أثـــره سيستمــرّ فـــــي إضــــاءة طريــــق مناضلـــي العدالــــة والحرّيــــة

”جيـــل ديفـــرس”.. المحامي الذي انتصر لقضايا التحرر في العالم

فضيلة دفوس

 

 آمــــــــــــــــن بعدالــــــــــــــة القضيتــــــــــــــين الفلسطينيــــــــــــــة والصحراويــــــــــــــة ورافــــــــــــــع لهمـــــــــــــا بقــــــــــــــوّة وكفــــــــــــــاءة

———————لا شكّ أن الشعبين الصحراوي والفلسطيني سوف لن ينسيا أبدا المحامي الفرنسي العظيم “جيل ديفرس” الذي دافع بكلّ إخلاص وكفاءة عنهما أمام المحاكم الدولية، وكان وراء الانتصارات القانونية التي حقّقتها قضيتيهما العادلتين، وآخرها مذكرات الاعتقال التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية ضد مجرمي الحرب الصهيونيين، بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، وقبلها قرار محكمة العدل الأوروبية الذي أبطل اتفاق الصيد والفلاحة الموقع خارج الشرعية بين المغرب والاتحاد الأوروبي.

لقد شاء القدر أن لا يرحل ديفرس إلى مثواه الأخير قبل أن يشهد إنجازه القضائي الكبير الذي حشد له مئات المحامين عبر العالم لإنقاذ الفلسطينيين من حرب الإبادة وتقديم منفذيها الصهاينة الى العدالة، ولما صدرت مذكرات الاعتقال عن الجنائية الدولية، ورغم أنه كان يصارع المرض فقد عبر عن سعادته، وقال مبتسما “الآن يمكنني أن أموت وأنا مرتاح”.
وبالفعل مات محامي القضايا العادلة، الدكتور في القانون جيل ديفرس، أول أمس الثلاثاء، وهو مرتاح بل وسعيد جدا بالحكم التاريخي الذي أصدرته محكمة الجنايات الدولية بطلب من المدعي العام كريم خان ضد مجرمي الكيان الصهيوني وأمنيته الأخيرة، كانت تنفيذ مذكرات الاعتقال ومعاقبة الجناة الذين أغرقوا قطاع غزة في دماء أبنائها الأبرياء.
صديـــــــــق لكـــــــــــــل قضايـــــــا التحـــــــــرّر
عكس كثير من الدول والمنظمات والمحامين، رفض ديفرس أن يدفن رأسه في الرمال كما فعل كثيرون حتى لا يروا المذابح المروعة والمسالخ البشرية التي تملأ قطاع غزة، وبكلّ شجاعة وإصرار وقف في وجه السلطات الصهيونية وتوعدها بمصير أسود، مطمئنا الفلسطينيين بقوله : “لم يكن لديكم من يدافع عنكم، لكن أصبح لديكم الآن جيش في المحاكم الدولية والوطنية”.
وقد قاد “المايسترو” ديفرس في نوفمبر من العام الماضي، جيشا قانونيا حشده في ظرف 10 أيام فقط مؤلفا من جمعيات حقوقية وأكثر من 300 محامٍ من مختلف الجنسيات والأديان والقارات إلى الجنائية الدولية بلاهاي من أجل محاكمة الكيان الصهيوني على جرائمه في قطاع غزة والتي شملت الإبادة والحصار والتهجير القسري لأبناء الشعب الفلسطيني.
وقال حينها أنه يمكنه أن يجمع 3 آلاف آخرين، وترك باب الانضمام مفتوحا أمام أي شخص يريد أن يكون شاهدا على الجرائم الصهيونية.
ولا تعود علاقة ديفرس بالفلسطينيين وقضيتهم العادلة إلى حرب الإبادة الحالية، فالرّجل المعروف بدفاعه عن المسائل الإنسانية والشعوب المسلوبة الحرية، مرتبط بالقضية الفلسطينية وبالدفاع عنها منذ سنوات طويلة حيث كان من المتحدثين باسم مجموعة مكونة من 350 منظمة غير حكومية، يمثلها 40 محاميا تولوا مسؤولية التعامل مع طلب العدالة المقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية، بشأن جرائم الحرب الصهيونية التي ارتكبت خلال حرب غزة بين عامي 2008 و2009، كما تم تكليفه من قبل السلطة الفلسطينية بتقديم شكوى نيابة عنها في جانفي 2009.
وقدم المحامي الفرنسي الذي ولد في عام 1956 شكوى ضد الكيان الغاصب في جويلية 2014 بشأن حربه على غزة بالعام نفسه، وهو ما أدى إلى تحرك إعلامي كبير وخلق ضغوطا على محكمة العدل الدولية، نتج عنه انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساسي، ووافقت الجنائية الدولية على فتح فحص أولي للوقائع التي جرت اعتبارا من 13 جوان 2014.
محــــامــــــي الإنسانيــــــة والحرّيـــــــــــة
على مدى عقود طويلة، قسّم جيل ديفرس نشاطه بين القطاع الصحي - حيث اشتغل ممرضا - والدفاع عن الأقليات في العالم، لكن قضايا الشعوب التي تعيش تحت نير الاحتلال، كالشعبين الفلسطيني والصحراوي، كانت أولى أولوياته وكرّس جل سنواته الماضية وخبرته في الدفاع عنها.
ورغم العقبات التي اعترضته، فقد حقق انتصارات خارقة للقضية الفلسطينية حتى قبل إصدار مذكرات الاعتقال الأخيرة، عندما انتزع العضوية لفلسطين في نظام روما، وعندما صدرت مذكرات الخامس من فيفري 2021 التي أكدت اختصاص محكمة الجنائية الدولية، حيث أصدرت الأخيرة قرارا يؤكد ولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها شرقي القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الأمر الذي مكّن من رفع قضية الإبادة أمام هذه المحكمة.
وقد بدأ عمل المحامي الفرنسي الراحل على مذكرات الاعتقال منذ عام 2009، لكنه تحرك بشكل مكثف وبأسلوب مختلف على هذا الملف بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 ما مكّنه من تحقيق النتائج المرجوة. وفي شهادة لأحد أعضاء فريقه القانوني، فإن ديفرس، ورغم شدّة المرض الذي كان يعانيه “كان مثابرا وحريصا على أداء مهامه وكسب قضاياه، حيث يكتب مذكرات من مئات الصفحات ويحرص على جمع الأدلة، ويعمل على تنسيق الأدوار، ويتنقل بين المحاكم”.
و« قبل إجرائه لأخطر عملية في المستشفى بساعات وهو بين الحياة والموت، كان ملف حي الشيخ جراح في القدس الشرقية آخر ما تحدث عنه”. وأضاف الشاهد قائلا: “إن مذكرات التوقيف التي صدرت بحق نتنياهو وغالانت كانت بمثابة الهدية التي سعى إليها لأكثر من 15 عاما، حيث رحل بضمير مرتاح، وسنكمل معركتنا القانونية بروح جيل ديفرس لتنفيذ إرادته ووصيته، لأن العمل الحقيقي والأصعب بدأ فعليا بعد إصدار هذه المذكرات”.
وقال مقربون من الفقيد أنه كان يردد في آخر أيامه أنه “سيرحل وهو مطمئن” بعد أن تحقق للشعبين الفلسطيني والصحراوي القرارين بالغي الأهمية والمتمثلان في مذكرتي التوقيف بحق المسؤولين الصهاينة في نوفمبر 2024 وقرارات محكمة العدل الاوروبية التي ألغت الاتفاقات اللاشرعية الموقعة بين المغرب والاتحاد الاوروبي في 4 أكتوبر الماضي.
القضيـــــة الصحــــــراويـــــة أولــــى أولوياتـــــــــــه
مثلما دافع عن القضية الفلسطينية، فقد آمن المحامي الفرنسي الراحل ديفرس بعدالة القضية الصحراوية ورافع عنها بقوة وكفاءة أمام المحاكم الأوروبية والدولية.
ومنذ 2012، نجح في تحقيق العديد من الانتصارات التاريخية التي أكّدت بأن الشرعية الدولية لا يمكن القفز عليها مهما كانت المؤامرات والابتزازات.
ومن بين الأحكام القضائية المفصلية التي انتزعتها القضية الصحراوية بفضل مرافعات ديفرس، كان قرار المحكمة الأوربية لسنة 2015 والذي ألغى الاتفاقيات الموقعة بين المغرب والاتحاد الأوروبي بسبب شموليتها اللاشرعية للصحراء الغربية، ثم قرار محكمة العدل الاوروبية في 2016 والذي يشكل المرجعية القانونية الرئيسية للقضية الصحراوية داخل الاتحاد الاوروبي.
وأبرز ما تضمنه هذا الحكم القضائي، تأكيده على أن “الصحراء الغربية والمملكة المغربية إقليمان متمايزان ومنفصلان” وبأن “حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير ثابت وغير قبل للتصرف ولا للسقوط بالتقادم”. كما نصّ أيضا على أنّ “جبهة البوليساريو هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي وموافقة هذا الأخير شرط ضروري لكل اتفاق حول إقليم الصحراء الغربية.”
 كما مكّن المحامي ديفرس الصحراويين من انتزاع قرار آخر من محكمة العدل الأوروبية سنة 2018 يؤكّد على الوضع المنفصل والمتميز للمياه الإقليمية للصحراء الغربية عن مياه المملكة المغربية.
 وتعزّز هذا القرار بحكم قضائي آخر صدر عام 2019 يقرّ سيادة الشعب الصحراوي على مجاله الجوي.
وفي 2021 صدر قرار ألغى الاتفاقيات الموقعة سنة 2019 بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي والتي تحايلت على قرار 2016، من خلال إدراج الصحراء الغربية بميكانيزم تمديد نطاق التطبيق ومحاولة شرعنتها عن طريق اجراء استشارات صورية مع المستوطنين المغاربة في الاقليم.
وكان آخر مكسب قانوني حقّقه الصحراويون بفضل مرافعات ديفرس قبل أن يغادر الحياة، قرار محكمة العدل الأوروبية الذي صدر في الرابع من أكتوبر الماضي ونصّ على إلغاء الاتفاقيات الموقعة بين المغرب والاتحاد الأوروبي في مجالي الزراعة والصيد البحري، مع تشديده على ضرورة الحصول على موافقة الشعب الصحراوي إضافة إلى تأكيد أهلية جبهة البوليساريو للترافع أمام الهيئات القضائية الأوروبية.
الاحتـــــــــلال المغربــــي إلـــــى  زوال
المحامي جيل ديفرس، لم يكن يسعى وراء المال والشهرة كما يفعل كثيرون، بل كان صاحب مواقف ومبادئ، همّه الأول والأخير هو الدفاع عن قضايا الحرية والعدالة وحقوق الانسان.
وقد آمن بقوّة بالقضايا التي دافع عنها، حيث أكّد في أكثر من مناسبة بأن الاحتلال المغربي للصحراء الغربية هو”طريق مسدود محكوم عليه بالفشل “، داعيا الاتحاد الأوروبي إلى احترام الوضع المنفصل والمتميز لهذا الإقليم غير المستقل، والامتثال للقرارات القضائية الحالية والمستقبلية المتعلقة بالاستغلال غير القانوني للموارد الصحراوية قائلا:«الأمر واضح.. في البر والبحر والجو ليس للمحتل المغربي أي حقوق في الصحراء الغربية”.
كما رحب محامي البوليساريو بالحكم الذي أصدرته المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب الصادر في سبتمبر 2022، والذي ندد بالاحتلال المغربي للصحراء الغربية، ودعا جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي إلى إيجاد حل دائم لهذا الاحتلال وضمان تمتع الشعب الصحراوي بحق تقرير المصير.
يبقى في الأخير التأكيد بأن رحيل محامي كبير بحجم جيل ديفرس يشكل خسارة كبيرة لقضايا العالم العادلة وللشعوب المقاومة من أجل الاستقلال والحرية، لكن رغم فقد القانون الدولي لأحد أكثر أصواته التزاما، فإن تراث الفقيد سيستمرّ في إضاءة طريق أولئك الذين يناضلون من أجل إقرار العدالة واحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان. وحتما هناك من سيواصل المسيرة لينتصر الحق وتستعيد الشرعية مكانتها.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024