ترمز الذكرى الـ 51 لتأميم المحروقات إلى مرجعية القرار الاقتصادي الشجاع والحازم، الذي اتّخذته السّلطات العليا حينها ممثّلة في الرّئيس الراحل هواري بومدين، وتُجسّد أهمية الإرادة السياسية في إعادة بسط السيادة والسيطرة على ثروات الشعب الجزائري، والتي استرجعها بالدماء والمعاناة.
تعد رمزية هذا القرار الاقتصادي الشجاع وفق ما أكّده البروفيسور إلياس بن ساسي مدير جامعة غرداية لـ «الشعب ويكاند»، مرجعية للطبقة السياسية في اتخاذ أي قرار مستقبلي، حينما يتعلق بمصير ومستقبل التنمية للأجيال، مشيرا إلى أن من بين أهم النتائج المباشرة لهذا القرار هو تمكّن الإطارات الجزائرية حينها، بالرغم من قلة التجربة والخبرة من مواصلة استغلال الحقول النفطية بعد مغادرة المهندسين والتقنيين الفرنسيين، وكذلك ميلاد الشركة الوطنية لنقل وتسويق المحروقات (سوناطراك)، والتي أصبحت فيما بعد شركة رائدة إفريقيا وعالميا في مجال تأمين الاحتياجات الوطنية والدولية من الطاقة، كما أكد عليه المتحدث.
وبفضل عائداتها، تمكّنت الجزائر من الاستثمار في البنية التحتية، وبناء قاعدة صناعية في سبعينيات القرن الماضي، وكذا تأمين حاجات المجتمع الاقتصادية، بالرغم من الظروف والرهانات الصعبة التي مر بها الاقتصاد الجزائري من منتصف الثمانينات من القرن الماضي وإلى غاية مطلع القرن الحالي.
أبرز التّحدّيات
لعل أهم وأبرز التّحديات التي واجهتنا ولا زالت تواجهنا ـ حسب المتحدث ـ التأخر في فك ارتباط الاقتصاد بقطاع المحروقات، إذ لا زالت الإيرادات العمومية مرتبطة بالتقلبات في أسعار المحروقات في الأسواق الدولية، رغم التحسن الطفيف الذي تشهده بعض القطاعات خارج المحروقات مؤخرا، إلا أنّ المأمول لا زال بعيدا، وعلينا رفع وتيرة الانتقال الاقتصادي بأقصى سرعة ممكنة.
ومن بين التحديات كذلك، الارتفاع المخيف في الاستهلاك الداخلي للطاقة، والذي يتسارع تدريجيا من سنة لأخرى، الأمر الذي يرهن قدرة قطاع المحروقات في التصدير نحو الأسواق الدولية في المدى المتوسط والطويل، ذلك أنّ الإنتاج الذي يسجّل استقرارا نسبيا سيصطدم من الاحتياجات المحلية المتزايدة بسرعة، الأمر الذي سيفقد الاقتصاد أهم مورد للعملة الصعبة.
تحدّ آخر، يتمثل في ضعف الفعالية الطاقوية بسب عدم العقلانية في استهلاك الطاقة بمختلف أشكالها والتبذير في الاستخدام، سواء كان منزليا أو صناعيا أو عموميا، وهذا يجبرنا على تسريع الانتقال الطاقوي عن طريق التوجه تدريجيا وبسرعة مناسبة نحو استخدام الطاقات المتجددة والنظيفة، مثل استخدام الغاز المسال في السيارات والمركبات، والذي شهد ارتفاعا محسوسا خلال السنة الحالية، ترشيد استهلاك الكهرباء من خلال اقتناء التجهيزات والمعدات الأقل استهلاكا للطاقة في شتى المجالات تحت إشراف وزارة الانتقال الطاقوي.
بالإضافة إلى رفع قدرات إنتاج الكهرباء، من خلال الطاقة الشمسية والمزارع الهوائية والمولدات الهجينة (طاقة شمسية وغاز)، إذ تمتلك الجزائر قدرات هائلة ومقومات طبيعية وجغرافية تؤهّلها لأن تكون من أكبر منتجي الطاقة المتجددة والنظيفة في المحيط الإقليمي.
ويقول البروفيسور بن ساسي، إن من بين الحلول الإستراتيجية لتحقيق الأمن الطاقوي هو ظهور إرادة سياسية متصاعدة بقوة بخصوص بعث مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء (نيجيريا، النيجر، الجزائر)، والذي سيجعل من الجزائر شريانا إمداديا لهذا المورد الطاقوي نحو الجزائر ومنها نحو أوروبا، هذا المشروع بالإضافة إلى أهميته الاقتصادية، فإنّه سيعزز الأمن القومي للجزائر على اعتبار أنّ إمدادات الطاقة نحو أوروبا ترتبط بشكل مباشر بأمن واستقرار الجزائر في نظر المجتمع الدولي، كما سيزيد من القوة التفاوضية للجزائر في شتى المجالات.
إنّ تسريع الانتقال الطاقوي، سيساهم بشكل حيوي في الانتقال الاقتصادي نحو قطاعات خارج المحروقات، فتوفر إمدادات الطاقة سيسهم في تعزيز المورد المائي خصوصا للاستخدامات الفلاحية والصناعية لاسيما في الجنوب، الذي يملك قدرات مائية وفلاحية واعدة ولم تستثمر بشكل واسع لحد الآن. إذا فالانتقال الطاقوي سيدفع بالعجلة الاقتصادية نحو الأمام، وسيسهم في تحقيق الأمن المائي والأمن الغذائي، والتي ستنعكس مباشرة على مستوى رفاه وسلامة وصحة المواطنين.
وحسبما أشار إليه المتحدث بخصوص ارتفاع أسعار سلة خامات برنت مؤخرا، فإن هذا الارتفاع ولو كان ظرفيا، سيسهم في تخفيف الضغط على الميزانية العمومية، والأهم قبل ذلك هو التوجه نحو التنويع الاقتصادي خارج المحروقات، والذي يجب أن يتزامن مع قرارات مصيرية أخرى تسهم في تحقيق ذلك أهمها: مواصلة عملية رقمنة الإدارة، استقطاب السوق الموازية، إعادة توجيه الدعم نحو مستحقيه نقدا وبشكل مباشر، اعتماد الحلول التي ترتكز على آليات السوق (العرض، الطلب، سعر السوق)، بدل الإجراءات الإدارية (السعر الإداري، تقنين التعاملات التجارية والاستثمارية…)، تحسين مناخ الاستثمار من خلال إعادة النظر في قوانين الاستثمار، عصرنة القطاع المالي والبنكي (خصوصا بورصة القيم المنقولة، سعر الصرف…)، تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية لجذب الاستثمار الأجنبي والتعريف بالمنتجات الوطنية، عصرنة قطاع الخدمات، الاستثمار في البنية التحتية (النقل الجوي والبري والبحري، الطرق والسكك الحديدية، الموانئ الجافة)، بالإضافة إلى إنشاء مناطق حرة جالبة للعملة الصعبة.
وهنا أبرز البروفيسور بن ساسي الدور الاقتصادي للدولة، الذي يبقى مهما وحيويا خصوصا فيما يتعلق بالتعليم وتطوير المورد البشري، الصحة وسلامة المواطنين، محاربة الاحتكار والسلوكيات المضرة بالاقتصاد الوطني، سياسات حماية الاقتصاد، محاربة الفساد وتبييض الأموال…
كما أشار في نفس السياق إلى أنّ بعض الحلول الاقتصادية المذكورة سابقا، قد شُرع في معظمها من قبل السلطات العمومية، وعلى رأسها رئيس الجمهورية، الذي أبان عن إرادة جادّة وحازمة في محاربة كل السلوكيات المضرة بالاقتصاد وبالمال العام، والتي من شأنها أن تعيد الثقة في الاستثمار والتعاملات الاقتصادية بين الفاعلين الاقتصاديين، بالرغم من الإكراهات الوبائية التي أثّرت منذ سنتين على بيئة العمل الاقتصادي، وبالرغم من ذلك فقد خطت الجزائر خطوات هامة في التأقلم مع هذا الوضع الاقتصادي، وستزداد فعالية هذه السياسة الاقتصادية، بعد تخطي الظروف والوبائية وتحسن التوازنات المالية، لاسيما بعد الارتفاع المحسوس الذي تشهده أسعار المحروقات في الأسواق الدولية.