تحدي ضمان الوفرة وترشيد الاستهلاك

نظام التقسيـم.. ترويض للجغرافيــا الصحراويــة

غرداية: عمر .ع

 نظرة بعيدة الأمد تقوم علــى إدارة الأخطــــــار المائية  والربط بين الأھهداف الاقتصادیية والبئية الاجتمــــاعيـة.

 تقـــدر الميـاه الجوفية في شمــال البلاد في إطار المخطط الوطني للماء بحوالي 9.1 مليـار مـتر مكعب في السنــة.


تعدُ سلامة الموارد المائية وأمنها واستدامتها من القضايا الاستراتيجية الهامة لأمن الدول، مع تغير المناخ وزیادة الطلب على الماء، والضغط المائي WATER STRESS والتلوث، وعلیه أصبحت الدول والحكومات تسارع في بذل جھود أكبر لتطویر فاعلیة وفعالیة إدارة المیاه لبلوغ القدرة على تسییر الأخطار المتعلقة بالندرة، بما فیھا الجفاف وطریقة الحصول على ھذا المورد الحيوي، وتفادي النوعیة غیراللائقة منھا، إلى جانب تقویض مرونة أنظمة المیاه (الأنھار، البحیرات والمیاه الجوفیة)، وذلك بتبني نظرة بعیدة الأمد وواسعة تقوم على إدارة الأخطار المائیة والمفاضلة بینھا وضرورة الربط بین الأھداف الاقتصادیة والبیئیة والاجتماعیة.
فوفرة المياه وجودتها دليل على رفاهية الدولة، ومصدر من مصادر قوتها وثرائها الفلاحي والصناعي، وبالتالي بإمكانها أن تكون رهانا سياسيا، ولذلك تطور الصراع حول مصادر المياه من صراع حول المراعي والكلأ والآبار بين الأفراد والجماعات والقبائل في الماضي، إلى صراع دولي فيما يصطلح عليه بحرب المياه أو حرب العطش.
وتتمیز الجزائر بمساحة شاسعة تقدر بأكثر من 2 ملیون كلم مربع، وبتنوع جغرافي ومناخي، مع عدم التوازن في توزیع السكان واختلاف في الكثافة السكانیة. كما تتمیز بإمكانیات ھامة في مجال المیاه والري تتمثل بالخصوص في أحواض خارجیة تتصل بالبحر المتوسط وأخرى داخلیة، إلى جانب میاه جوفیة معتبرة كامنة في أعماق الصحراء.
ومع ذلك یعتبر الماء في الجزائر، من الموارد المحدودة غـير المنتظمـة، وفي المقابل يسجل طلبا متزايدا على احتياجات التنمية و ضرورة رفع المستوى المعيشي للسكان، ويشهد الوضع المائي فيها تدهورا ملحوظا، نتيجة التغيرات المناخية والاستهلاك غير العقلاني بعدم التحكم في ادارة المياه (الضياع، التبذير، التلوث الناشئ عن مياه الصرف الصحي أو من المخلفات والإفرازات الصناعية التي تصب في المجاري العامة والوديان بدون أي معالجة.)، وقد ترتب عن ذلك وجود فجوة عميقة بين ما هو متاح من الموارد المائية والاحتياجات المتزايدة.
وأمام رھان توفیر الحاجات المتزایدة من الموارد المائیة والطلب المتزاید علیھا سواء من الفرد، العائلة، المدینة، الصناعة أو الفلاحة، أصبح من الضروري وضع سیاسة عامة فعالة للماء. وقادرة على حشد واستخدام آلیات تسییر جدیدة لرسم سياسة مائية رشيدة، تقوم على تمویل الخدمات لاسیما المتعلقة بتوزیع المیاه والتطھیر، خصوصا وأن للأدوات الاقتصادیة دور في ضمان تسییر جید للموارد المائیة تمكن من تحقیق الأمن المائي.

جغرافية الموارد المائية
تتعرض الجزائر منذ فترة طويلة إلى جفاف شديد ومتواصل، ما دفع إلى التساؤل عن استقرار المناخ، بل دراسة كيفية مراعاة مثل هذه الظاهرة والتخطيط لها.
وتتميز الجزائر بمناخ حار صيفا ومعتدل إلى بارد شتاء ويكاد ينعدم تساقط الأمطار صيفا مع معدل تبخر شديد الارتفاع مما يسفر عن نظام مائي معقد مع تقلب الفصول بمرور السنين، أما الأمطار فتتساقط حوالي 100 يوم في السنة كحد أقصى، وفي بعض الأحيان قد يزيد معدل السقوط عن 100 ملم في أقل من يوم واحد.
 وقد يتركز جزء كبير من أمطار العام خلال أيام قليلة مع سقوط الثلوج أحيانا على القمم الجبلية، ومعدل سقوط المطر سنويا شمال البلاد يزيد عن 500 ملم ويمكن أن يصل إلى 1500 أو2000 ملم أحيانا ويتناقص المطر تدريجيا كلما اتجهنا جنوبا حتى يكون أقل من 100 ملم في السنة في المناطق المتاخمة للصحراء وينعدم تقريبا في المناطق الصحراوية.
وتتكون الموارد المائية في الجزائر من موارد تقليدية كمياه الأمطار والأحواض الجوفية والمياه السطحية، وموارد غير تقليدية كالتحلية وتصفية مياه الصرف الصحي والزراعي، وتشكل مياه الأمطار العمود الفقري للموارد المائية بشكل عام باعتبارها مصدر تغذية الأحواض الجوفية والمجاري الطبيعية والينابيع والأودية وتختلف كميات الأمطار من منطقة لأخرى.
وكـبر المساحة الجغرافية وتنوع تضاريسها أدى إلى عدة عوامل تؤثر على عملية التساقط فبالرغم من ذلك، إلا أن 85 بالمئة من هذه المساحة توجد في المنطقة الصحراوية وهطول الامطار فيها شبه منعدم أما المنطقة الشمالية فتتميز بمناخ البحر الأبيض المتوسط بتسجيل نحو 192 مليار م مكعب، لكن معظمها يأخذ طريقه إلى البحر أو يتبخر بفعل الحرارة.
كما تشمل الميـاه السـطحية علـى إجمـالي الثـروة المائيـة المتواجـدة فـوق سـطح الارض، منهـا مـا هـي محجـوزة في سـدود أو محاجز مائية ومنها ما يجري في الأنهار.
وشرعت معظم الدول ومنها الجزائر في استثمار جزء مـن امكانيات الأودية الموسمية والأنهار دائمة الجريان لقائمة السدود وتخزين بعض مياه السيول التي تجري خلال فترة الفيضانات والاستفادة منها خلال فصل الصيف وكذا فترات الجفاف سواء في الاستهلاك اليومي أو الأنشطة الزراعية وتعد من الوسائل الناجحة لتنمية الموارد المائية في المناطق الجافة لفاعليتها وسهولة توزيعها، وتبقى التكاليف الباهظة لإقامتها العائق الوحيد.

حماية المياه الجوفية من الاستنزاف

قدّرت المصـالح التقنيــة للوكالـة الوطنيــة للمــوارد المائيـة ومديريـة المنشآت المائية الكبرى كميات المياه الجوفية في شمال البلاد في إطار المخطط الوطني للماء بحوالي 9.1 مليار متر مكعب في السنة، هذه المـوارد الـتي تسـهل تعبئتهـا مسـتغلة حاليـا بنســبة تفـوق 90% أي بما يقارب 7.1 مليـار متر مكعب سنويا، كما تعرف الطبقات استغلالا مفرطا مما يهدد هذه الثروة الاستراتيجية والحيوية الهامة.
وبالرغم من أن منطقة الصحراء أو الجنوب يكاد ينعدم فيها السيلان السطحي المنتظم للأودية، إلا أنها تتوفر على موارد مائية جوفيـة هامـة تشـكلت عـبر آلاف السـنين، وتوجـد علـى أعمـاق كبـيرة مـن سـطح الارض حيـث يصـل الى نحـو 2000 مـتر، ماعدا في منطقـة أدرار التي توجد بها المياه الجوفية على عمق يتراوح ما بين 200 و300 متر.
هذه المياه الجوفية يمكن أن تكون الحل الأنسب لتلبية احتياجات سكان الجنوب من الاستهلاك اليومي، وكذا الاستغلال الفلاحي في الري، ويمكن توظيفها في تنمية الزراعة الصحراوية واستصلاح أراضي جديدة، وهـو الاختيـار الانسب للتنمية الفلاحية المحلية في الوقت الراهن، لأن نقلها يكلف خزينة الدولة أموالا باهظة بالمقارنة مع اللجوء لتحلية مياه البحر.
لهذا تستوجب حماية الموارد المائية والملك العام المائي في الجزائر بصفة عامة من التلوث والتدهور والاستغلال غير العقلاني متابعة ومراقبة دائمتين من قبل المصالح والهيئات والأجهزة التابعة للإدارة المكلفة بالموارد المائية، وفي هذا الإطار نص قانون المياه 05/12 المعدل والمتمم في مادته 159، على إنشاء هيئة مكلفة بمراقبة المياه  (شرطة المياه)، تكون تابعة للإدارة المكلفة بالموارد المائية بصفة عامة، وكذا المرسوم التنفيذي رقم 08-361 المؤرخ في 8 نوفمبر 2008 الذي حدد الأشخاص المكلفين بمزاولة شرطة المياه، لتمكين هذا الجهاز من القيام بمهامهم.
وتؤثر نوعية المياه الجوفية على الأمن الصحي،  وعلى النشاط الزراعي للمجتمع والاقتصاد الوطني، فهي تستخدم في الزراعة كما في توفير مياه الشرب للإنسان والحيوان وكذلك في الصناعة وفي عمليات كثيرة مثل التبريد والتخلص من المخلفات والنفايات الصناعية، كما تستخدم في عمليات إنتاج الطاقة والتنقيب عن النفط وفي أغراض التدفئة واستخدامات أخرى متنوعة.
وتتعدد المصادر المسببة لتلوث المياه الجوفية، منها ما يعود إلى عوامل طبيعية ومنها ما يعود إلى مجموعة من نشاطات الإنسان الملوثة للمياه الجوفية مثل: مصادر التلوث الزراعي كالمبيدات والمخصبات ومحسنات التربة، النفايات المنزلية والمخلفات الصيدلانية والمستشفيات، شبكات الصرف الصحي، والملوثات الصناعية عن طريق التسربات أو الانسكاب أو التعامل غير الصحيح للزيوت ولمختلف المخلفات الصناعية والنفط.

الفقارات ضامن للديمومة

على صعيد آخر، ارتبطت حياة سكان الصحراء بتوفر المياه، لأنها سبب وجود الحياة في مناطق يشحّ فيها الماء، الأمر الذي زاد من تحديات سكان الصحراء الجزائرية وجعلهم يفكرون بإستخدام إبتكارات تقنية للحصول على المياه: مثل تقنية أو نظام الفقارات، التي تصنف ضمن التراث. وتختلف أسماؤها وفق المكان (تتخذ أكثر من 27 إسماً): قناة في إيران، فقارة في الجزائر، كريجا (خريجة) في تونس، كارز (كريز) في الصين وأذربيجان وباكستان وأفغانستان، صهريج في اليمن، فَـلَج ُ في الإمارات العربية وتُعتبر الفقارات، كمنظومة تقليدية لتحصيل المياه ولمقاسمتها، الأداة الأساسية للحياة والعيش في الصحراء.
ومن شأن إيجاد حل نهائي ينهي تنقلاتهم اليومية بحثًا عن الماء؛ ليجدوا ضالتهم في الفقارة، وهي أسلوب ريٍ يُمدّهم بالمياه يتكوّن من سلسلة من الآبار المترابطة، تكون مرتفعة من جهة ثم تنزل رويدًا رويدًا إلى أن يسير الماء في منحدر يسمح بانتشاره في سواقي، تمكّن من بلوغ المساحات المراد سقيها من المزروعات وواحات النخيل. وتعتمد على توزيع عادلٍ للمياه بين المساحات المسقية، بطريقة تقليدية، كما أنها وسيلة للتزود بماء الشرب أيضًا.
وظهرت هذه التقنية، التي يفوق عمرها ألف سنة، في الصحراء الجزائرية، إذ يُروى أن الملك المنصور أدخل الفقارات في القرن الحادي عشر والثاني عشر، إذ حفر أول فقارة على بعد 15كم من أدرار في مكان يُدعى تمنطيت. فتطورت الفقارات في بلاد توات بأدرار. وتتكون الفقارة من أجزاء متكاملة، إذ تعتمد كل واحدة منها على الأخرى. وتوجد البئر الأم، في أعلى منطقة من أجل الوصول إلى منبع المياه، ثم تضاف سلسلة من الآبار تسمى آبار الخدمة، ينبثق من البئر الأم نفق موجه أفقيًا بشكل انحداري إلى الأماكن الزراعية والقرى التحتية، وينتهي إلى سطح الأرض، ويمثل مخرجًا للمياه.. وفي الاتجاه نفسه، توجد آبار الخدمة على مسافة تقدّر بـ 50 إلى 500 متر تقريبًا بهدف خروج أي أتربة منها وتوفير متنفس هوائي للنفق، وأيضًا لأن القناة تحتاج ترميمًا إن حدث أي إشكالٍ.
ويوجد اليوم في الجزائر مئات من الفقارات، سواء التي هي قيد العمل أو جافّة، ويقدر عددها بينّ 1400 فقارة، منها 907 دائمة الجريان، وقد جفت للأسف 493 فقارة وفق الوكالة الوطنية للموارد المائية بأدرار.
وباتت تقنية الفقارة، اليوم تصارع من أجل البقاء بعد أن طالها الاهمال وخسرت صراعها مع التكنولوجيا الحديثة، ويقول أحد الفلاحين «أهملنا وتخلينا عن الفقارة وعن الساقية التي عمل أجدادنا أغلب حياتهم فيها ولأجلها حتى يطوروها لتتلاءم مع حياتنا اليوم؛ لقد اخترنا التكنولوجيا على موروثنا الحضاري».
وتعاني الفقارات في السنوات الأخيرة من الإهمال وانعدام النظافة، ناهيك عن ندرة المياه بسبب التنقيب عن المواد البترولية والمعادن النفيسة في الصحراء الجزائرية، ويبقى خطر استهداف الفقارات من طرف المستثمرين في الفلاحة أكبر خطرٍ يهددها ويدفع بها نحو الزوال بحسب ما صرّح به فلاحون بالمنطقة.
وتتميز منظومة الري هاته والتي تعاني شبح الانقراض بأنها اقتصادية، إذ لا تتطلب آليات معينة لخروج المياه الجوفية ونقلها من أماكن بعيدة. ويؤدي الانحدار من البئر الرئيسية العالية إلى مخرج النفق السفلي إلى خروج المياه وتسربها إلى سطح الأرض وجريانها طيلة اليوم.
وتعتبر منطقة وادي مزاب هضبة جيرية تكونت في العصر الطباشيري، وتشكلت على سطحها في العصر الجيولوجي الرابع أخاديد وشعاب ووديان أهمها وادي مزاب، والذي يمتد من  الشمال الغربي نحو الجنوب الشرقي ويقع بين خطي عرض 32° و 20 °، وبني خطي طول 0.4 ° و 1.5°
ويسود المنطقة مناخ قاري جاف يمتاز بصيف حار وجاف يصل معدل الحرارة فيه إلى 38 °، في الظل أما شتاؤها فبارد، إذ يبلغ معدل الحرارة 10 ° مئوية، ومعدل تساقط الأمطار السنوي يبلغ 60 ملم، ما يعادل عشرة أيام ممطرة في السنة، وتهب على المنطقة ثلاثة أنواع من الرياح، رياح شمالية شرقية في الشتاء باردة ورطبة، ورياح شمالية غربية في الصيف حارة. بالاضافة إلى زوابع رملية تهب من الجنوب الغربي خاصة في الربيع.
وكان سكان المنطقة يعمدون إلى استغلال مياه الأمطار التي تكون نادرة جدا وكل قطرة منها يجب السعي بجد لاحتوائها، لذلك عملوا على اعتماد ثلاث طرق أساسية ويتعلق الأمر بإحاطة كل المرتفعات والهضاب بشبكة من السواقي المنحدرة والتي بدورها تصب في خزانات أعدت لغرض استقبال المياه المنهمرة، بعد تساقط الأمطار.
ضبط سيلان مياه الوادي المتدفقة بعد تساقط كميات كبيرة من الأمطار، عن طريق نظام محكم يدعى نظام تقسيم مياه السيل، فسيلان الوادي يكون بوتيرة متباينة، قد يصل إلى ثلاث مرات في السنة الواحدة ثم يعاوده الجفاف إلى مدة قد تصل إلى ثلاث سنوات. ويتكون هذا النظام من حواجز تعمل على توجيه مياه الأمطار نحو السواقي والحواجز الصغيرة التي تفي بغرض التخزين وإمداد طبقات الأرض الجوفية بكميات من المياه، والمياه الفائضة ينتهي بها المطاف داخل الأجنة بواسطة سواقي وكوات معدة خصيصا لهذا الغرض.
وتم حفر العديد من الآبار لتستعمل كوسيلة للحصول على المياه عبر استغلال مخزون المياه الجوفية.

نظام تقسيم مياه السيل

يعتمد نظام تقسيم مياه السيل في وادي ميزاب بغرداية على الاستغلال الكلي والأمثل لمياه الأمطار وعلى التقسيم العادل لهذه المياه على مجموع الواحة التي يتم فيها النشاط الفلاحي للسكان، والفائض منه يوجه تلقائيا إلى السدود المختلفة والتي تقوم بدورها بتغذية الطبقات الجوفية لاستعمالها لاحقا بواسطة آبار الري المنتشرة في واحات وبساتين غرداية، وتتوالى على طول المجرى سدود صغيرة تعمل على التخفيف من شدة سيلان المياه، وكذا لترسيب التربة الصالحة والخصبة، وإعطاء الوقت الكافي لسقي البساتين المجاورة للوادي.
المرحلة الأولى: أنجز سكان من عائلة آل النعاليف بواحة غرداية، أول ساقية من الوادي إلى بساتينهم، وكانت هذه الساقية كثيرا ما تتضرر عند قدوم سيل غزير، وأما سكان أجنة أحياء بوشمجان والشعبة وباباوعيسى فبقوا محرومين من مياه الوادي.
المرحلة الثانية: في عهد الشيخ حمو والحاج الذي عاش بالمنطقة بين 1635م، و1716م، والذي يعود له الفضل الأكبر في إنشاء نظام تقسيم المياه ببساتين واحة غرداية، فـأنجز عدة سواقي ومنافذ ومصبات.. وشرع الشيخ بمساعدة سكان آل بوشمجان في العمل على تسوية السواقي والمجاري وقاموا بعملية جر مياه واد لعديرة وواد لبيض نحو الجهة الشرقية، ولقد كان العمل جد شاق وتطلب سنوات عديدة لاتمامه، ويدل على براعة تخطيط ودقة تنفيذ مع انعدام الوسائل آنذاك.
هيئة أمناء السّيل
تكوّنت هيئة في منطقة ميزاب مهمتها مراقبة السيول وتقسيمها والمحافظة على منشآتها، وتسمى «لاومنا» وهي تحت إشراف مباشر من هيئة «العزابة».
ولكل ناحية من الواحة توجد بها مرافق لتسيير وتنظيم السيل هيئة خاصة تتكون من 5 إلى 10 أشخاص، ويتم اختيارهم من مسؤولي وعقلاء المنطقة كما يتوجب أن يكونوا موضع ثقة وشجاعة لمواجهة الأخطار ولديهم كفاءة بأمور تقسيم السيل ونظمه، ويعتبرون بمثابة خبراء مختصين في أمور البناء وجريان السيول، يراقبون ويحافظون على تقاليد سير السيول بمقتضى الأعراف المتوارثة.
فدور أمناء السيل الإرشاد والتوجيه والمراقبة ورعاية المصلحة العامة، ومنع الاعتداء وتجنب المشاكل حتى يتفرغ الناس لمهامهم اليومية في طمأنينة، فإذا خالف أحد العرف الجاري العمل به في تقسيم المياه والاستفادة من المياه أحيل على هيئة «العزابة» الذين يتكفلون بالحديث معه حتى يذعن ويرجع إلى العرف في استغلال الماء.
غير ان هذا النظام التقليدي لالتقاط وتقسيم مياه سيول بوادي مزاب في غرداية، الفريد من نوعه يعاني في صمت، ويواجه خطر الاندثار أمام الإهمال الذي يعيشه، والعدد المتزايد من الأخطار المحدقة به.

النظام التقليدي يُصارع للبقاء

عُرف هذا النظام العريق الذي يعكس مهارة الأسلاف والابتكار في طريقة سقي واحات النخيل بـنظام تقسيم المياه بسهل ميزاب حيث تضمن منشآته تخزين مياه سيول وادي ميزاب وإعادة توزيعها بغرض سقي بساتين زراعية، وقد أصبح هذا النظام  التقليدي لتوزيع المياه بعد فيضانات الفاتح من أكتوبر 2008 عبارة عن بقايا أثرية مدمرة ومهجورة.
ويُعد هذا التراث لتقسيم المياه بسهل مزاب شاهدا على حضارة كانت متميزة بنيت بمنطقة صحراوية قاحلة، كانت تتميز بندرة المياه فيها، وهو المورد الحيوي الذي يشكل انشغالا في غاية الأهمية وأساسا من أسس الحياة.
لقد ضمن هذا النظام لجمع مياه الأمطار لوادي مزاب بطريقة مدروسة ومنصفة حيث سمح ولفترات زمنية طويلة باستحداث واحات نخيل ونظام زراعي وبيئي بسهل مزاب، اعتمد على الاستغلال العقلاني والتسيير الحكيم لمياه الأمطار القليلة المتساقطة، وتوعية الناس عن طريق هيئة «أمناء السيل» باقتصاد هذا المورد النادر من خلال إرساء نظرة شاملة مندمجة وتشاركية بين مختلف الفاعلين بهدف إنشاء حواجز وغيرها من السدود الباطنية والتي تتحول بمرور الوقت إلى طبقات مائية صغيرة تحت مجرى وادي ميزاب، والسعي للمحافظة على هذا التراث القديم وإعادة تأهيله واستغلاله في التنمية المحلية.
وأشار ناصر بابكر «أن دورنا يرتكز على تثمين تراثنا الأصيل المشهور (نظام تقسيم المياه بميزاب) والذي يعد واحدا من الأوجه التراثية التي تستقطب الدارسين من داخل وخارج الوطن، والمحافظة على هذا الموقع التاريخي والحضاري وأيضا تنشيط   وتشجيع الأنشطة المرتبطة بالسياحة البيئية».
ودعا ذات العضو إلى تسليط الضوء على مجموع المنشآت التقليدية للري وتحديد طبيعة التدخلات الممكنة من أجل المحافظة على هذه الثروة  وتثمينها بالتعاون المباشر مع ديوان حماية وترقية سهل واد مزاب، وذلك طبقا للتنظيم، وقانون حماية الممتلكات الثقافية.

خطر تمدّد الإسمنت
ساهمت ظواهر الجفاف المتكررة، وكذا النمو السريع والعشوائي للعمران، بالإضافة إلى المشروع العملاق للتطهير ومكافحة الفيضانات المتكررة لوادي مزاب الذي أنجزته السلطات العمومية في تقويض هذا النظام العريق للتوازن بين الإنسان ومحيطه البيئي والذي أبدع فيه الأسلاف بكل دقة وعبقرية بحسب ما أوضح رئيس أمناء السيل.
وأكد سليمان تامثلت بأن فيضانات 2008 كانت قد جرفت كل شيء، وغمرت الأوحال والطمي كل منشآت الري التقليدية التي شيدت منذ مئات السنين، كما حدث تشويه كامل لواحات وبساتين النخيل بغرداية، فمنذ تلك السنوات شهد هذا الفضاء بروز بنايات شيدت بطرق عشوائية فوق أراضي ذات طبيعة زراعية، حيث زحف الإسمنت عليها مما أدى إلى تدمير منظرها التقليدي الساحر».
ومن جهته، ذكر عمي بكير أحد أعيان غرداية «أن كل نخلة وكل شبر من أرض الواحة تحمل في طياتها تاريخ هذه المنطقة القاحلة التي تزخر بالذاكرة التي تقاوم النسيان وتفيض بدفء ساحر الذي يسترعي انتباه كل من زارها»، ويضيف متأسفا بأن «أزمة السكن وانعدام فضاءات مخصصة للبناء، جعل أبناء غرداية يرغبون في بناء منازلهم فوق عقار زراعي ورثوه عن آباءهم»، مما ساهم في انتشار ظاهرة تدمير واحات النخيل، ونظام سقيها التقليدي.
ويرى بدوره مسؤول بمديرية الموارد المائية بغرداية أن «اندثار نظام تقسيم المياه يعكس التحول الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع نحو نموذج عصري للحياة سيما مع الربط بشبكة التموين بمياه الشرب لكل السكان» وأضاف: «بأن الجهود المبذولة من قبل السلطات العمومية لتزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب وإنجاز آبار  حديثة لضخ المياه التي تغري من حيث تدفقها واستخراجها أيضا قد عوضت النظام التقليدي لتقسيم المياه الذي أصبح ذات خصوصية ثقافية وسياحية.

شهادة حيّة لحضارة عريقة

يحمل النظام التقليدي لتقسيم المياه بسهل ميزاب شهادة حية لحضارة كانت ولاتزال تبين مدى عراقتها، ويمنح لها شرف أن تكون نموذجا استثنائيا لمنشآت ري تضمن اقتصاد الماء في المناطق القاحلة بما يسمح بضمان توزيع عادل، وتوازن إيكولوجي بسهل مزاب حيث أنشئ هذا النظام قبل 12 قرنا من قبل الشيخ بامحمد أبو سحابة في 1273 للميلاد، كما أوضح المكلف بتسيير ديوان حماية وترقية سهل مزاب.
وبالنظر إلى محدودية توفر الموارد المائية التي تتميز بها المنطقة وعدم انتظامها وفترات الجفاف التي عرفتها منطقة مزاب فقد اعتمد السكان إستراتيجية في مجال الري بهدف تجاوز المعوقات ومرافقة حاجيات السكان من المياه، وما تحتاج إليه مختلف الجوانب الأخرى من الحياة سيما منها الأنشطة الفلاحية الواحاتية مثلما شرح رمضان كمال، مدير ديوان ترقية سهل واد مزاب.
ووعيا منها بأهمية وضرورة حماية هذا التراث المادي واللامادي لاسيما ما يرتبط بمهارات الأسلاف في صرف مياه الأمطار وتخزينها فإن عديد الجمعيات وأعضاء المجتمع المدني يدعون إلى المحافظة على هذا الرأسمال لفائدة الأجيال الصاعدة، وذلك ضمن مقاربة ترتكز على التنمية المستدامة، والتوفيق بين عنصري الأصالة والمعاصرة.
هذا المحيط الذي يغطي مساحة 4.000 هكتار مع بناياته التقليدية وواحاته ونظامه العريق للسقي ومعالمه ومواقعه التاريخية (أكثر من 200 موقع) قد صنف تراثا عالميا من قبل المنظمة الأممية للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) في 1982.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024