الدكتور سعيدون يتحدث في كتابه عن الوقف أثناء القرنين 12 و18 م
تطرق الدكتور ناصر الدين سعيدوني في كتابه «»الوقف في الجزائر أثناء القرنين 12 و18 م: معالجة مصادره وإشكالية البحث فيه»، الذي هو عبارة عن جمع أعمال ندوة الجزائر العلمية التي نظمت يومي 29 و28 ماي 2001، إلى موضوع مهم ألا وهو الوقف في الجزائر أثناء القرنين 12 و18 م: معالجة مصادره وإشكالية البحث فيه.
تضمن الكتاب مقالات مهمة للأساتذة حول أوقاف أهل الأندلس بمدينة الجزائر أثناء العهد العثماني لفلة القشاعي موساوي، وأوقاف مدينة الجزائر في القرن الـ18 «أوقاف مؤسسة سبل الخيرات من خلال المساجد الحنفية» لعقيل نمير، الوثائق المتعلقة بأوقاف الحرمين الشريفين بمدينة الجزائر للمرحومة عائشة غطاس، وكذا الأهمية التاريخية لأوقاف الأحناف بمدينة الجزائر من خلال ثلاث نماذج من الوثائق للمرحومة زكية زهرة وغيرها من المقالات.
في كلمة له أكد الدكتور سعيدوني أن، الوقف في الجزائر منذ القرن ال12 وأواخر القرن 13 للهجرة (من نهاية القرن ال17 وحتى منتصف القرن ال19) ،أصبح واقعا اجتماعيا وحقيقة اقتصادية ومظهرا ثقافيا وتعبيرا روحيا، بحيث لا يمكن دراسة بنية تاريخ الجزائر الحديث دون التعرف على واقع الأوقاف وما ارتبطت به من إجراءات وخدمات ومعاملات.
واشار الكاتب إلى أن هذا ما جعل مؤسسات الأوقاف مسألة محورية وقضية أساسية لا يمكن لأي مؤرخ أو باحث أو دارس لقضايا المجتمع والإقتصاد والثقافة و الإدارة، التقليل من أهميتها وتجاوز انعكاساتها على حياة الفرد وواقع المجتمع.
في هذا السياق ، قدم الأستاذ، دراسة حول الأوقاف بفحص مدينة الجزائر التي تشكل نوعا من أنواع حيازة الأرض وأسلوبا من أساليب استغلالها والانتفاع بها، إنطاقا من الوثائق الأرشيفية من سجلات البايلك أو دفاتر بيت البايلك، تقارير الفرنسيين التي تعود إلى السنوات الأولى للإحتلال الفرنسي بالجزائر.
انصب إهتمامه على دراسة عينات محددة من الملكيات الموقوفة من بساتين ومزارع في جهات مختلفة من فحص مدينة الجزائر خلال القرن 12 هجري أي القرن الثامن عشر ميلادي، وحتى منتصف القرن 13 هجري (نهاية الربع الأول من القرن 19م)، وتحدد هذه الفترة بالسنوات حسب وثائق الوقف كالتالي: 1111-1250ه/1699-1834م.
أوضح المؤرخ أن هناك سبع مؤسسات وقفية تحتل مكانة متميزة، وهي مؤسسة الحرمين الشريفين (مكة المكرمة والمدينة المنورة)، التي تستحوذ على غالبية الأوقاف داخل وخارج مدينة الجزائر، ثم تأتي مؤسسة الجامع الأعظم وتضم أغلب أوقاف المساجد المالكية تليها من حيث الأهمية مؤسسة سبل الخيرات الخاصة بأوقاف المساجد الحنفية، ثم تأتي في مرتبة أقل منها مؤسسة سيدي عبد الرحمان الثعالبي وهي أهم مؤسسة وقفية للمرابطين (الأولياء) في مدينة الجزائر، بعدها تأتي مؤسسة أهل الأندلس والشرفاء (الأشراف) وبيت المال، ويلحق بهذه المؤسسات الوقفية الرئيسية مؤسسات أخرى محدودة الأهمية من حيث عدد أوقافها، وهي جلها مؤسسات خيرية إجتماعية منها مؤسسة العيون(السواقي)، والطرق (السبل) والأسرى والثكنات (القشتلات) والجند (الإنكشارية)،عند استيلاء الفرنسيين عليها سنة 1830، بلغ عددها 2756 وقفا، منها 1717 وقفا أهليا و1039 وقفا خيريا منها 1414 تعود إلى مؤسسة الحرمين الشريفين و360 إلى مؤسسة سبل الخيرات و101 إلى مؤسسة أهل الأندلس.
وبحسب الدكتور سعيدوني ، تشكل أوقاف مدينة الجزائر لوحدها ، نسبة معتبرة سواء من حيث عددها أو مقدار مردودها، فقد ورد في إحدى سجلات البايلك المنقولة عن أصول الوثائق الوقفية والمسجلة بتاريخ 19 سبتمبر 1835 أن الأحواش الموقوفة فقط على مؤسسة الحرمين الشريفين تبلغ 61 ضيعة كاملة. أما الحظوظ (الأحواش غير الكاملة) ، فهي ثلاثة أنصاف و3 أرباع وثلثين و89 شطرا وثلثين وربع واحد و2 ثلاثة أرباع وثمن واحد و4 أثمان و33 قطعة أرض، وحظ واحد وربع حظ وأربعة أزواج وثلث ساقية وفرد واحد، وعقارين وزوجين و13 ملكية لم تعرف نوعيتها.
أما ألبير دوفو Albert Devoulx، فقد قدر الأوقاف الريفية خارج مدينة الجزائر إعتمادا على دفاتر وضعتها الإدارة الفرنسية تحت تصرفه ب119 وقفا منها 57 منزلا وحقول خضار وبساتين فواكه، 62 ضيعة أو أرضا زراعية، ومن بين الأوقاف التي تعود إلى الحرمين الشريفين فحص باب عزون، الباب الجديد، وفحص باب الوادي.
وخلص المؤرخ إلى جملة من الاستنتاجات، وهي ، أن انتشار الأوقاف داخل وخارج مدينة الجزائر أثر بصفة مباشرة على البنية الإجتماعية وطريقة استغلال الأرض، وحتى على نوعية حيازتها من خلال تمكن جماعات الحضر المقيمة بمدينة الجزائر من امتلاك الأرض وتحويل قسم كبير منها إلى أوقاف، بينما ظل الآخرون( ما يسمون بالبرانية) يعيشون في الفحص كعمال موسميين أو أجراء مؤقتين يعرفون عادة بجماعات البحارين، كما أن استغلال الوقف سمح بتشكل شريحة اجتماعية ارتبطت حياتها بالوقف عن طريق الانتفاع به واستغلاله والإشراف عليه والتصرف فيه كذا إحداث ما يتطلبه من إصلاح.
ويشير سعيدوني في هذا الشأن إلى أنه، رغم حرص القائمين على الوقف الإلتزام بأحكام المجلس الشرعي والعمل على تطبيقها بصرامة، إلا أن القارئ للوثائق يلاحظ العديد من الإختلالات أو تجاوزات في تسيير الوقف أو استغلاله، مرجعا ذلك لكون القائمين على الأوقاف لم تكن لهم مرتبات أو مبالغ مالية مقابل الوظائف التي يقومون بها، فقد ترك الأمر في أغلب الأحيان لتقدير الناظر، مما أدى لتحويل جزء من مداخيل الوقف للأشخاص القائمين عليه.
الإحتلال الفرنسي استولى على الأوقاف ثم ألغاها لمنفعتها الاجتماعية
من جهة أخرى، قال الباحث أن الأوقاف بمدينة الجزائر وفحصها ، لم تلبث أن تعرضت للتصفية من الإدارة الفرنسية التي رأت فيها أسلوبا منافيا لمشروعها الاستعماري، واعتبرتها إحدى العوامل الرئيسية في المحافظة على تماسك المجتمع الجزائري والإبقاء على إطاره التقليدي، وتمكينه من مقاومة الخطط الإستعمارية الهادفة لتصفية إمكانياته الاقتصادية وأسسه الاجتماعية ومقوماته الثقافية والروحية، فسنت العديد من القوانين الرامية ‘إلى الاستيلاء على الأوقاف سمحت للإدارة بتقليص عددها قبل أن يتم إلغاؤها بفعل أحكام قانون 30 أكتوبر 1858 وقانون 1873م.
وأكد الأستاذ، أن الأوقاف مرآة صادقة معبرة عن عبقرية الحضارة الإسلامية بالجزائر، التي وفقت في تحقيق المنفعة للفرد ورعاية مصلحة الجماعة فكانت وسيلة تكامل وانسجام في الوظائف والخدمات المسخرة لتلبية حاجات السكان ومتطلباتهم في إطار علاقات محددة وتعامل مضبوط ومسجل في عقود للأوقاف، قائلا:» هذا ما يسمح للباحث الأكاديمي بكتابة تاريخ محلي يعبر عن واقع الحياة اليومية، ويحدد معالم الوضع الاقتصادي وملامح التعامل الاجتماعي والتوجه الروحي السائد آنذاك في الجزائر العثمانية، انطلاقا من دراسة وتحليل وثائق الوقف المتوفرة في رفوف الأرشيف الوطني الجزائري».