جوهر العلاقات بين المجاهدين

الوجـه الإنسـاني للثّـورة

فتيحة كلواز

 يوميات تصنعها الأخوّة، التّضحية والإخلاص

نتناول اليوم جانبا خاصا من حياة المجاهدين الذين صوّرتهم الكتب والمذكرات رجالا لا يهابون الموت، سيكون الإنسان داخلهم عنوان موضوع حمل بين أسطره تفاصيل حياة وحّدت بين أمل في غد أفضل واستشهاد في ساحة المعركة، فكانا وجهان لعملة واحدة هي كسر قيود الاستعباد، ورغم أن السلاح جزء لا يتجزّأ من يومياتهم، إلا أنهم حافظوا على علاقات وروابط اجتماعية قوية كان أساسها التفاني، الإخلاص وأُخوّة تجاوزت حدود العائلة ورابطة الدم.

جودي أتومي، خديجة بن قنبور، مجاهدان قاسما جريدة «الشعب» ذكريات عادت بهما إلى الفترة الممتدة بين 1954 و1962، أين عاشا متنقّلين بين جبال عبّدت لهما وعورتها، أحراشها وغاباتها طريقهما نحو الحرية، لتنجلي أمامنا صفحة أخرى من صفحات تاريخ الجزائر.

جودي أتومي: «علاقة قويّة ربطت المجاهدين ببعض وبالمدنيّين»

قال المجاهد جودي أتومي إنّ العلاقات الاجتماعية التي سادت الحياة اليومية للمجاهدين في الجبال كان أساسها الأخوّة والتماسك بينهم، حيث يحرص كل واحد على الآخر يتقاسمون لقمة العيش وان كانت قليلة، يقبلون على التضحية من اجل بعضهم في حالة خطر، فترى كل واحد منهم يريد أن يكون في أول الصفوف حتى لا يقتل زميله أو يصاب بسوء.
وأكّد أنّ الأخوّة التي ربطت بينهم تجاوزت المفهوم العادي لهذه الرابطة لأن المجاهدين جمعتهم أم واحدة هي الجزائر وأب هو الكفاح المسلح حتى النصر وتحقيق الحرية، فروح الأخوة بينهم فاقت بكثير رابطة الزمالة، فالمجاهد في حقيقة الأمر يشعر بأنه أقرب إلى رفقائه من عائلته، وكانت المجموعة التي يقاتل ضمنها هي عائلته، حتى ساد بينهم ما يفوق الدفء الإنساني وروح التضامن في جو من الثقة المتبادلة.
وقال إنّ المجاهدين كانوا ملزمين بأن يكون الواحد منهم كيسا حذرا في حياته اليومية، رصينا في سلوكه وملتزما حازما في تصرفاته وأفعاله، فالأجواء داخل الملجأ مثلا كانت أخوية دائما، كل مساء تقريبا ينشد المجاهدون أناشيد وطنية في محاولة لرفع معنوياتهم، فكان كل واحد منهم يشعر بالفخر وهو يجهد نفسه في خدمة الوطن والاستعداد للتضحية في سبيل الله، كانوا يتذكّرون الموت دائما وكلهم حرص على نيل الشهادة عاجلا.
وعن يومياتهم، كشف أتومي أنّهم كانوا يتناولون الإفطار قبل شروق الشمس بعدها يرتدي الجميع ملابس القتال، استعدادا لأيّة مواجهة محتملة ووشيكة، وقال إنّ الحياة داخل الغابات أو المناطق المحظورة لم تكن سهلة على الإطلاق، كانت قاسية فعلا وجد مقيّدة، فقد كان عليهم توفير الماء والحطب وحتى إعداد الطعام وغسل الملابس، فليس من السهل أن يتولى المجاهد كل الشؤون من طحن القمح وإعداد الطعام وترقيع الملابس وكل الخدمات الأخرى.
أما النظافة فكانت مطلبا مهما وأساسيا، وكانت من أهم تعليمات قادة الجيش وجبهة التحرير الوطني «إذا مات أحدكم ينبغي أن يجده العدو نظيفا»، لذلك كان المجاهدون يحرصون على نظافتهم الخاصة، فيما كانت النساء من جهتهن يتشرّفن بإعداد الطعام للمجاهدين، وتراهن يبذلن كل ما في وسعهن اهتماما ورعاية تليق بمقامهم، ويفرحن عندما يبلغن أن المجاهدين راضين عن طعامهن.
وكانت ملابس المجاهدين توزّع على المنازل المجاورة لغسلها، والنّساء يشعرن بالاعتزاز وهن يلامسن ملابس المجاهدين التي تنبعث منها رائحة العرق جراء المسيرات الطويلة، يشمن روائح هؤلاء الرجال الذين تجرؤوا على تحدي القوة العالمية الرابعة رجال حرموا منازلهم وأسرهم لا يفكرون فيها البتة، فهم أهاليهم أينما حلّوا ويستقبلونهم أينما ذهبوا.
وكشف أن المجاهدين كانت تربطهم علاقة ثقة مع المرأة، سواء كانت رفيقتهم في حمل السلاح أو النضال أو كانت من الأهالي والقرى التي يزورونها، فالمجاهدات كنّ أخوات لهم لا ينظر لهن نظرة سيئة، والنساء بالإضافة إلى إعداد الطعام وغسل الملابس يكلّفن بنقل المعلومات والرسائل، يتعامل معهن المجاهدون مثلما يتعاملون مع أمهاتهم وأخواتهم، وإذا حدث تجاوز سيكون الإعدام مصير صاحبه، فقانون جبهة التحرير ينص على أن كل من ينظر لهن بنية سيئة يُقتل، للمحافظة على علاقة الثقة بين المجاهدين والمجاهدات والعائلات والمدنيين يكون الإخلاص فيها كاملا وتاما.

 خديجة بن قنبور: «حياة تسودها الثّقة»

 أوضحت المجاهدة خديجة بن قنبور بعدم إمكانية فصل الجهاد عن يوميات المجاهدين الذين سكنوا الجبال بالشمال القسنطيني، لأنهم حملوا السلاح من أجل قضية وطن تشرّبوا نسائم الحرية وأيقنوا تحقيقها قبل بلوغها بسنوات، وأنها كانت تعيش في المناطق المحرمة وقضت فيها أربع سنوات، النظام كانوا أقسام عاشت أربعة سنوات في المنطقة المحرمة جنّدت كوكيل اتصال (agent de liaison) بعد انتقالها إلى المنطقة المحرمة بميلة، لكن بعد كشفها من طرف العدو انتقلت إلى الجبال لتصبح مساعدة في التمريض، ووجدت هناك مجاهدات مكلفات باللوجستيك كالتمريض، المراقبة ونقل المعلومات وكذا الطبخ، حيث كانت تقسم المهام على أقسام.
وكشفت بن قنبور أن من أهم أسباب سماح العائلات لبناتها الانضمام إلى المجاهدين في الجبال هو خوفهم من تلك الجرائم التي كان يقترفها المستعمر خاصة الاغتصاب، وقالت إن 550 مجاهدة كن في تلك المنطقة جئن من مختلف ولايات الوطن، كن يقمن بأعمال كثير منها جمع أحذية القتلى من الجيش الفرنسي، المراقبة خاصة تلك اللواتي يعرفن المنطقة جيدا.
وعن الزواج، قالت بن قنبور إن القوانين في تلك الفترة كانت تمنعه بسبب الأعباء المترتبة عنه خاصة تربية الأبناء، لم تسمح به الحكومة المؤقتة إلا بعد عملية مخطط شال وعملية «بريسيوز» بالشمال القسنطيني في الفترة الممتدة بين 1959 إلى 1961، حيث عرف عدد الرجال انخفاضا بسبب موتهم في تلك المعارك.

 الثّورة..إنسان

أجمعت الشّهادات الحيّة للمجاهدين والمذكرات التي كتبوها أنهم عاشوا الثورة التحريرية بكل تفاصيلها وجوانبها الإنسانية، الاجتماعية والعسكرية، لولا التماسك الذي عرفته العلاقة التي تربطهم ببعض لما كانت الجزائر اليوم تحتفل بذكرى اندلاع الثورة المجيدة.
فكان الإنسان في جوهر ثورة أقسمت على طرد المحتل الذي احتفل قبل سنوات قليلة من تاريخ اندلاعها بمئوية استباحته أرض طاهرة لم ترضى الذل وان طالت مدة استعمارها، فكانت رصاصة الأول من نوفمبر أول حرف يكتب في تاريخ الجزائر المستقلة، ودرس آخر يلقّنه الشعب الجزائري للمحتل عنوانه «الجزائر جزائرية»، ولا تنازل عن هويته التي صمدت أمام حملات التكسير، التغريب والتبشير.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024