المجاهد مقراني: سي مبروك لم يستفد من أي امتيازات ولم يطلب جزاء ولا شكورا
أب المخابـــرات الجزائرية نسج علاقــات في المغرب والمشـــرق العـــربي لخدمة الثورة
العظماء يبقون دائما عظماء، إن رحلوا تبقى إنجازاتهم خالدة تتوارثها الأجيال. عبد الحفيظ بوصوف، أو سي مبروك، الاسم الثوري، أب المخابرات الجزائرية، رأس إبان الثورة وزارة التسليح والاتصالات العامة «مالغ»، وعمل على تكوين إطارات بكفاءة عالية في سلاحي الإشارة والشفرة، وهو سلاح ساهم بعد الاستقلال في بناء الجزائر.
اليوم، «الشعب » تنقل شهادة عنصرا من العناصر التي كونها الراحل بوصوف، وهو المجاهد والدبلوماسي الأسبق محمد مقراني.
سي مبروك رجل حرب ومهندس عمليات استعلام في المنطقة الغربية قبل اندلاع الثورة، وأول نشاط قام به هو نسج علاقات في هذه المنطقة من البحر إلى الصحراء، بحسب شهادة المجاهد مقراني، الذي يقول: «سمحت الظروف لبوصوف بدخول المغرب التي كانت تحت نير الإستعمار، وكان هدفه التعرف على الجالية الجزائرية الموجودة بها، ساعده الحظ أنه التقى أوّل فرد من الجالية هو منصور بوداود رحمه الله».
يضيف محدثنا: «منصور بوداود ينحدر من منطقة أزفون، سافر مع شقيقه عمر بوداود إلى المغرب، أين مارس تجارة صغيرة، منصور بوداود ربط علاقة بين عبد الحفيظ بوصوف والعزوز العباسي، وهو جزائري يملك حافلة صغيرة يجوب بها يوميا خط وجدة-وهران والعكس»، وكلف بوصوف العزوز بالبحث عن شباب جزائري يملكون ثقافة ثانوية في مستوى البكالوريا كأقصى حد، وجاب العباسي التراب المغربي مدينة مدينة وسجل أسماء الشباب الجزائريين المثقفين الموجودين هناك، ثم سلم القائمة إلى سي مبروك.
علما أن بوصوف كان من الذين حضروا اجتماع مجموعة 22 التاريخية، والذي أسفر عن صدور توصيات من ضمنها تقسيم التراب الوطني إلى خمس مناطق (ولايات)، وتعيين رؤساء المناطق ونوابهم، منهم بوصوف الذي عيّن في المنطقة الغربية مع العربي بن مهيدي كنائب ثاني والنائب الأول بن عبد المالك رمضان.
عُيّن بوصوف وزيرا للاتصالات العامة لأنه هو مسؤول الدفعة الأولى لسلاح الإشارة التي كونها بالمنطقة الغربية سنة 1956، وبعد ثلاثة أشهر من التربص يعطي بوصوف الأمر بتأسيس مكتب الشفرة بقيادة الأركان ناحية الشرق، التي كان يشرف عليها العقيد محمدي سعيد، المدعو سي ناصر.
أسس أول مدرسة للإطارات يشرف عليها أساتذة وهم بلعيد عبد السلام، والعروسي خليفة وكلف في مجال التدريب العسكري العقيد هواري بومدين، والمجموعة التي تكوّنت ضمت عبد العزيز بوتفليقة، أحمد مدغري، كريم بلقاسم ومجموعة كبيرة، وإضافة إلى دفعة ضمت المرحوم محمد يزيد زرهوني، قاصدي مرباح، عبد الرحمان بروان المدعو سفر وعبد الكريم حساني.
وخصصت هذه المجموعة لسلاح الإشارة، ولما تكونت هذه المجموعة سميت بدفعة زبانة لأن في ذلك الشهر نفذ حكم الإعدام بحق الشهيد. وبحسب المجاهد مقراني بلغ العدد 74 عنصرا. وأضاف: «تفرعت هذه الخلايا إلى مديريات بين 1956 و1958 وأوّل مدرسة للإطارات أصبحت بالمنطقة الغربية تتوفر على كوادر لا بأس بهم في سلاحي الإشارة والشفرة، وعينوا كمسؤولين وانبثقت عن هذه الدفعة عناصر كونوا المخابرات ومديرية اليقظة ومكافحة التجسس يرأسها عبد الرحمان بروان المدعو سفر، ثم تكونت مديرية الأرشيف والاستعلامات يشرف عليها محمد خلادي»، مشيرا إلى أن هذه المجموعة بدأت العمل من 1956 إلى غاية تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، هذه الأخيرة عينت بوصوف وزيرا للتسليح والاتصالات العامة، لأنه الأقدر على توّلي هذا المنصب.
أوضح مقراني أنه بعد تكوين الحكومة المؤقتة التي كان مقرها بالقاهرة تفرعت شبكات من سلاح الإشارة والمخابرات بصفة عامة وزوّدت المناطق الشرقية بسلاحي الإشارة والشفرة، وهنا بوصوف تغلغل في المشرق العربي خاصة بمصر من المحيط إلى الخليج برجالاته الذين كوّنهم بالمنطقة الغربية.
تمكن من التغلغل داخل قصر الإيليزي بباريس ومجلس الوزراء ماتينيو، حيث كانت تصله تقارير اجتماعات الجنرال شارل ديغول وكل القرارات المتخذة في اليوم الثاني من الاجتماع، بحسب شهادة محدثنا.
يروي الدبلوماسي الأسبق أن فرنسا كوّنت ملهى في الصحراء المصرية بالتحديد بمنطقة العالمين، بحسب ما أخبره به أحد ضباط المالغ المدعو أمياني، حيث أحضرت فرنسيات إلى هذا الملهى على أساس إنشاء شبكة، مهمتهم قتل جميع أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وبفضل كفاءة منصور بوداود تغلغل داخل هذا الملهى وتمكن من حماية أعضاء الحكومة المؤقتة، حيث تكفلت الشبكة التي كانت موجودة بالقاهرة بتصفية العملاء.
أبرز المجاهد الدور الكبير لبوصوف في تسيير نشاطات الاستعلامات ميدانيا، وكان مخطط ومهندس العمليات بامتياز. وهنا يروي لنا مقراني حادثة السفن الثلاثة التي خرجت من الإسكندرية متوّجهة إلى الجزائر واحتجزتها السلطات الفرنسية في عرض البحر، قائلا: «هذه المرة أرسل بوصوف السفينة فارغة وحين احتجزتها فرنسا وجدوها فارغة ففهموا الرسالة، وهنا أرسلت إلى مصلحة المخابرات بسفارة فرنسا بتونس رسالة لعميلها للالتحاق بقاعدة بنزرت آنذاك، والذي نقل بطائرة مروحية إلى الجزائر وأصبح يقدم حصة يومية عبر إذاعة صوت البلاد لكسر معنويات الجنود والثورة».
يضيف مقراني أن سي مبروك اكتشف العميل الذي زرعته فرنسا، وهو جزائري يشتغل في منصب حساس جدا، فأصدر أوامره بإعدامه لأنه علم بأن البواخر التي احتجزت كانت بسبب وشاية هذا العميل، فجنّد أحد العاملين مع لاكوست مكلف بالاقتصاد يسمى صالح بوعكوير، وهناك سكرتيرة جزائرية تصلها الرسالة من باريس مع الحقيبة الدبلوماسية مشفرة فتسلمها السكرتيرة لزميلها وهو بدوره يسلمها للأستاذ محفوظ قداش، هذا الأخير يسلمها للمجاهدين لتنفيذ حكم الإعدام.
أبرز محدثنا حنكة بوصوف في تكوين شبكة بالجزائر تتكون من قسمين، الأولى خلية بالقصبة لا أحد يعرف من هم إلى غاية اليوم، والخلية الثانية في قلب الحكومة الفرنسية العامة، نفس خط المكالمات الذي يأتي من ماتينيو إلى الجزائر عن طريق باريس إلى قصر الحكومة في الجزائر يمرر عبره بوصوف الرسائل إلى المجاهدين بالداخل، ويشير إلى أن هذه الجماعة اتفقت مع بوصوف على خدمة الثورة الجزائرية بكل إمكانياتهم، شريطة أن يبقوا مجهولين لا يذكر اسمهم أو ترى وجوههم، وبالفعل ماتوا دون معرفة أسمائهم.
في مكان يسمى ساحة «العود»، أو الحصان، آنذاك والآن ساحة الشهداء أطلق الرصاص في وضح النهار على العميل وأعدم. هنا يظهر دور مصلحة الاستعلامات والمخابرات التي لانها بوصوف مع رجال أكفاء داخليا وخارجيا، يقول محدثنا.
أضاف: «على الإخوة في الجيش الوطني الشعبي دراسة من هم عناصر المالغ وكيف تكونت الدفعات الأولى لسلاح الإشارة والشفرة»، مشيرا: «لما تكونت جمعية المالغ بفضلي دافعت عن حقوقنا الضائعة، كنا مسؤولين وضباط في جيش التحرير الوطني، لابد من إعتراف وزارة المجاهدين بمسؤولياتنا كضباط أثناء الثورة، أعطيت امتيازات لمجموعة والأغلبية همشت».
كشف مقراني عن جمع 148 ملف يضم معلومات حول سلاحي الإشارة والشفرة، اليقظة ومكافحة التجسس، الخدمات اللوجستيكية والنقل على الحدود الشرقية الغربية، حفظها كأرشيف عن ما أنجزه ضباط المالغ إبان الثورة لتفيد الباحثين والطلبة في إنجاز المذكرات.
كان يعامل جنوده معاملة الأب لأبناءه
لم يستفد أب المخابرات الجزائرية بعد الإستقلال من أي امتيازات ولم يطلب جزاءا ولا شكورا، تخلى عنه رفقاءه والضباط الذين كوّنهم رغم كل ما قدّمه للثورة فقد أصبح بدون مسكن ولا أموال، كان يقيم عند صهره، الوحيد الذي ساعده هو المجاهد مقراني بمنحه منزل والده للعيش فيه رفقة زوجته وابنه إلى غاية سنة 1964، بحسب شهادة مقراني.
يؤكد محدثنا أنه مهما تكلمنا عن الرجل لا يمكننا إعطاءه حقه في النضال ثم كفاحه والتنظيمات التي باشر بها من 1955 إلى 1962، الرجل تدرّج من مناضل إلى العمل السري ثم إلى رجل حربي بقيادة الأركان بالمنطقة الغربية.
عندما تعرف أن رجلا بمثل عبقرية وحنكة بوصوف يتعامل مع عناصره معاملة الأب لأبناءه فلا أحد اشتكى من أن سي مبروك شتمه يوما، كان يزورهم في القاعدة العسكرية لسلاح الإشارة بالشرق ويتفقد نشاطهم، ويرفع معنوياتهم بتثمين مجهوداتهم وتشجيعهم على تقديم المزيد من أجل استرجاع السيادة الوطنية، بشهادة مقراني، الذي يقول: هنا تدرك عظمة الرجال الذين أنجبتهم الجزائر ولم ينالوا حقهم وعلى هذا الأساس أردنا تخليد ذكراه وإخراجها من دائرة التهميش.
يروي المجاهد أنه حين كان بسفارة الجزائر في القاهرة رفقة السفير الأخضر الإبراهيمي الذي كان يثق به ويعتمد عليه في عدة أمور بالقاهرة، أنه كان يرسله لتمثيل الجزائر بجامعة الدول العربية وحضور الاجتماعات ليعرف بمواقف الجزائر في القضايا المطروحة، قائلا: «في سنة 1964 في الثالثة مساءً عدت للسفارة فكان بانتظاري الإبراهيمي الذي كان يقطن بالطابق الأول بالسفارة .. ناداني باسمي الثوري «طاهر»، وقال سأخبرك بأمر وعاهدني بقول الحقيقة والعلاقة التي تجمعكما، فأجبته بأنه لا يمكنني معاهدتك دون أن أعلم بالموضوع، فرد: «هناك شخص ينتظرك بالفندق وأخبرني بضرورة إرسالك له».
ويضيف: «سألته عن الشخص الذي يبحث عني، فأجابني أن هذا السيد ليس هين وذو قيمة، وفي الأخير أخبرني بأنه عبد الحفيظ بوصوف»، فكان رد محدثنا: «سي لخضر كن عاقلا، أنت رجل مثقف، أنا عنصر من المالغ وبوصوف هو مسؤولي من الطبيعي أن يبحث عني، لم أخبره أن بوصوف يسكن في منزل والدي، لكنه لم يقتنع وقال لي هناك سبب ولا تريد الإفصاح عنه، فأجبته أن الرجل عبقري جاء هنا وأراد رؤية عناصره».
توجه مقراني نحو الفندق، أين يوجد سي مبروك، وبعد فتح الباب حضنه بحرارة، طالبا منه العمل معه في مجال التجارة بالقول: «جئت خصيصا إليك لتعمل معي في التجارة، فأجبته بأنه مستحيل كون لدي مسؤوليات، فألح عليا أن اترك كل شيء واذهب معه وتذكرة السفر جاهزة، رفضت». ويضيف: «أذكر ثاني مرة اتصل بي بوصوف كانت سنة 1974 أرسل لي رسالة من سفارة باريس مع زميل سابق في سلاح الإشارة يطلب فيه التكفل بعائلته التي ستنزل في مكة لأداء مناسك الحج، استقبلتهم بمنزلي وأخذتهم لأدائها».