تقارير مؤسّسات ومنظمات حقوقية، دولية ومحلية، وحتى صهيونية، وشهادات لأسرى محرّرين ومحامين، وتقارير صحافية صهيونية كلّها أكّدت أنّ سجن “سديه تيمان” هو في حقيقته موقع للقتل والتعذيب والاغتصاب الممنهج، كسياسة رسمية للجيش الصهيوني وتعبير إضافي عن حقيقة سياسة الإبادة ضدّ شعبنا. ففيه استشهد 36 أسيرا فلسطينياً غزياً، فيما العشرات، وربما المئات من المعتقلين، ما زال مصيرهم مجهولاً، ليترجّح الاعتقاد المؤلم أنّ الجيش قام بإعدامهم بدم بارد.
أمام هكذا وقائع، ما حقيقة توجيه الادّعاء العسكري الصهيوني تهم لثمانية جنود بالاعتداء جنسياً على أحد الأسرى؟ ما حقيقة اختصار كلّ الجرائم داخل المعتقل بقضية واحدة ضدّ ثمانية جنود، قضية اغتصاب أحد الأسرى، والأهم عمل كلّ هذه البربوغاندا حولها، بما فيها تلك التغطية المبالغ فيها حول اقتحام السجن من بن غفير وحثالاته، دفاعاً عن الجنود المتهمين؟ لنتذكر قبل الإجابة على السؤالين أنّ دولة الإبادة هي الدولة الوحيدة في العالم التي شَرْعَنَ برلمانها التعذيب بقانون خاص، نصّ على أنّ من صلاحيات محقّقي الشاباك ممارسة (ضغط نفسي وجسدي محدود) على المعتقلين في سياق الاستجواب.
طبعاً تلك الكلمة (محدود)، يعرفها كل معتقل خضع للتحقيق! أما ما يجب الانتباه إليه فهو وضع محاكمة الجنود في سياق ممارسات دولة الإبادة في إطار القانون الدولي. ورغم عدم الواقعية بالرهان على سريان القانون الدولي على دولة الإبادة، وسياساتها وقراراتها وممارساتها، إلا أنّها تعرضت في الآونة الأخيرة لاهتزازات في مكانتها دولياً، بدأت منذ فيفري الماضي ببدء النظر بتهمة الإبادة من محكمة العدل العليا، وصولاً لقرار إصدار مذكرات اعتقال لنتياهو وغالانت كمجرمي حرب، ذلك القرار الذي لم ينفذ حتى اللحظة، نتيجة الضغوط والتهديدات لقضاة المحكمة الجنائية، خاصة من الإدارة الأمريكية، مجرم الحرب الأول في العالم.
وما بين الحدثين العديد من المواقف للمؤسّسات الدولية التي تدين دولة الإبادة، وآخرها قرار محكمة العدل العليا الاستشاري حول احتلال الضفة الغربية والاستيطان. مرة أخرى، وبغضّ النظر عن واقعية الرهان على سريان منظومة القانون الدولي والقرارات الدولية على دولة الإبادة، إلا أنّها استشعرت خطرها، على الأقلّ، على مكانتها في العالم وعلاقاتها وروايتها. كلّ تلك المكانة والعلاقات والرواية كان جرى تهميشها، وما زال، بفعل صمود ومقاومة شعبنا، وانفضاح فاشية دولة الإبادة وجرائمها، الأمر الذي حفر طريق تغيير هام وتاريخي في تلك المكانة والعلاقات والرواية، وباتت أصوات كثيرة دولية تطالب بتوسيع الإجراءات لمحاكمة دولة الإبادة ومسؤوليها بتهم جرائم الحرب، لتشمل الجرائم المرتكبة في السجون، وخاصة سجن “سديه تيمان”.
لماذا المسرحية؟!
المستشاره القضائية لحكومة الإبادة طالبت في جويلية الماضي بإغلاق سجن “سديه تيمان”، وحتى قبل أن تبتّ محكمة العدل بطلب مؤسّسات حقوقية بإغلاقه. ما يفسّر هذا الطلب الصريح يمكن فهمه بالطلب الآخر للمستشارة الذي تقدّمت به في جوان الماضي والداعي إلى تشكيل لجنة تحقيق، باعتبارها (الآلية الأنسب للتعامل مع المخاطر المحدقة بالكيان في ظلّ ملاحقته قانونياً في محكمتي لاهاي الدوليتين للعدل والجنايات)، كما نقل موقع عرب 48، إذ أنّ تشكيل لجنة التحقيق سيقطع الطريق على الملاحقة القانونية الدولية، حسب المعمول به دولياً، والقاضي بأنّ القضايا الملاحقة محلياً وفق إجراءات قانونية، لا تتم ملاحقتها دولياً. وعليه فكلّ جرائم الإبادة يمكن (ملاحقتها) عبر لجنة تحقيق صهيونية، والقول لمحكمتي لاهاي (ها نحن نلاحق بأنفسنا فلا مسوّغ قانونياً لتدخّلكم). ما ينطبق على ما دعت إليه المستشارة القانونية، هو بالضبط ما يعوّل على (مسرحية) ملاحقة الجنود الثمانية أن تقدمه للعالم (ها نحن نلاحق قضايا السجن قانونياً وفق قانوننا المحلي، فلا داعي لتدخلكم القانوني)، وعليه يمكن فهم لماذا جرى تناول قضية واحدة فقط من آلاف قضايا القتل والتعذيب والاغتصاب، لتقديمها للعالم نموذجاً لإعمال القانون في قضايا الجرائم في السجن وفقاً لمبدأ (سيادة القانون) فيها.
إنّه من الغباء المطبق تصوّر أنّ حكومة الفاشيين القتلة المشرفة على حرب الإبادة، ستلاحق فعلاً مجرمي الحرب القائمين على السجون، ومنها سجن “سديه تيمان”، كما هو من الغباء الرهان على مجمل النظام القانوني الاستعماري، إذ لا تعد المسألة برمّتها سوى (مسرحية) لا أكثر. أما أن يهاجم بن غفير وكلّ حثالات الفاشيين من وزراء ونشطاء السجن دفاعاً عن الجنود، فيمكن وضعه في سياق بأنّ هذه المجموعة من الفاشيين لا يمكنها حتى التعامل (ببعض الذكاء) لمحاولة تحسين صورة دولة الإبادة، فيما يمكن القول أنّ مهاجمتهم للسجن، ولاحقا محاولة اقتحام المحكمة في بيت ليد، قدّمت خدمة جليلة للحكومة الفاشية، بحيث غدا الهجوم مشهداً من ذات المسرحية. إنّ تشكيل لجنة التحقيق في كيان الاحتلال سيقطع الطريق على الملاحقة القانونية الدولية، حسب المعمول به دولياً، والقاضي بأنّ القضايا الملاحقة محلياً وفق إجراءات قانونية، لا تتم ملاحقتها دولياً.