تحت شعار «بالتغيير ملتزمون وعليه قادرون»، شرع رئيس الجمهورية الجزائرية عبد المجيد تبون ـ قبل سنتين من اليوم ـ في تنفيذ برنامجه. وبالرغم من الصعوبات البالغة مازال قطار التغيير «قاصدا» وجهته نحو إعادة صياغة أدوات تسيير الشأن العام.
لم يمض على التنصيب الرسمي لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في 19 ديسمبر 2019، سوى أسابيع قليلة حتى برزت إكراهات خارقة تعترض طريق التغيير الذي صدحت به أصوات الملايين من الجزائريين في مسيرات الحراك الشعبي.
ظهر فيروس كورونا، كجائحة عالمية قاتلة للبشر والاقتصاد ولمعنويات الشعوب، وانهارت أسعار النفط إلى ما دون 10 دولارات للبرميل، وتواصل حالات الاستقطاب الداخلي بين دعاة المراحل الانتقالية والاختراقات الإيديولوجية للمسيرات وما صحب ذلك من مخططات عالية الخطورة على الاستقرار.
ما شهدته الأشهر الستة الأولى لعام 2020، لا يمكن وصفها إلا باستمرار حالة الإنهاك المعنوي والاقتصادي للبلاد، بشكل وضع الدولة، بكل مؤسساتها وأجهزتها، أمام تحدي الصمود والمقاومة. لكنها في المقابل، ساهمت في مكاشفة الرأي العام عن حجم تغلغل قوى التعطيل والفساد وأساليب عملها على ديمومة مصالحها الضيقة على حساب مصالح المواطنين.
ولم يحدث أن عايش الجزائريون، عن قرب، الوجه البشع للمضاربة، واختلاق ندرة المواد الأساسية ومن ورائه استهداف المخزونات الإستراتيجية، وكيف وصل الأمر إلى حد استغلال جائحة كورونا للدفع نحو إغراق المنظومة الصحية وانهيارها، وكل شيء من أجل تأجيج الشارع.
في أواخر 2020 والنصف الثاني من السنة الحالية، شهد الجزائريون كيف تم توظيف حرائق الغابات للتآمر واستهداف الجزائر، بضرب وحدتها الوطنية واللعب على نعرات زائفة. وخلفت حرائق الصيف الماضي لوحدها حوالي 90 ضحية، ناهيك عن الخسائر المادية المعتبرة.
وإلى وقت قريب، استثمرت قوى التخريب والإرهاب في كل شيء، في الأوكسجين الصحي، البطاطا واللحوم البيضاء، وكل ما له علاقة بجيب المواطنين وما يدفعهم نحو الغضب العارم.
واستغلت نظرية المؤامرة، في حياكة المؤامرة تلو الأخرى، ليكتشف الرأي العام في الأخير الحقيقة الكاملة، وارتباط شبكات التخريب في الداخل بالمخابر الصهيو-مغربية، التي ضخت كل ما تملكه من قوة ناعمة في مشروع ضرب البلاد، في وقت أدرك المواطنون مدى الخطر المحدق.
ثبات على البرنامج
أمام كل هذه الألغام وغيرها المرتبطة برموز «العصابة»، شكل الثبات على برنامج مكون من 54 التزاما، تحديا صعبا يتطلب إرادة سياسية من فولاذ وأدوات للتفكيك والتنفيذ.
ومضى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، قدُما في تجسيد التزاماته، نقطة بنقطة، بدءا من تعديل الدستور وصولا إلى تجديد المجالس المنتخبة، وهو ما أطلق عليه «إعادة البناء المؤسساتي».
وأكد الرئيس، أن تصوره للتغيير لا يقوم على تغيير الأشخاص وإنما المؤسسات والنصوص القانونية والتنظيمية ذات الصلة، الأمر الذي سمح لحد الآن، بتغيير التركيبة البشرية بنسبة 90٪ للمجالس المنتخبة، سواء المجلس الشعبي الوطني أو المجالس المحلية.
وستسمح إعادة هندسة المؤسسات، بتجاوز كل الاختلالات المرتبطة بتغول السلطة التنفيذية والإدارة على حساب باقي السلطات، والتوجه نحو تعديلات قانونية تعيد التوازن لتوزيع الصلاحيات، خاصة بالنسبة للمنتخبين المحليين.
وتقدم اللجنة المكلفة بمراجعة قانون البلدية والولاية، أعمالها نهاية الشهر الجاري، وهي الفترة التي ستعرف تكييف كل النصوص القانونية وجميع الجوانب التنظيمية مع دستور 2020.
وستجرى، يوم غد الأثنين، انتخابات المجلس الأعلى للقضاء، والذي سيعرف، لأول مرة منذ الاستقلال، خروج السلطة التنفيذية منه، حيث سيعوض رئيس المحكمة العليا وزير العدل حافظ الأختام في نيابة رئاسة المجلس.
وقبل أيام، أشرف رئيس الجمهورية على تنصيب أعضاء المحكمة الدستورية التي حلت محل المجلس الدستوري، وحازت على صلاحيات قضائية وتنظيمية جديدة، على غرار البت في النزاعات التي قد تنشب بين المؤسسات الدستورية، قصد ضمان عدم تعطيلها ولو لمدة زمنية محدودة جدا.
إعادة الهيكلة
التغيير المؤسساتي، لا يتوقف على أدوات تسيير الحياة السياسية والشأن العام. فالرهان الأكبر، ظل دائما «التنمية الاقتصادية» وتحقيق الهدف التاريخي المتمثل في الخروج من التبعية للمحروقات.
وقال الرئيس عبد المجيد تبون، أثناء أدائه واجبه الانتخابي في الاستحقاقات الأخيرة (المحليات): «إن الرسالة من تنظيم انتخابات مسبقة واستكمال البناء المؤسساتي، هي بناء دولة قوية اقتصاديا على أسس الديمقراطية الحقيقية، وليس ديمقراطية العصابة».
وبعد خمسة أيام من إعلان النتائج المؤقتة للانتخابات المحلية، أشرف الرئيس تبون على رئاسة ندوة الإنعاش الصناعي، وستتبع قريبا بتنظيم ندوات للإنعاش الفلاحي والسياحي وكل القطاعات التي تساهم في إخراج الاقتصاد الوطني من ريع النفط.
وأُعلنت 2022 «سنة اقتصادية محضة»، ستحسم فيها المعركة وبشكل نهائي مع الجهات المعطلة للتغيير داخل الإدارات العمومية، وسيعاد فيها النظر، في الهياكل التنظيمية للمؤسسات العمومية، خاصة بالنسبة لمجالس الإدارة ووضع عقود نجاعة للتسيير.
التوجه الاقتصادي، المسطر من طرف رئيس الجمهورية، يضع رفع نسبة مساهمة الصناعة في الدخل الوطني الخام إلى حدود 12٪ على المدى القصير، بدل 5٪ حاليا.
وبشكل عام، أكد الوزير الأول وزير المالية أيمن بن عبد الرحمان، أن العام المقبل سيكون مميزا، كونه يتزامن مع الذكرى 60 للاستقلال، «ويجب علينا أن نحقق فيها الاستقلال الاقتصادي بعد استعادة السيادة الوطنية».
استعادة المكانة اللائقة
قيادة سفينة التغيير، وسط أمواج متلاطمة من المعضلات الاقتصادية والمشكلات التراكمية والمفتعلة، استمرت برهان استعادة «هيبة ومصداقية» الدولة واسترجاع ثقة المواطن في مؤسساته.
ووظف رئيس الجمهورية، بشكل ظاهر، إرث التاريخ المجيد والجغرافيا القوية، في بعث السياسة الخارجية النشطة للبلاد، ليضعها مجددا في مكانة قيادية لعالم الجنوب، خاصة ما تعلق بالدفاع عن القضايا العادلة كالقضيتين الصحراوية والفلسطينية.
وكان على الشركاء الدوليين إدراك مدى جدية الجزائر، في الحفاظ على سيادة قرارها، وصرامتها في هذا الجانب، حيث انقضت سنتان كاملتان من التوترات غير المسبوقة مع فرنسا، شهدت استدعاء الخارجية الجزائرية للسفير الفرنسي 3 مرات للاحتجاج، وسحب السفير الجزائري لدى باريس مرتين للتشاور.
وأكد وزير الخارجية الفرنسي، جون إيف لودريان، في زيارته الأخيرة، رغبة بلاده في استئناف العلاقات الثنائية، على أسس الندية واحترام سيادة البلدين، وهو الذي كان سنة 2019 ينادي في كل مرة بضرورة «الانتقال الديمقراطي في الجزائر».
واللافت في الدبلوماسية الجزائرية، الجديدة، امتلاكها لقوة القرار، بعد سنوات طويلة من الاكتفاء بتسجيل المواقف أو النأي بالنفس عن القضايا التي تمس الأمن القومي الوطني بشكل مباشر أو غير مباشر.
فالممكلة المغربية، أمعنت في استفزازاتها وسياستها العدائية، بعدما كانت تعتقد أن التوتر لن يزيد عن تخفيض التمثيل الدبلوماسي، لتصدم بقطع نهائي للعلاقات الدبلوماسية، مع حظر المجال الجوي أمام كل طائرة مغربية أو تحمل رقم تسجيل مغربي، ناهيك عن رفض تجديد عقد أنبوب الغاز الذي كانت تحصل منه على قرابة 900 مليون متر مكعب سنويا، وغيره من التدابير التي تلزم المخزن حده.
وتجسدت مراعاة المصلحة الوطنية العليا، في الفعل الدبلوماسي، أيضا، في قرار مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2005، ولم يعد بأي فائدة تذكر على الجانب الجزائري.
وقررت الجزائر، العودة إلى إفريقيا، باعتبارها الامتداد الطبيعي لها والعمق الاستراتيجي، سواء فيما يتعلق بالقضايا الدولية أو التنمية الاقتصادية، حيث شرعت في ربط قنوات التصدير مع عشرات الدول.