابية من جرائم وأعمال عنف مريعة بتقتيل المدنيين الجزائريين، بما فيهم الفرنسيين المتعاطفين مع الثورة الجزائرية، وهذا يدّل على أن الجمهورية الفرنسية الخامسة أصبحت مهدّدة فسارع ديغول للجلوس على طاولة المفاوضات، وقبول بشكل أو بآخر بالشرط المسبق لجبهة التحرير الوطني، وهو أن الجبهة هي المفوّض الشرعي والوحيد للشعب الجزائري.
في المقابل تأسف محدثنا عن الأخطاء في التواريخ والمصطلحات والتسميات التي ترتكب عبر بعض وسائل الإعلام المسموعة والمرئية دون التأكد من دقة المعلومات، حيث تتناول حصص مواضيع التاريخ بنوع من العبثية والاعتباطية، على عكس الطرف الفرنسي الذي لا ترتكب وسائل الإعلام أخطاء في تاريخهم، لأنه شيء مقدس وهم يحترمونه، مطالبا بالدقة في إعطاء المعلومة التاريخية.
ويشيد أحمد مسعود بحنكة وعبقرية الوفد الجزائري المفاوض في اتفاقيات إيفيان، وعلى رأسهم كريم بلقاسم وسعد دحلب الذين لم يكونوا خريجي معاهد علوم سياسية مثل لوي جوكس وبرنار تريكو رجل علم وسياسة وصاحب كتاب: «دروب السلام» وكان مستشارا لديغول، وكان من وراء الوفد الجزائري في الكواليس محمد الصديق بن يحيى ومحمد حربي، هؤلاء هم الذين كانوا يحضّرون الملفات الدقيقة.
ويضيف أنه حين يلقّن الطلبة في المدرجات إنجازات الوفد الجزائري في اتفاقيات إيفيان يتعجبون لعبقرية الوفد الجزائري أثناء المفاوضات ومناقشة القضايا الإستراتيجية، منها قضية استغلال الثروات الباطنية، هذا الوفد الذي كان إلى وقت قريب ينعت من طرف الصحافة الاستعمارية الفرنسية على أنهم «فلاقة» وخارجون عن القانون وجهلة وغير مؤهلين لتمثيل الجزائريين وغيرها من المواصفات، وفي 1962 أصبح هؤلاء معترف بهم ويشكلون جزءا رئيسيا في المفاوضات مع دولة كانت ترى في نفسها أنها دولة عظمى، وهي تنتمي إلى الحلف الأطلسي وتصنع السياسة العالمية.
ويبرز محدثنا، كيف استطاع كريم بلقاسم التفاوض مع الممثل الفرنسي لوي جوكس، وهو الذي عاش من 1945 إلى غاية 1954 في جبال جرجرة، وتمكن من جعل جوكس ينحني حينما وقّع على هزيمته، وهذا شرف ما قامت به الحكومة المؤقتة آنذاك في الداخل والخارج بفضل تضافر كل الجهود التي لولاها لما وصلنا إلى 19 مارس 1962، ويقول: «الأمل فينا الآن لتحمل مسؤوليتنا ونوفي بالعهد من أساتذة وطلبة وإعلاميين».
بالنسبة للكتابات التاريخية، أكد أحمد مسعود إنها متوفرة بالمئات على مستوى الجامعات من دراسات أكاديمية جد دقيقة من أطروحات ماجيستير ودكتوراه كبرى حول المنظمة الخاصة والمفاوضات،ومشاريع بحث قام بإصدارها المركز الوطني للبحث والدراسات في الحركة الوطنية حول هذا 19 مارس 1962، أشرف عليها أساتذة من جيل مدرسة التاريخ الجزائري، وبحسبه فإن المشكل يكمن في ضعف المقروئية فنحن أمة لا تقرأ حتى في بعض الاختصاصات الأخرى.