رحلت إلى رحاب رحمة الرّحمن وبقي الأثر الطيب..

خديجـــة.. القلـــب الأبيـض.. لن ننساك

فضيلة بودريش

 ألقت الزّميلة خديجة طاهر عباس متاعب الحياة وراء ظهرها بعد أشهر ثقال من المرض والوجع، مخلّفة قلما ذهبيا على رفوف أرشيف جريدة “الشعب” والتلفزيون الجزائري، فكل من خالط خديجة يعرف أنّها عشقت مهنة الصحافة، وعاشت في خدمة الناس. واجهت أعتى المخاطر في مهنة المتاعب، وعرفت كيف تنتصر للحق، وتتحرّى الحقيقة وتقول كلمتها جهورية قوية..

 رحلت الزّميلة خديجة طاهر عباس الصّحافية القديرة والإعلامية المحترفة إلى دار البقاء، تاركة حزنا عميقا في قلوب زملائها، مخلّفة مسارا طويلا ثريا من العطاء وساطعا بالتميز، تنوع بين رحلتي الصحافة المكتوبة والمرئية، فكانت تحظى بحب واحترام كل من عرفها وعمل معها من الزملاء الصحافيين، علما أنّه تتلمذ على يدها العشرات من الصحافيين الشباب بجريدة “الشعب”، وقد تقلّدت منصب رئيسة قسم التحقيقات، قبل التحاقها بالتلفزيون الجزائري عام 2005 وتعيينها فيما بعد رئيسة تحرير بالقناة التلفزيونية الثالثة.

تجربـــة حافلـــة

 خديجة طاهر عباس..مدرسة إعلامية قائمة، بخبرتها ورؤيتها الثاقبة، وثراء تجربتها الطويلة التي تعود إلى أواخر الثمانينات، فكل أحكامها حول القضايا والشخصيات صائبة ودقيقة ومثيرة، وكثيرا ما كنّا نستفيد خلال النقاشات السياسية والاقتصادية التي يفتحها الزملاء القدامى في أمّ الجرائد من قراءتها الاستشرافية للأحداث، ومن الطبيعي أن نأخذ كل ما تقوله على محمل الجد، فنضع ألف حساب لتوجّسها وقلقها حتى وإن كان يبدو صغيرا وجزئيا.
بداية لقائي مع المرحومة خديجة كان في بداية 2001، كنّا نتبادل النظرات دون تبادل أطراف الحديث عند مدخل الجريدة القديم بشارع باستور، قريبا من البريد المركزي. أنهي دوامي في القسم الثقافي في حدود الساعة الواحدة والنصف بعد الزوال، وتبدأ خديجة عملها بالقسم السياسي، فتتقاطع خطواتنا في هذا اللقاء ليكون تمهيدا لعملي معها بعد أشهر في قسم التحقيقات، قسم كان ينتج بإشراف الفقيدة مادة إعلامية مهمة أحدثت الفارق في الساحة الإعلامية، وتلقّت خديجة من خلاله عرضا - كان وقتها مغريا - للالتحاق بجريدة “الخبر” لكي تشرف على قسم التحقيقات، غير أنّها فضّلت بعد تفكير - ليس بالطويل - مواصلة مغامرتها الإعلامية بجريدة “الشعب” التي كانت تراها منزلها الثاني، وفريق قاعة التحرير جزء لا يتجزأ من عائلتها الكبيرة.

قصـص وأحـداث مشوّقــة

 الرّحلة مع خديجة الصحافية توقّفت، لكن مع خديجة الإنسانة والصديقة استمرت بعد سنوات قليلة عقب التحاقها بالتلفزيون؛ لأنها شعرت أنه لابد أن تقدم أكثر لهذه المهنة النبيلة التي نعشقها بجنون في بداياتنا كما في نهاية مسارنا.
بقيت المرحومة خديجة تتابع أخبار الجريدة ونجاحات زملائها، تفرح معهم وتحزن لحزنهم، وتزورهم إذ لم تقطع حبال المودّة، فقد كانت دوما ترّدد عبارة “ترعرعت في الجريدة”، وكانت خزّانا يحمل قصصا وأحداثا مشوقة عن الماضي منذ عهد الحزب الواحد، إلى رحلة ومعاناة الصحافيين في الأزمة الأمنية، وأيضا عن رحلة مطاردة الموت لهم في كل مكان بمقر جريدة “الشعب” في حسين داي، وقامت خديجة بسلسلة من الربورتاجات حول شبكات إرهابية ببروكسل، وواصلت مهمتها بشجاعة وصمود خلال الحرب على الإرهاب، تغطي الأخبار وتنقل في خرجاتها مع أعوان الجيش كثيرا من الرؤى المهمة للرأي العام والقارئ الجزائري على وجه الخصوص حسب ما روته لنا فيما بعد.
عرفنا خديجة - رحمها الله - صحافية مثابرة ومحاورة متمرّسة، لا تخشى في كلمة الحق لومة لائم، سواء في كتاباتها النقدية الجريئة، أو في اصطفافها مع الحق مع الآخرين في الحياة اليومية، تنحاز بشجاعة وشهامة إلى المظلومين وتدافع عنهم بشراسة، ولا يمكن نسيان العديد من القصص التي ما زال أغلب الزملاء يحتفظون بها مبهورين بشخصية خديجة القوية الصادقة، وعبق روحها النقي، وقلبها الطيب. سياسيون محنكون كانوا يردّون على مقالاتها التحليلية في ندواتهم الصحافية، دون أن تأبه بردود؛ لأنها كانت تقول الحق دون تزويق.

المـرض أنهـك جسدهــا

 الجلوس إلى خديجة والحديث معها ممتع، لذيذ ومفيد؛ فهي تتمتّع بخفّة دم عالية، وتمتلك قدرة عالية على جعل من يخاطبها لأول مرة، يشعر كأنه يعرفها من أول الصبا، ويمكنها أن تنقل البهجة إلى أي مكان تتواجد به، وتجعل من يخاطبها يضحك بقلب ممتلئ سعادة.  خديجة يمكن أن تزيل ارتباك من يحدثها أو قلقه بكلمة مرحة، وتيسّر له اختيار أفضل السبل في أعقد المسائل وأعوصها.
آخر لقاء لي بخديجة كان عندما زرتها بالمستشفى، وكان المرض اللعين قد أنهك جسدها، وأذبل نظراتها وجعلها تكابد معاناة أخرى أمر من معاناة مهنة المتاعب، كانت تردّد: “اُدعوا لي بالشفاء والرحمة..اُدعوا لي أن يخفّف الله عنّي الألم”..
كانت إرادة الله وقضاؤه أن تغادرنا خديجة..
وداعا خديجة الزّميلة..وداعا خديجة الإنسانة، وشكرا لك فقد تعلّمنا منك كثيرا، وسنبقى نذكرك ونترحّم على روحك..لن ننساك أبدا يا الأغلى.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024