خلف الواجهة البحرية للعاصمة، حيث تظهر المباني العملاقة متراصة بلونها الأبيض الجميل، الذي يبعث بالراحة والأمل لناظريه، ويختزل كل معالم الجمال لعاصمة تبسط يديها للخليج مرحّبة بكل زائر، تمتد وتتراص المباني القديمة، وكأنّها «شيخ هرم» هارب من «الجحيم»، بتصدّعات وتشققات، وتآكل للجدران والهياكل، حوّلت حياة قاطنيها إلى عذاب، وخوف دائم، يزداد كلما تهاطلت الأمطار وتأخّرت السلطات في التدخل لانتشالهم من خطر محدق، يطرق كل ثانية الأبواب، حتى أن بعض العائلات لفظتهم تلك المباني وصاروا يفترشون العراء، لأن الانتظار في بيوت مهددة بالانهيار أصبح شبه انتحار.
وقفت «الشعب ويكاند» على واقع صعب، تعيش فيه عائلات في بنايات هشة تقع في كل من 07 شارع وريدة مداد بالقصبة السفلى، و04 محيي الدين أكاشوش ببولوغين، وبـ 04 حي العصافير برايس حميدو، وجمعت من خلالها تصريحات السكان المتضررين من الحالة المزرية لبناياتهم، لاسيما الذين أجبروا على افتراش الشارع، وذلك منذ 20 يوما.
عائلات في الشارع بالقصبة السفلى
في قلب الحي العتيق، الذي استفاد من تصنيف أممي ضمن التراث العالمي، الذي ينبغي حمايته وتأمينه من خطر العوامل المناخية وعبث يد الإنسان، تفترش 8 عائلات الأرض وتلتحف السماء، في ليالي باردة منذ أكثر من 20 يوما، بعدما أجبروا على مغادرة مساكنهم بعمارة تقع بـ 07 شارع وريدة مداد بالقصبة السفلى، دون إشعار مسبق بضرورة إخلاء البناء مثلما صرحوا لنا ونحن نستجوب المتضرّرين.
وحسب تصريحات أحد المتضررين وهو أب لطفلين، أن البناية خضعت منذ فترة طويلة إلى تعديل على مدخل العمارة الذي يعود بناؤها إلى الفترة الاستعمارية، وأقدمت خلالها البلدية على غلق مخارج التهوية المتواجدة في أسفل العمارة، حيث تعتبر تلك المنطقة السفلى جزءا هاما من الهيكل الهندسي الذي بواسطته تتم عملية تصفية العمارة من الرطوبة، ولكن أصبحت مجوفة نظرا لانسداد مخرج الهواء ممّا تسبب في انزلاق الأرضية، وتم على إثرها كما جاء على لسان المتحدث، استسلام سكان العمارة إلى أمر الإخلاء بالرغم من عدم استفادتهم من برنامج الترحيل وإعادة الإسكان.
وأشار المتحدث إلى أنّ جميع شقق العمارة خضعت إلى إصلاحات واستحداث ديكورات على مستوى الغرف من طرف أصحابها، إلا أنها صُنفت في الخانة الحمراء، بعد إعادة إصلاح الضرر الذي تسببت فيه أشغال ترميم لم تعتمد على دراسة مسبقة.
أما شقيق المتضرر السابق، فقد لفت الانتباه إلى أن وضع العائلات أثّر على نفسية الأطفال، حيث باتت تسيطر على ابنه البالغ من العمر 9 سنوات حالة شرود ذهني، بل أصبح غائبا طيلة اليوم عمّا يحدث حوله، وكيف لا وهو طفل في الابتدائي ومقبل على الاختبارات عاش موقفا صعبا، وفي ليلة ممطرة اضطر لافتراش الشارع مع والديه وشقيقته التي لم تتوقّف عن البكاء رفقة العائلات السبع بالساحة المحاذية لعمارتهم التي أوصدت بالحجارة وفقا لقرار الإخلاء.
وذكر متضرّر ثالث حالة سيدة وهي أمّ لسبعة أطفال تشاركهم المأوى غير الآمن، واضطرت إلى اللجوء مع رضيعها إلى أحد الجارات، في حين بقي أولادها في الشارع مع والدهم المنهار كليا من هذا الوضع.
الأقبية..جحيم آخر في بولوغين
غير بعيد عن مقر بلدية بولوغين، وبالضبط في 4 حي محيي الدين أكاشوش، تعيش عائلات أغلبها بالإيجار منذ ما يفوق 50 سنة في حضن البنية التحتية لمبنى قديم يضم أكثر من 45 عائلة، من بينها خمس عائلات تسكن أقبية كانت في الأصل مخصّصة لقنوات الصرف الصحي، وثلاثة عائلات مجاورة للأولى يفصل بينهما جدار تعيش هي الأخرى نفس الظروف غير الصحية، حيث أكّدت السيدة (ك - ز) التي سمحت لنا بمعاينة محل إقامتها رفقة ابنها وزوجته وابنه، بأنّ وعود إعادة الإسكان التي جاءت بعد تأشير سكناتهم بالعلامة الحمراء لم يتم الوفاء بها لحد الآن، بالرغم من أن العمارة وفق تصنيفها مهددة بالسقوط في أية لحظة.
وتقول إن صبر العائلات فاق كل الحدود، فالمكان تسيطر عليه الرطوبة العالية من كل جهة وتنعدم فيه التهوية، كما أنّ الشمس لا تصله أبدا، وفي فصل الشتاء يصبح معرضا لانجراف السيول والغمر بمياه الأمطار.
وأوضحت المتحدّثة ذات 71 سنة، بأنّه عندما أعلمتهم السّلطات المختصّة بقرار ترحيل عائلتها في 2015، اعتقدت بأنّ ذلك سيكون خلال أيام، وبناء على ذلك حزمت أمتعتها وانتظرت شارة الخلاص، إلا أنها فوجئت بعدم تفعيل هذا القرار ومع ذلك انتظرت عامين آخرين، ثم قررت ترميم مسكنها وإصلاح جدرانه المتآكلة، وتحسين وضع الشبابيك التي تشبه فوهات مستطيلة الشكل ذات عرض مقدّر بـ 45 سم في ارتفاع يعادل 20 سم.
ونفس الظروف تقريبا، تعيشها العائلات الثلاث القاطنة بالجوار، إلاّ أنّ بعضها لم تتمكّن من إصلاح الحجرات الشاهدة على معاناة أكثر من 17 فردا طالت مدتها، واستحكمت فيها ظروف شبه حياة لا يتمناها مواطن بدون مأوى، وهي تعيش على أمل الترحيل الذي يستند إليه سقف حلمهم المتمثل في العيش الكريم.
خوف من تكرار مأساة حي العصافير
انتقلنا إلى المكان الذي عاش مؤخرا مأساة انهيار مبنى راح ضحيته ثلاثة أفراد بـ 4 حي العصافير بالرايس حميدو، حيث اعتقدنا أنّنا سنقف على حيثيات من شأنها أن تنسينا نوعا ما حجم الكارثة، ولكننا فوجئنا بتوابع ذلك المآل السيء، وربما أكثر خطورة لولا لطف الله بالعائلات التي ما زالت مجبرة على العيش بكل خوف تحت أسقف تنذر بالوعيد.
وصرّح لنا نسيم مغوفل، وهو أب لطفلتين الساكن المتضرر من هذه البناية التي يخال للمار أمامها، بأنها ستسقط قبل أن يرتد إليه طرفه، أن مقر سكنه المبني في أرض للورثة لا يحتمل المزيد من الانتظار، فانزلاق التربة أدى إلى انهيار جدران بيته وبيت ابن خالته الساكن بمحاذاته، ويعيش هو الآخر مع عائلته في جحيم اسمه انتظار إعادة الإسكان غير المشروط والمجهول.
كما أشار ذات المتحدث إلى أنّ عائلته وعائلة قريبه مجبرون على المغامرة بحياتهم، والبقاء في مكان ترسم فيه صور مروعة عن جيرانه الذين هلكوا تحت أنقاض منزلهم بسبب انزلاق التربية بعد الأمطار الغزيرة التي عرفتها المنطقة، وقال نسيم مغوفل في سياق حديثه المتشنج والمتأثر بالحادث الأليم بأنّه مجبر على البقاء في بيته المهدد بالانهيار، حيث ليس له مأوى يلتجأ إليه وعائلته، وفي نفس الوقت هو ليس مستعدا بأن يكون أو أفراد أسرته رقما آخر يسجل في عداد الضحايا.
وعندما استفسرنا عن رد فعل السلطات، قال لنا إنّهم عاينوا المكان فور وقوع الحادثة، «لكن لحد الآن لم يتم اتخاذ أي قرار سواء إشعار بالترميم أو أوامر بالإخلاء»، وهو اليوم يناشد المعنيين بالأمر الفصل في قضيتهم لأن الانتظار في سكنات مهددة بالانهيار شبه انتحار.