وزناجي: التعريف بالرجل يكون بدراسة إنتاجه وقراءة منهجه
يعتبر الراحل من الجزائريين القلائل الذين جمعوا بين الكفاءة العلمية والإنتاج المعرفي والجهاد في سبيل تحرير الوطن من الاستعمار الفرنسي، حيث انضم إلى جبهة التحرير الوطني بالقاهرة سنة 1955، بينما كان ما يزال طالبا بإحدى جامعاتها وكتب شعرا ثوريا حتى قبل اندلاع الثورة الجزائرية، وهو أول باحث جزائري يتحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ بالولايات المتحدة، ليعود سنة 1967 إلى الجزائر، إنه أبو القاسم سعد الله شيخ المؤرخين الجزائريين.
مرت، أمس، قرابة الست سنوات على رحيل الدكتور أبو القاسم سعد الله بالمستشفى العسكري بعين النعجة، عن عمر 83 سنة، بتاريخ 14 ديسمبر 2013 ، هو من مواليد 1 جويلية 1930 بضواحي قمار بالوادي، حفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ العلوم من لغة وفقه ودين، درس بجامع الزيتونة من سنة 1947 حتى 1954 واحتل المرتبة الثانية في دفعته، وهو من رجالات الفكر البارزين، ومن أعلام الإصلاح الاجتماعي والديني. له سجل علمي حافل بالإنجازات من وظائف، ومؤلفات، وترجمات.
بدأ يكتب في صحيفة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1954، وكان يطلق عليه «الناقد الصغير». كما درس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في القاهرة، وحاز على شهادة الماجستير في التاريخ والعلوم السياسية سنة 1962، ثم انتقل إلى أميركا سنة 1962، حيث درس في جامعة منيسوتا التي حصل منها على شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر باللغة الإنجليزية سنة 1965. وإضافة إلى اللغة العربية، أتقن اللغة الفرنسية، والإنجليزية، ودرس الفارسية والألمانية.
من مؤلفات موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي (9 مجلدات)، سنة 1998، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (5 أجزاء)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1993-1996-2004. الحركة الوطنية الجزائرية (4 أجزاء)، سنوات 1969-1992-1997، محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث (بداية الاحتلال)، طبعة 1 سنة 1970، وطبعة 3 سنة 1982، بحوث في التاريخ العربي الإسلامي، سنة 2003، الزمن الأخضر، ديوان سعد الله، سنة 1985، سعفة خضراء، سنة 1986، دراسات في الأدب الجزائري الحديث سنة 1966، تجارب في الأدب والرحلة، سنة 1982. مختارات من الشعر العربي، جمع المفتي أحمد بن عمار، أعيان من المشارقة والمغاربة (تاريخ عبد الحميد بك) سنة 2000.
بالإضافة إلى ترجمة كتب شعوب وقوميات الصادر سنة 1958، الجزائر وأوروبا، جون ب. وولف، الجزائر، 1986، حياة الأمير عبد القادر، شارل هنري تشرشل، سنة 1982.
وقد أصدر الأستاذ مراد وزناجي باحث بالمركز الوطني للدراسات والبحث في ثورة أول نوفمبر 1954، مؤلفا عنه بعنوان:» حديث صريح مع الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله في الفكر والثقافة واللغة والتاريخ «، كونه كان ملازما له بشكل شبه يومي، حيث يعتبر المؤلف وثيقة أرشيفية وعلمية هامة في التأريخ لسيرة الراحل العالم أبي القاسم سعد الله، والتعرف على فكره ومنهجه ومواقفه إزاء عدد من قضايا الأمة وشؤون الراهن، كما أن الكتاب بمثابة شهادة حية وردت في شكل حوار شيق وصريح مع الراحل.
وصدر الكتاب في ثلاث طبعات: الأولى سنة 2008، ثم طبعة ثانية مزيدة ومنقحة في 2010، أضاف فيها الراحل بعض الأجوبة الغائبة في الطبعة الأولى، أو تلك التي لم يستفض في الإجابة على أسئلتها في الطبعة الأولى، وأخيرا الطبعة الثالثة سنة 2014، والتي كان من المفترض أن يضيف إليها الجديد، لكن الأقدار شاءت عكس ذلك بسبب المرض وكثرة الأعمال.
المترجم الموسوعي بلا منازع
في هذا الصدد يؤكد مراد وزناجي في كتابه (حديث صريح مع الأستاذ أبي القاسم سعد الله) أن المؤرخ الفقيد هو المترجم الموسوعي بلا منازع، قائلا :»قد ورّث الأستاذ سعد الله الأمة الجزائرية والعربية عامة مؤلفات وتحقيقات وموسوعات مختلفة في الحركة الوطنية وتاريخ الجزائر الثقافي والأدب... إضافة إلى زخم ترجمي معتبر، تفرق بين أنواع مختلفة من الترجمات والتعليقات، وآراء في الترجمة منتشرة في مختلف أعماله ومشاركاته وتصريحاته».
وأضاف أن الراحل كان نشاطه حثيثا ومتنوعا وبأماكن عدة، حيث حاضر وناقش وأشرف على رسائل جامعية، ودرًس في عدد من الجامعات الكبرى في العالم، بأمريكا والأردن وغيرهما، وتمكن من تدوين عشرات الكتب والمؤلفات والمقالات، لكنه ومع ذلك، عرف بـ «معلمة تاريخ الجزائر»، وهي الموسوعة التي أطلق عليها اسم «تاريخ الجزائر الثقافي» والتي تمكن قبل رحيله بأشهر قليلة فقط من الوصول فيها إلى الفترة الممتدة ما بين الفتح الإسلامي إلى غاية الدخول العثماني. وقبل ذلك الجزء الأخير كان كتب فيها عن تاريخ الثقافة والمثقفين في الجزائر من بداية الفترة العثمانية إلى غاية الاستقلال الوطني.
ضم الكتاب المذكور قسمين اثنين، ضم الأول، والذي جاء تحت عنوان: (السيرة الذاتية والعلمية والنضالية بروايته الشخصية)، تحدث فيها الرجل عن وادي سوف، وعن سكانها وتاريخها، ثم عن حصوله على شهادتي الأهلية والتحصيل من جامع الزيتونة، وتنافس حزب الشعب وجمعية العلماء لاستقطاب الشباب المتعلم، وعن ذكرياته مع الشيخ العربي التبسي الذي كلفه برئاسة البعثة الزيتونية سنة 1952، وعما كان يكتبه في جريدة «البصائر»، وتخطيط ابن باديس لإشراك المرأة في التعليم والتكوين، وقصة تعليمه بمدرستي «الثبات» و»التهذيب» بالعاصمة، وعن نظرة الإخوان الليبيين للجزائريين أثناء الثورة، وعن سفره إلى القاهرة، وتوليه مسؤولية الشؤون الثقافية في الرابطة ثم اتحاد الطلبة الجزائريين بمصر، وصدور أول مجموعة شعرية له، والعمل بمصالح جبهة التحرير الوطني في مقر الحكومة المؤقتة، وقصة المنحة التي حولت مقر اتحاد الطلبة من لوزان إلى تونس، ودور العقيد بوصوف في ذلك وعن علاقة الإخوان المسلمين بالشيخ الفضيل الورتلاني، ولقاؤه مع الأمير عبد الكريم الخطابي، وغيره وأخيرا رحلته إلى أمريكا التي استقر بها طالبا ثم أستاذا.
أما القسم الثاني فعنوانه (آراء ومواقف الراحل)، مثل حديثه عن الفرنكفونيين، وأسباب رفضه تولي المناصب، وعن الفترة العثمانية بالجزائر، وظهر مستميتا في دفاعه عن الأمير عبد القادر، وعن مقته تصغير الثورة بالتركيز عن تصفية الحسابات أثناء تلك الفترة، مثل دفاعه عن جمعية العلماء الجزائريين. كما تحدث عما أسماه هو «غرور مصالي الحاج»، ولم يهمل الراحل الحديث عن مشاركته في رد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.
وقد وصف الراحل التاريخ ببلادنا بغنيمة مسمومة خلفتها المدرسة الاستعمارية، وقال إن أغلب كتاباتنا تفتقر إلى معايير البحث التاريخي، واصفا إياها بردود الفعل التي لا تؤسس لمدرسة تاريخية جزائرية، وتحدث عن واقع كل من الجامعة والمنظومة التربوية والمطالعة واللغة العربية والترجمة في الجزائر، وعن الطرق الصوفية أيضا، وغيرها من المسائل التي فصًل فيها تفصيلا.مشيرا في نهاية الحوار إلى أنه يعتبر نفسه متابعا لمسيرة التاريخ، وأنه إذا ما انتقد الوضع في الجزائر فمن أجل التنبيه على ضرورة اخذ الحيطة وليس طمعا في سلطة أو منصب قال وزناجي.
في هذا السياق أكد المؤلف الأخير أن، الراحل سعد الله كان رجلا طيبا وإنسانا متواضعا وجزائريا كريما، وفضله عمًنا جميعا، وعطاؤه خيم علينا قاطبة، ونشهد له أنه كان لوحده أمة بأكملها، وتكفل بمهام عظمى، تنأى عن حملها الهيئات والمؤسسات، مشيرا إلى أن التعريف بالرجل يكون بالعمل على دراسة إنتاجه وإعادة قراءة منهجه، والتمحيص في سيرته الحافلة، واستكمال المسار الذي كان قد بدأه، وحسبه فهي مهام لا يتمكن منها إلا من حاز الأدوات العلمية اللازمة وتملًك النظرة النقدية الملائمة.