المجاهدة بن قمبور لـ :«الشعب ويكاند»:

لم نعـش فرحـة 19 مــارس لأننـا فقدنـا رفقـاء السـلاح

سهام بوعموشة

 المرأة الريفية كانت أوّل المنخرطات والمجاهدة حرّرت المجتمع 

جيش التحرير الوطني استقبل المرأة بفخر  

550 جندية بالولاية التاريخية الثانية

سجلت المرأة المجاهدة، خاصة بالأرياف، اسمها بأحرف من ذهب في تاريخ الجزائر بنضالها المستميت لتحرير الوطن، منهن من سقطن شهيدات في ميدان الشرف إلى جانب إخوانهن الرجال، وأخريات تعرضن لأبشع أنواع التعذيب، وتحملن أصعب المسؤوليات فقد كن يقمن بنفس المهام الموكلة للمجاهدين، لكن للأسف هناك الكثيرات لم ينصفهن التاريخ ويجهلهن جيل اليوم، ومن بين المجاهدات اللواتي أديّن دورا كبيرا إبان الثورة بالولاية التاريخية الثانية وبالتحديد بمنطقة الميلية المجاهدة خديجة بن قمبور ذات 78 سنة.

بن قمبور خديجة، المدعوة فريدة من مواليد سنة 1944، بدائرة العنصر دائرة الميلية جيجل حاليا، من منطقة جبلية وعائلة تتكون من 500 فردا لم يشتغلوا أبدا عند المستوطنين، كانت لديهم أراضي في بلغيموز وعندما دخل المستوطنون في 1866 حاربهم والد جدهم فقتلوه ونزعوا أرضه التي تمتد من بني بلعيد حتى لمزاير، وطردوا ليسكنوا الجبال فكانوا يعيشون بالفلاحة وتربية الماشية.
الطفلة ذات الـ 9 سنوات كانت تعيش في سعادة وحرية تامة رفقة عائلتها لم تعرف الجوع أبدا، كانوا أولاد عمومتها يقومون بكراء الأراضي في ميلة عند العائلات الكبيرة مثل عائلة قارة لتوفير مصدر رزق أولادهم، وهناك من عملوا بائعين خضر وفواكه بالعاصمة.
وفي يوم من الأيام شاهدت أشخاصا غرباء لا تعرفهم وكانوا مجاهدين، فكل عرش من العائلات الميسورة بمنطقتها كوّن مسؤولي التموين لتزويد جيش التحرير بالمؤونة، حيث كان المجاهدون يتنقلون بكل حرية بحكم خلو المنطقة من الحركى والخونة، وكل منزل كان فيه مجاهد أو اثنين، وكانت أول من تجنّدت خالتها يامنة بوحبيلة، وكذا عمتها زهرة بن قمبور بولحبال هؤلاء النساء كن يتكفلن بالجانب اللوجيستيكي، حيث جنّدت الكثير من الفتيات اللائي كن يتلقين التعليمات والدروس والأناشيد الوطنية الحماسية من عند المجاهدة بولطيف وليلى موساوي رحمها الله، لأن الاستعمار الفرنسي نصّب ثكنات ووضع السكان فيها لمراقبتهم.
 وتشير بن قمبور أن الرجال في منطقة أولاد عسكر، العنصر والميلية والطاهير لم يكونوا يبيتون في المنازل والجيش الفرنسي يقصف كل شيء يتحرك ويقتل السكان العزل انتقاما من المجاهدين الذين نصبوا له كمائن وقتلوا الجنود الفرنسيين، وتقول: «بعد إضراب الثمانية أيام 1957 شاهدت الظلم الاستعماري المسلط على السكان، وأصبحت منطقة واد الكبير بميلة نواحي الطاهير وبني صبيح منطقة محرمة، فقام الشعب بتهريب الماشية كي لا تحرق خاصة بعد قيام الجيش الفرنسي بعملية تمشيط مصحوب بالقصف الجوي في شهر جانفي 1957».
وتضيف: «أصبحنا نتقاسم كل المؤونة مع المجاهدين وحياتي تغيرت لم أعد ألبس وآكل جيدا، قتلوا صديقي الذي كنا نلعب معا بالطائرة، وعمة أبي وأمي كادت تموت بعد إطلاق الرصاص عليها عندما ذهبت لإحضار الأكل»، وفي حديثها تنهمر عيناها بالدموع حين تتذكر الخوف الذي عاشته بسبب وحشية الإستعمار الذي قتل 700 شخص في 20 يوما عندما جاء الجنرال شارل ديغول، سنة 1958 بمخططه الجهنمي «شال» لإبادة سكان المنطقة، حينها قرر مسؤولو جبهة التحرير ضرورة خروج السكان من المنطقة والإنتقال إلى المدينة.  
انتقلت بن قمبور رفقة أهلها إلى ولاية ميلة بعد فقدانهم لممتلكاتهم بالريف، ووضعوا في المحتشدات، حيث الدخول إليها يكون برخصة للكبار فقط الصغار غير ملزمين بها، وكل منزل في المدينة تقابله ثكنة بها الجيش الفرنسي لمراقبة دخول وخروج السكان، حيث تعرضت عائلة المجاهدة للشتم من طرف الشرطة الفرنسية والحركى وكانوا يلقبون بأطفال الفلاقة، لأن الفرنسيين يدركون تماما أن كل شخص جاء من المنطقة المحرّمة وكان يعيش مع المجاهدين ويقدّم لهم المؤونة، فينتقمون منهم.
في أحد الأيام طلبوا من عمتها البحث عن طفلة تحسن القراءة لتجنيدها، فوافق والدها على الفور بسبب ما تعرض له من ظلم المستعمر، خاصة وأنها عاشت مدة أربع سنوات في منطقة محرّمة وتعرف أين تجد المؤونة، فكانت أولى مهامها نقل الرسائل للمناضلين إلى مكان معين دون رؤيتهم، لتكلف بعدها بإخراج السيدة بن مبارك التي كانت تقطن في ميلة القديمة ونجحت في عبور الحواجز الأمنية.
وتتذكر محدثتنا أسماء مجاهدات إلتقت بهن أثناء أداء مهمتها، عرفن بالبسالة والشجاعة، منها فطيمة بن دالي ونفيسة لعروسي التي أحضرت ضابطا فرنسيا قتله المجاهدون وأخرجته بنواحي قسنطينة،وفي عنابة عقيلة بوطبة والدها كان جزارا وخطبها أحد الحركى للزواج، لكنها ضربته مفك البراغي في رقبته وهربت إلى الجبل حاملة قفة سلاح ومسدس، إضافة إلى مجاهدات من ولاية جيجل مثل قمرة بلحيمر، يمونة بن حبيلس وفطيمة حربي تسمى حورية حربي المخلصة ذات 17 سنة، هذه الأخيرة عذبت عذابا شديدا لأن والدها كان يخفي السلاح ونجحت في الهروب من المحتشد وجاءت إلى جبل بوحنش، أواخر 1962.
  بن طوبال: «إذا لم تنخرط المرأة في الثورة لن تنجح»
استقبل جيش التحرير الوطني المرأة بفخر واعتزاز ونظر إليها نظرة الأخ لأخته، كما عاملها بإحترام شديد وحرص على سلامتها،  لأنها أمانة سلمها له أهلها، فاعتبرت المجاهدة بنت الجبهة والجيش تعلمت قيم الوطنية والإنسانية والإخلاص في جو يسوده الإيخاء والصداقة، بحسب شهادة المجاهدة بن قمبور لـ «الشعب ويكاند» التي عاشت ويلات الاستعمار بالمنطقة المحرمة وما يزال صوت الطائرات المقنبلة يرن في أذنها، والمشاهد المروعة لتلك الحرب في منطقتها، وكذا صور الشهيدات اللائي كن معها، منهن الشهيدة الضاوية بوفلة التي لا تفارق صورتها خيالها. 
تقول محدثتنا إنه طيلة ثلاث سنوات في الجبل بالولاية التاريخية الثانية لم تسمع كلمة سيئة من جندي أو مسؤول جيش التحرير، فنظام الثورة أعطى قيمة للمرأة مستشهدة بقول المرحوم المجاهد لخضر بن طوبال: «إذا لم تنخرط المرأة في الثورة لن تنجح «.
 العلم أبوك والجزائر أمك .. وصية من ذهب
 عندما وصلت بن قمبور إلى الجبل كان عمرها حوالي 15 سنة، استقبلها أحمد شبيرة، هذا الأخير عرفها على الجنديات والجنود قائلا لها: «هذه فطيمة ودايخة جنديتان هما أختاك وذاك الشاب الذي يمسح سلاحه أخوك وهذا العلم المعلق في الشجرة (كان قطعة قماش باللون الأحمر والأبيض والأخضر ) أبوك، والجزائر أمك وأنا جدك».
في اليوم الثالث قامت المجاهدة بخياطة جوارب المجاهدين، وكانت تنتقل من المنطقة المحرمة إلى المنطقة الحرة بأولاد رابح، هناك إلتقت بمجاهدة تحرس في المركز تسمى جميلة العبدية كانت إمرأة صنديدة، فرنسا قتلت كل أهلها، وأخرى تسمى خديجة بولقبول، انبهرت لشجاعتهن، وخضعت محدثتنا لتدريب مساعدة طبية رفقة فتيات أخريات، وحسب شهادة بن قمبور، فإن الولاية التاريخية الثانية كانت تملك 550 جندية أغلبهن من الريف.
أكدت بن قمبور أن المرأة الريفية عانت كثيرا فحين يلقي عليها القبض تعذب عذابا شديدا وليس لها الحق في محامي، وتشير إلى أن المرأة الريفية كانت تعيش في عرشها بكل احترام ولا تحتجب عن الرجال، ولم تشاهد يوما امرأة في الريف ملحفة أو هربت من الرجال أغلبيتهن كن يعيشن في عرشهن وعندما اندلعت الثورة التحريرية كن أول المنخرطات في صفوف جيش التحرير الوطني، وتوضح أن المجاهدة لم تشارك في معركة بالسلاح بل يتكفلن بنزع أسلحة المجاهدين بعد استشهادهم، أما الجنود الفرنسيين فينزع كل شيء ما عدى الملابس الداخلية. كما تأسفت محدثتنا أنه رغم توفر الولاية التاريخية الثانية على 550 جندية، إلا أنهن لم يحظين بالتكريم، فهن مفخرة المرأة الجزائرية.
وتقول: «المجاهدة حررت المجتمع والمرأة، فلو كانت هذه الأخيرة صالحة يصلح المجتمع، الثورة علمتني حب الوطن وأعطتني الشخصية والعلم، لم نكن نعرف الجهوية كلنا إخوة، أطلب من بنات الإستقلال أن يكونوا الخليفة في تربية النشء على الإخلاص وحماية الوطن من الأعداء داخليا وخارجيا».
وتضيف: «المجاهدة مثلت كل فئات المرأة ولم أسمع عن مجاهدة أساءت الأخلاق أو شتمت، على شباب اليوم تذكر الشهيدات الذين ضحوا بثمن غالي ويذكرهن في كل مناسبة، فقد كن شريفات».
تتذكر المجاهدة بن قمبور الذكرى 59 لوقف إطلاق النار بالدموع، لأنها فقدت رفيقاتها في السلاح اللائي سقطن شهيدات بأبشع الصور خاصة صديقتها الضاوية بوفلة التي استشهدت شهرين قبل قرار وقف إطلاق النار، يوم زفافها عندما أرادت الالتحاق بزوجها في مركز آخر، حيث عثر على جسدها ويدها بالحناء وخاتم الذي أهدته لها الثورة، وكذا الشهيدة خوجية بيدة، فلم تتذوق بن قمبور طعم الانتصار لأن الاستعمار دمر كل ممتلكاتهم وشردهم في الجبال وليس لديها منزل تأوي إليه، كما قتل الكثير من أفراد عائلاتها بالطائرات المقنبلة والنابالم ولا تزال يتماثل أمام عينها مشاهد الحرب المريعة.
وتقول: «عشت أربع سنوات في المناطق المحرمة وثلاث سنوات مجاهدة، تم تحويلي لمنطقة تمزغيدة بجيجل لأن الممرضة المساعدة أرسلت إلى مركز قوروش، بقيت هناك ثلاثة أشهر، نحن الفتيات لم تكن لدينا علاقات مع الرجال وجيش التحرير لم تكن لديه معلومات، كنا نستمع لإذاعة تونس فالمسؤولين العسكريين والسياسيين هم من تصلهم الأخبار، فالمسؤول على منطقتنا كان في الناحية الثالثة آنذاك «.
وتضيف بن قمبور:»عندما نهضنا في الصباح لم نسمع صوت الطائرة تحلق في السماء مثل العادة فاستغربنا، بعد اجتماع مع أفراد جيش التحرير الوطني سمعناهم يتحدثون عن وقف القتال، لكننا لم نصدق الخبر ولم نشعر بفرحة النصر، كنا أربع مجاهدات لا نملك منزلا نأوي إليه لأن الاستعمار دمر كل ممتلكاتنا، واستشهد الكثير من المجاهدين والمجاهدات خاصة رفيقتي الضاوية بوفلة التي أبكيها لحد الآن، كما أنه ليس لي معلومات عن والدتي المجروحة إن كانت حية أو ميتة».
وتقول أيضا: «عندما نزلنا إلى المناطق المحرمة التي دمرها الاستعمار شاهدنا جثث مدنيين مقتولين، فعندما أشاهد شريط وثائقي حول كيفية استشهاد العقيد لطفي يفكرني باستشهاد المسؤول عمار طيبي، مازلت أتذكر تلك الصور المروّعة ورعب الحرب، أتحاشى مشاهدة أفلام الرعب ولا أستطيع رؤية الطائرة عشت مرارة الحرب في صغري، ذلك اليوم ما يزال محفورا في ذاكرتي».
وتشير: «اليوم أجهش بالبكاء لأني لم أعد ألتقي بالمجاهدات صديقاتي اللواتي كبرت معهن، هن عائلتي، أغلبهن توفين والأخريات مريضات حبيسة المنزل لا تخرجن، نتمنى أن يدرك جيل اليوم قيمة التضحيات التي أدت إلى استقلال الجزائر، وأن لا ينسوا تضحيات المجاهدين والشهداء الذين سقيت بدمائهم أرض الجزائر، وأطلب من شباب اليوم الحفاظ على الجزائر وحمايتها من أعدائها بالداخل والخارج وفاءً لرسالة الشهداء». 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024