هذه المرة ليست في غزّة، بل في طولكرم التي شهدت بالأمس عمليتي اغتيال نفّذتها قوات الاحتلال، وارتقى على إثرها تسعة شهداء، الأولى في ساعات الصباح الباكر حين قصفت مركبة كان يستقلّها الشبان، فاحترقت وتفحّمت أجسادهم، ولم يستطع أحد من الأقارب التعرّف على من كان في المركبة من شدّة النيران التي أتت على الأجساد في مشهد يدمي القلب ويوجع الروح، ثم أتبعها بساعات قليلة عملية استهداف أُخرى ارتقى على إثر العمليتين تسعة شهداء، في أوج الصباح، وقد غطت سحابة الحزن قلوبنا لمشاهد الأجساد المحترقة والمتفحّمة.
شهداء احترقت أجسادهم بفعل القصف، واحتاج الأمر ساعات حتى تمكّن ذووهم من الاستدلال عليهم من خلال بعض ما كان بحوزتهم، وليس من خلال ملامحهم وتقاسيم وجوههم التي غابت، فقد احترقت الوجوه والأجساد تفحّمت، وعلى الفور خرجت الادّعاءات بأنّ الاحتلال تصدى لهم أثناء توجّههم لتنفيذ عملية، وتباهى بهذه العملية المجرمة التي حدثت بحقّ شبان في عمر الورد، لم تتجاوز أعمارهم مطلع العقد الثاني، فأودت بحياتهم وارتقوا شهداء على يد جنود الاحتلال.
بين غزّة وطولكرم مشاهد الموت والقصف والاغتيال واحدة، فالعدو واحد، والاحتلال يواصل حربه في قطاع غزّة كما يواصلها في الضفة الفلسطينية والقدس، في ظلّ انحياز أمريكا المتواصل والدعم الدولي المريب، وهذا ما يدفع حكومة الحرب لمواصلة عملياتها الإجرامية، ومواصلة قتلها المنظم كما في كلّ المشاهد والصور التي نراها. مشاهد الأجساد المتفحّمة في طولكرم تُعبر عن نوايا الاحتلال بتوسيع رقعة الإبادة الجماعية لشعبنا الفلسطيني، وليس هناك ما هو أوضح من ذلك، فهذا التصعيد الدموي ينبئ بما يخطّط له الاحتلال، وبما تريده حكومة نتنياهو، وبما تمارسه على الأرض من قتل وقصف وقضم وضم وتهويد وبناء مستوطنات وحصار اقتصادي وتقطيع أوصال المدن عن بعضها، وتضييق سبل العيش، وفرض واقع مستحيل يحقّق غايات الاحتلال وسياساته العنصرية المتطرفة، ووسط هذا يقول الفلسطيني “أتراها ضاقت علينا وحدنا؟!”، ويظلّ يبحث عن صوت العدالة الغائب رغبة في النجاة والحياة بكرامة وحرية واستقلال.
التصعيد المترافق مع حرب الإبادة في غزّة، بدأ منذ اليوم الأول للحرب، فلم تسلم قرية أو مدينة أو مخيم، بل إنّ الاعتداءات متواصلة كلّ يوم، ليل نهار، وهي تترافق مع عمليات الاستيطان والنهب وسرقة الأرض، وهذا كلّه يأتي ضمن سياسة معروفة يسعى لتنفيذها الاحتلال في الضفة وغزّة والقدس، فهم يريدون طمس الهوية والوجود الفلسطيني، والسيطرة على الرواية والتاريخ، وبسط النفوذ التام من خلال سياسات عنصرية في مقدمتها دفع المستوطنين للسيطرة على الأرض، سواء أكانت جماعات رعوية أم زراعية، وقتل أكبر عدد من الفلسطينيين واعتقالهم، سعيًا للتهجير الذي يصطدم بعنفوان البقاء الفلسطيني، الرافض لكلّ أساليب التهجير، المصرّ على البقاء فوق أرضه ووطنه، المؤمن بحقّه الطبيعي والتاريخي. تصعيد في طولكرم وآخر في نابلس، وتطهير عرقي في غزّة يجري منذ عشرة أشهر، واستعلاء وصل الاعتداء على الشيخ الجليل، خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، بالتحقيق وفرض إجراءات قمعية بحقّه، كما يقومون بفرض إجراءاتهم القمعية على كلّ المقدسيين، بالتنكيل والضرب ومنعهم من الوصول إلى المسجد الأقصى وبالاعتقال والتعذيب، وغيرها من وسائل وأساليب الهدف منها تضييق الخناق على أهلنا في القدس. القدس وغزّة والضفة وحدة جغرافية واحدة، أراد أن يفهم نتنياهو وحكومته، أم لم يريدوا، فلن يغيروا في ديموغرافيا الوجود مهما ابتدعوا من وسائل، وعلى العالم أن يصحُوَ من غفلته، وأن يعمل على تطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. فلا شيء أقلّ يمكن أن يوقف هذا الصراع، ولن تحقّق سياسات فرض الأمر الواقع شيئًا، فالحق لا يسقط والشعوب تنتصر حتمًا.
التصعيد المترافق مع حرب الإبادة في غزّة بدأ منذ اليوم الأول للحرب، فلم تسلم قرية أو مدينة أو مخيم، بل إنّ الاعتداءات متواصلة كل يوم، ليل نهار، وهي تترافق مع عمليات الاستيطان والنهب وسرقة الأرض.