تحصلت الطالبة المترشحة لنيل شهادة الدكتوراة في علوم التاريخ الحديث بقسم التاريخ فهيمة عمريوي على درجة مشرف جدا، على موضوعها القيم والذي يعد إضافة للمكتبة الجامعية والطلبة الباحثين بعنوان «أوقاف الجيش الإنكشاري بمدينة الجزائر من 1009 إلى 1246 هـ/1600-1830 م»، بحيث أثنى أعضاء لجنة المناقشة على جدية العمل والدقة وكذا مجهودها في جمع وجرد الكم الهائل من الوثائق الأرشيفية وتحليلها بطريقة علمية، مع البناء السليم للأفكار، والتحكم في إستعمال المراجع، مقترحين عليها نشر أحد الفصول في كتاب، لكن هذا لم ينف وجود بعض النقائص التي تعهدت الطالبة بأخذها بعين الإعتبار.
هذه الدراسة تتعرض إلى جانب من حياة الجيش الإنكشاري الإجتماعية و إسهامه في الأوقاف، هذه الشريحة الجديدة التي وجدت في المجتمع الجزائري على إعتبار أن الجزائر كانت تنتمي للباب العالي، وكانت لها أدور مختلفة، وقد وقع الإختيار على هذا الموضوع لعدة إعتبارات أولها، غزارة المادة وتنوع العقود الخاصة بالجيش الإنكشاري في الأرصدة الثلاثة: البايلك وبيت المال ووثائق المحاكم الشرعية، وقع الإختيار على مدينة الجزائر لأنها المدينة التي إختارها العثمانيون لتكون عاصمة الأيالة، وبالتالي فأغلب المتطوعين كانت وجهتهم دار السلطان ثم يتفرعون على باقي المناطق لممارسة مهامهم، أوضحت الطالبة.
وقالت إنه رغم هذه الأهمية إلا أن، مدينة الجزائر لم تحظ بدراسة خاصة بإسهام الجيش الإنكشاري في الجانب الاجتماعي، فكل الكتابات ركزت على أدوراه السياسية والعسكرية، وفيما يخص الفضاء الزمني للموضوع الممتد على مدار قرنين وثلاثين سنة وقع الإختيار عليه لإعتبارين أولا أن الوقفيات الأولى التي أسسها الجيش الإنكشاري تعود إلى بداية القرن 17م، وقد وقفنا عند سنة 1830 تاريخ نهاية الوجود العثماني، ومعه الجيش الإنكشاري.
وأضافت عمريوي أن، فكرة معالجة «أوقاف الجيش الإنكشاري بمدينة الجزائر من 1600-1830»، لم يكن بمحض الصدفة فقد بدأ إهتمامها بالرصيد العثماني منذ سنة 2006 ، وكان الفضل فيه يعود إلى الأستاذة عائشة غطاس رحمها الله أثناء تدريسها لهم وحدة «دراسة نقدية للمصادر»، حيث كانت تنوه في كل مرة بمدى أهمية الرصيد العثماني في إعادة كتابة تاريخ الجزائر الحديث، وأثناء إعداد مذكرة الماجستير تناولت موضوع «الجيش الإنكشاري بمدينة الجزائر خلال القرن 12هـ/18م دراسة إقتصادية- إجتماعية من خلال سجلات المحاكم الشرعية»، وقد لاحظت خلالها مدى غزارة وتنوع العقود الخاصة بالجيش الإنكشاري في رصيد وثائق المحاكم الشرعية، ناهيك عن باقي الأرصدة التي لم تتعرض لها وهي تخص رصيد سجلات بيت المال ودفاتر البايلك.
وبعد إتمام العمل كانت على يقين أنها لم تعالج مختلف جوانبه، فإقترحت على الأستاذة المشرفة عائشة غطاس رحمها الله، إمكانية مواصلة البحث في نفس الموضوع بتوسيع مادة البحث، بحيث تشمل الأرصدة الثلاثة وقد رحبت حينها بالفكرة وتم صياغة العنوان: «الحياة اليومية للجيش الإنكشاري بمدينة الجزائر خلال العهد العثماني»، وأثناء مرحلة جمع مادة البحث صادفتها كثرة الوثائق وتعدد جوانبها، وكانت العطلة العلمية التي استفادت منها للمرة الثانية سنة 2015 إلى مركز الدراسات والبحوث حول العالم العربي والإسلامي بأكس أون بروفنس مناسبة إلتقت فيها بباحثين مختصين في الفترة العثمانية، منهم إيزابيل قرونقو التي نصحتها بضرورة الإقتصار على دراسة جزئية من البحث حتى يسهل معالجته والتعمق فيه.
إختيار مدينة الجزائر كون العثمانيين إختاروها عاصمة الإيالة
وأشارت الطالبة المترشحة أنه، عندما حصرت مجال البحث في أوقاف فئة الجيش وجاءت إعادة صياغة الموضوع ب»أوقاف الجيش الإنكشاري بمدينة الجزائر من 1009 إلى 1246 ه/1600-1830»، ووقع الإختيار على مدينة الجزائر لإعتبارات عدة أهمها أنها المدينة التي إختارها العثمانيون لتكون عاصمة الإيالة، وبالتالي فأغلب المتطوعون كانت وجهتهم الأولى دار السلطان أين توجد الثكنات العسكرية التي بنيت لهم خلال القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن 17 م، كما أن عمل الإنكشاري في المحلة والنوبة كان ظرفي يدوم سنة فقط ثم يعود إلى الثكنة بمركز السلطة، مع الأخذ بعين الإعتبار أن أغلب المتقاعدين في الجيش كانوا يفضلون البقاء في مركز السلطة بدل دواخلها.
وأضافت أنه رغم أهمية الجيش الإنكشاري وتمركزه الهام في دار السلطان، إلا أن هذه الفئة لم تحظ بدراسة منفردة تخص إسهام الجيش في الجانب الإجتماعي والإقتصادي منها الوقف، فالدراسات الأكاديمية السابقة لها أهمية بالغة بالنسبة للموضوع، غير أنها تناولت الجيش الإنكشاري في إطار مواضيع معينة كالنشاط الحرفي ومستوى الثروة أو في الأوقاف لصالح منشآت دينية كالجامع الأعظم والمساجد الحنفية والزوايا والأضرحة، هذا إذا إستثنينا عمل الباحثة جملية معاشي الموسوم ب»الإنكشارية والمجتمع ببايلك قسنطينة في نهاية العهد العثماني» وكانت أيضا خاصة بقسنطينة وليس بدار السلطان.
وقالت أيضا أنه بخصوص الفضاء الزمني للموضوع الممتد على مدى قرنين وثلاثين سنة، من بداية القرن 17 م إلى بداية الإحتلال الفرنسي للجزائر فله ما يبرره ذلك أن أولى الوقفيات التي أسسها الجيش الإنكشاري تعود إلى بداية القرن 17 وقد توقفنا عند سنة 1830 تاريخ نهاية الفترة العثمانية وبداية الإحتلال الفرنسي وما نجم عنه من القضاء نهائيا على الوجود العثماني ومعه فئة الجيش، وبعد هذا الوضع الجديد تراجعت الأوقاف بشكل عام وحتى ما بقي منها طرأت عليها عدة إجراءات اتخذتها السلطات الإستعمارية، تمهيدا للقضاء على الأوقاف ومصادرة الأملاك الوقفية لعدم تطابقها ومسايرتها للمشاريع الإقتصادية للمستعمر.
وانطلاقا من المادة الأرشيفية المتوفرة والتي كانت أساس هذه الدراسة، طرحت إشكالية رئيسية تمثلت في : إلى أي مدى ساهمت أوقاف الجيش الإنكشاري في الحياة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية بمدينة الجزائر، وفحوصها خلال الفترة العثمانية؟ وقد تفرعت عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية تمثلت فيما يلي: ما هي الظروف التي قدم فيها هؤلاء المجندون إلى الجزائر؟ وما هي أصولهم الجغرافية؟ ومن كان وراء إيصالهم إلى الجزائر؟ وما هو عددهم؟ وما هي العوامل المؤثرة في ذلك؟ وكيف وضعهم الإجتماعي في مناطقهم الأصلية؟ وفيما تمثلت المهام الموكلة إليهم بعد وصولهم إلى الجزائر؟.
وما هي المؤسسات الوقفية المستفيدة من أوقاف الجيش الإنكشاري؟ وإلى أي مدى ساهم الجيش الإنكشاري في تسييرها؟ وهل كانت مساهمة الجيش في الأوقاف ظرفية؟ وهل كانت عامة أو خاصة وبتعبير أخر ما مدى مساهمة الرتب العسكرية في الوقف؟ وهل كان هناك تفاوت في المشاركة من رتبة لأخرى؟ لمن انتسب الجيش الإنكشاري؟ وبتعبير أخر كيف عرفت وثائق المحاكم الشرعية الإنكشاري المحبس؟ وما هي الألقاب التشريفية التي تقلدوها؟ وما هو البعد اللغوي والدلالي لأسمائهم؟ وإلى أي مدى كانت النسبة إلى الحرفة حاضرة في عقود أوقاف الجيش؟.
وما نوع الأملاك التي أوقفها الجيش الإنكشاري؟ وبأي طريقة تم الحصول عليها؟ وأين تمركزت في المدينة؟ وإلى أي حد يمكن إعتبار أملاك الجيش معيارا للثروة لدى هذه الفئة؟ وهل كانت أوقاف الجيش ذرية أم خيرية؟وفي حالة وجود وقفيات ذرية فمن هم المنتفعون منها؟ وما مكانة درجة القرابة في الإستحقاق؟ وغيرها من الأسئلة الفرعية.
وللإجابة عن هذه الأسئلة إعتمدت عمريوي على المنهج التاريخي الوصفي التحليلي التركيبي القائم على جمع المادة التاريخية الخاصة بالموضوع، ثم إعدادها في جداول مع مراعاة الترتيب الكرونولوجي للأحداث ثم إنتقلت لتركيبها وتحليل مضمونها، ومقارنة بعضها بما كان حاصل في الإيالات العثمانية الأخرى وقد فرضت عليها طبيعة البحث إستخدام منهج أخر ، وهو المنهج الإحصائي في مختلف جزئيات الموضوع كالرتب المساهمة في الوقف والمؤسسات المستفيدة منه، وذلك بهدف الخروج بنتيجة وتصور حول حجم إسهام الإنكشارية في الأوقاف بمدينة الجزائر.
وبناء على الإشكالية المطروحة والمنهج المتبع، فقد قسمت الدراسة إلى مقدمة وفصل تمهيدي متبوع بخمسة فصول وخاتمة، وملاحق وقائمة بيبليوغرافيا وفهرس المحتويات، فقد تضمنت المقدمة التعريف بالموضوع مع إبراز إشكاليته والخطة المعتمدة في دراسته، وفي الفصل التمهيدي المعنون ب» المادة الوثائقية عن الجيش الإنكشاري وأوقافه بمدينة الجزائر»، قامت فيه بتعريف الرصيد الوثائقي الخاص بالفترة العثمانية ، ووصف المدونة الخاصة بأوقاف الجيش الإنكشاري، وفصول أخرى تتحدث عن المؤسسات الوقفية المستفيدة من أوقاف الجيش الإنكشاري، والنزاعات ودور الجيش في إستغلال الأملاك الموقوفة.
وخلصت الطالبة إلى أن تجنيد المتطوعين شمل مختلف المناطق العثمانية وفي مقدمتها منطقة الأناضول، أما تكاليف عملية التجنيد فتقع على عاتق الأيالة، حيث كانت ملزمة بدفع مبالغ معتبرة لتجنيد المتطوعين، كما كان لزاما على الجزائر دفع هدايا ومكافئات لحكام مقاطعات مختلف المناطق العثمانية لتسهيل عملية التجنيد إضافة إلى أجرة نقلهم إلى الجزائر التي كانت تتم بحرا . كما أن المهمة المحورية للجيش لم تلغ حياتهم الخاصة وإحتكاكهم بالمجتمع بمختلف فئاته معتمدين على عدة وسائل منها المبادلات الإقتصادية والأعمال الخيرية أهمها الوقف.
وقد أرادت من خلال الدراسة تجديد نظرتنا وإعادة تصورنا لفئة الجيش الإنكشاري، وبالتالي تجاوز الأحكام المسبقة والإستنتاجات السطحية والتعميمات التي روجت لها المصادر الغربية عن الجيش الإنكشاري في الفترة العثمانية، أملة في أن تكون إضافة لما أنجز من أعمال في التاريخ الإجتماعي والإقتصادي للجزائر في الفترة الحديثة، وأن تفتح بابا لباحثين آخرين للتعمق في إحدى جزئيات هذا الموضوع.
وتجدر الإشارة إلى أن لجنة المناقشة تكونت من عمار بن خروف أستاذ التعليم العالي بجامعة البويرة رئيسا، الأستاذ شكيب بن حفري من جامعة الجزائر 02 مشرفا ومقررا ، كل من الأساتذة الدكاترة فتيحة الواليش، أرزقي شويتام، ورابح كنتور من جامعة الجزائر 02 أعضاء.