دافع الشهيد عن شرف الأمة والوحدة الترابية والشعبية، ووجب علينا تخليد مآثرة بإعادة تأبيدها عبر فعل إبداعي ليظل خالدا في الذاكرة الجماعية، وان يصل مدلولها التاريخي والعلمي والأكاديمي إلى كل شرائح المجتمع الجزائري، هذا ما أكده الباحثون في التاريخ لـ «الشعب ويكاند» بمناسبة اليوم الوطني للشهيد، واصفين الاستشهاد بالسماد الذي تتقوى وتتحصن به معنويات الأمّة والأجيال.
أبرز الباحث صادق بخوش رمزية الشهيد في قلوب الناس على مدى آلاف السنين بما يحمله من قيمة إضافية، قائلا: «الشهيد ليس بشرا توفي وانتهى، فهو ممدوح من قبل الله عزّ وجل، ويعتبر حي يرزق»، مشيرا إلى أن إحياء اليوم الوطني للشهيد، سنّة حميدة تم التوافق عليها، منذ عقود قليلة، أي بعد نضالات من طرف أبناء الشهداء، وكل الوطنيين المخلصين من أجل إعطاء يوم يخلّد فيه الشهيد.
يوّضح بخوش أنه حين يستشهد رجل أو امرأة في سبيل قضية عادلة وصادقة وفاضلة، خاصة في سبيل نصرة وطنه وقيمه فهذا الاستشهاد فيه إيثار، قائلا:
« أن يؤثر المرء عن نفسه وطنا أو مجموعة من أجل قيمة عليا يموت في سبيلها، وهنا الفرق بين الانتحار والاستشهاد، فالأول قتل للنفس بغير وجه حق لاعتبارات تقنية أو لمآسي يعيشها الإنسان ولا يستطيع أن يتحمل مواجهة المصاعب، بينما الآخر يتعالى فوق الصغائر والأحداث البسيطة من أجل أن يقدم نفسه هدية، كما وقع للنبي إبراهيم عليه السلام مع ابنه».
وأضاف أن الشهادة والاستشهاد والشهيد مصطلحات تستغرق معاني سامية وكبرى، وهنا الرصيد الرمزي المعنوي الذي يبقى في الذاكرة، وفي المخيل العام لأمة تعتز به وتتزود به، وتحقن نفسها من أجل الصون والاستمرارية، مبرزا أهمية الشهادة كقيمة مثلى يستحق أن يحتفى بها باستمرار.
يرى محدثنا أن مسألة تخليد الشهيد تختلف باعتباره قيمة رمزية ثابتة في الذاكرة الجماعية، وفي المخيّل الجماعي، يتوارث ذكره واسمه العطر عبر الأجيال والأزمنة، بل وعبر القارات، مشيرا إلى أن مفهوم الشهادة هو مفهوم ديني ويندرج في المصطلحات السياسية لكل من يموت لأجل قضية سامية يعني تتجاوز ذاته ويؤثر فيها عن نفسه أشياء كبرى.
ويقول :»إن الاحتفاء بالشهيد، هنا مهمة الإبداع الفكري أو السينمائي أو المسرحي أو في الرسم أو الرواية سواء في كل الأجناس الفكرية والأدبية والعلمية، وما إلى ذلك، أو يخلّد من خلال التماثيل وإنجاز أعمال صورية وسينمائية ومسرحية بمعنى تصبح بمثابة هدية له، لأنه قدّم نفسه هدية من أجل الآخر، فكيف لا نرد هذا الجميل».
يضيف أن أساليب التعبير لا تنتهي، مثلا نسمي شارع أو جامعة أو مدينة أو طريق باسم الشهيد بدليل اليوم اسم العربي بن مهيدي في مكان، وزيغود يوسف، العقيد عميروش ولطفي وغيرهم، وبحسبه فإن التعبير عن الإستشهاد هو إعادة تأبيد الحدث عبر فعل إبداعي فني جمالي حتى يظل خالدا في الذاكرة العامة، مشيرا إلى أن هناك طرق متعددة سنويا يقام فيها هذا الحدث على المستوى الوطني حتى تدرك الأجيال والشعوب والأمم من خارج بلدنا أن هذا العزّ المتمثل في السيادة والإستقلال والحرية، لأنه من لا يعرف كيف كانت الجزائر قبل 1962، وما بعدها تتشابك عليه المسائل ولا يُدرك معنى المأساة التي عاشها هذا الشعب.
يقول أيضا إنه لما تدرك الأجيال أن هذه الحرية والسيادة لم تأت سدى وبالمجان وليست هدية من أحد، وإنما بدماء الشهداء والشهيدات الذين ضحوا من أجل أن تعيش الأجيال وتحرّر شرف الوطن، لأن هذا الأخير له شرف وحرمة يجب أن تحرر، كما تدافع عن شرفك الذاتي والفردي والعائلي وشرف الأمة حتى تبقى في الذاكرة، وفي مخيال الأجيال الصاعدة.
ويضيف: «هذا لم يكن عبثا وإنما جاء بتضحية، وبالتالي من الواجب المقدس الحفاظ على هذه المكاسب الوطنية التي جاءت بثمن غال، كل جيل يقدّم ضريبة، إذا كانت ضريبة الدم قدّمها جيل نوفمبر 1954، فضريبة الإبداع والتنمية والتقدم والإزدهار هو مسؤولية هذه الأجيال وان تحافظ عليها».
في هذا الشأن، يبرز محدثنا أن الشهيد استشهد من أجل الحرية والوحدة الترابية والشعبية من أجل شرف الأمة والوطن لتظل تحت الشمس أمة متميزة لا تخضع للعدو، وبالتالي هذه الضريبة ستكون بمثابة حصانة للأجيال حتى تحافظ على هذا المكسب وتضيف عليه من عبقريتها وتستمر وتوّرثه، وهذه سيرورة الحياة.
ويؤكد الباحث أن إنتاجنا عن الشهيد متواضع جدا، وبحسبه فإننا أمة تصنع التاريخ ولا تعبر عنه، فهي من أكثر الشعوب صناعة للحدث والفعل الخلاق، مستشهدا بمقولة الشهيد مصطفى بن بولعيد: «جاء غيرنا ربما ليفهم التاريخ وليغيره وجئنا لنولد التاريخ»، ويشير انه رغم ما أنتجناه في المجال السينمائي والمسرحي على مدى 60 سنة الأخيرة، إلا أنها غير كافية، ومع ذلك يجب تثمين واحترام وتقدير أعمالهم وشكرهم على ما قدّموه في سبيل تخليد هذه المآثر.
ويرى أنه أحيانا شخصية واحدة تستحق أفلاما ومسرحيات، والمؤلفات ما تزال متواضعة مقارنة بحجم التضحيات والمآثر.
وفي ردّه عن سؤال حول شهداء بلا قبور يقول: «مسألة الشهيد بلا قبر هناك الآلاف، لدينا شهداء من الأسرة بلا قبور هم شباب لا نعرفهم وأتذكر وأنا صغير لما إلتحقوا بالثورة، ولم يعودوا ولا نعرف، أين هم مدفونون»، مضيفا أن رمزية الشهيد هو أن الله عزوجل كرّمه ورفعه إلى السماء، فالأجساد الطاهرة للشهداء ذخر لتطوير الفلاحة والزراعة، والقيمة الرمزية في الاستشهاد هو السماد الذي تتقوى به معنويات الأمة والأجيال وتتحصن.
ويبرز أن الجزائر لديها الملايين من الشهداء على مدار 132 سنة، عندما احتلت فرنسا الجزائر كان 10 ملايين جزائري وعندما خرجت كنا أقل من هذا العدد، من المفروض لو كل سنة نزيد 500 ألف فقط سنصل إلى 50 مليون، لأنه كانت فيه إبادة جماعية»، ويوضح أنه يجب التدقيق في الإبادة التي مارستها فرنسا ليس على الإنسان فقط ولا على التراب والمآثر في البنايات، وطمس معالم الشخصية الجزائرية، بل مارستها على الأذهان والذوق، حاربت اللّغة والدين والوحدة الوطنية، إختلقت أساطير كاذبة من أجل تفكيك وتفتيت الوحدة الوطنية.
يشير محدّثنا إلى أن تمثال الجندي المجهول ليس واحد فهو يعبر عن الجماعة، ومن الضروري بما كان إعطاء مدلول قيمي مستشهدا بما قاله الجنرال جياب لما جاء إلى الجزائر: «علمتمونا تقديس الشهداء، وهذا شيء مهم لإعتبارات كثيرة»، مضيفا أن تبجيل الشهيد أولا لتضحياته التي قدّمها مقارنة بالرسالة الكبيرة التي قام بها في طرد هذا الظلام المخيف المرعب، وثانيا لأن ديننا وقرآننا الكريم يجل ويرفع مرتبة الشهداء مع الأولياء والصديقين والأنبياء، هنا دلالة أخرى فلسفية على أن الحياة ليست عبثا، جئت لهذه الحياة لقيمة ولأمر ما.
ويؤكد الباحث أنه مهما تكلمنا عن الشهداء بلا قبور لا نوفيهم حقهم أبدا وستظل الأجيال تذكرهم، وتوّرث قيمهم، قائلا: «فما فعلته فرنسا وما جندت له من العلماء ومن التدليس على المعرفة والعلم عبر الأنثربولوجيا ودراسة علوم الجناسة كلها وظفتها من أجل اختلاق أساطير كاذبة وإيجاد مداخل لتفكيك وتفتيت المجتمع وتغريبه عن الإنبتات le déracinement، هذا الأخير سعت فيه فرنسا»، ويشير أنه في هذا الإطار عن أنه كتب سيناريو بن بولعيد والعقيد لطفي وسي محمد بوقرة.
ويضيف: «لدرجة أن بعض علمائهم يقولون عجبنا لهذا الشعب الجزائري، مخططاتنا التي نفذت على شعوب الهند الصينية نجحت نسبيا، ويقولون كلاما سيئا عن هذه الشعوب، لكن الشعب الجزائري بقي متمسكا لا يفنى، بل هو كالنمور المجروحة، هذا دلالة أخرى على أننا شعب تاريخي لنا تاريخ طويل».
كتيب بعنوان: «الإنهيــار» عــن مآثــر الثورة في الولاية التاريخية الرابعة
في المقابل يكشف بخوش عن عمل قدّمه لإحدى الوزارات، منذ مدة طويلة، يتحدث بالوثائق عن 9 آلاف سنة من تاريخ الجزائر ومآثرها، قائلا: «نحن كبقية الشعوب لسنا أسوء ولسنا أفضل، لكن الشعوب تقاس بالرسائل والقضايا الكبرى التي تندرج فيها وتبدع فيها وتحافظ عليها»، ويوّضح أن العمل الذي قدّمه على أساس ينجز في شهر نوفمبر الفارط، لكن لم ينجز.
إضافة إلى ذلك لديه عمل كامل وهو فيلم بـ 132 صفحة عن البطلة المحكوم عليها بالإعدام جميلة بوعزة، وفيلم طويل موجه للأطفال عن الشهيد ديدوش مراد وأعمال أخرى للأطفال أيضا، ويشير إلى الأهمية التي يوليها لهذه الفئة لأن الطفل رجل الغد، وإذا زرعنا اليوم جيلا محصنا بالعلم والإيمان والمعرفة وحب الوطن سنجني شعبا عظيما ونضع قطيعة نهائية مع التخلف عدونا، يضيف محدثنا، كما يكشف أيضا عن كتيب اسمه «الانهيار» يتحدث فيه عن بعض مآثر شهداء الثورة في الولاية التاريخية الرابعة سيصدر قريبا.
وعن كيفية الاستلهام من قيم ومآثر الشهداء، يقول بخوش، إنها تحكي حكايات حقيقية عاشها المجاهدون تجعلك تقول هذا عمل مستحيل، علاوة على بعض المواقف بل الكثير من المواقف الجهادية والمواجهات مع العدو والظروف التي قد يكون فيها الجندي الجزائري الذي لم يأكل ويشرب، منذ أسبوع ولم ينم، حذاءه ممزق ومع ذلك يواجه العسكري الفرنسي الذي هو شاب قوي ومدرب وله سلاح قوّي وأكل وشرب ونام جيدا، ووراءه المدافع والطائرات تحميه، إلا أنه انتصر على العدو بفضل إيمانه القوّي بالقضية بالرغم من عدم التوازن في المعركة.
ويضيف: «هنا تأتي البطولة وتبرز اللحظة التي تمحص الذات وتجعلها تبدع أشياء ما فوق العادي أي مستحيلة وشاهدنا معارك وأحداث كانت مستحيلة، تاريخنا مسؤولية ورسالة وواجب».