سيكون الاستغراق في إثبات بطلان الحجج التي قدمها المغرب لقطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران، مضيعة للوقت والجهد، فالأمر كله مجرد سيناريو رديء يستهدف خدش عدالة القضية الصحراوية. غير أن ما يثير الاهتمام ضمن هذا كله هو»السقوط الحر» لمكانة المملكة في معادلة اللعبة الإقليمية التي يدير خيوطها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتساوي مع إسرائيل في الشرق الأوسط.
قدم المغرب، قرار قطع العلاقات مع إيران، على أنه جاء عقب إنجاز «استخباراتي» يزعم تزويد طهران لجبهة البوليساريو بالسلاح عبر حزب الله اللبناني، والحقيقة أن الشيء الوحيد الذي أنجزه هو اصطفافه ضمن معسكر استعداء إيران الذي يقوده ترامب ونتنياهو.
وبخرجته هذه، بدى المغرب كمن يقفز من قشّة نجاة إلى أخرى، وكمجرد «تابع» لفاعلين أساسيين في قضايا دولية معقدة سعيا لنيل فتات «إطالة حالة الانسداد في الصحراء الغربية».
صحيح هي المرة الثالثة، التي تصل فيها العلاقات بين طهران والرباط إلى درجة القطيعة الكاملة، لأسباب تتعلّق أساسا بتسجيل المواقف من القضايا الحيوية التي تخصّ كل منهما، لكن الفصل الأخير من مسلسل الشدّ والجذب بين البلدين، أكد بوضوح مدى انسياق المغرب وراء المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة.
ورغم حرص رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، على إظهار قطع العلاقات مع إيران، كخطوة سيادية وأحادية، عندما كتب على صفحته الرسمية بفايسبوك أنه «قرار مغربي خالص»، إلا أن تواتر الأحداث وتطورها يؤكد العكس تماما، ويثبت أن المغرب فقد توازنه الذي طالما أبداه وتمسّك به في العلاقات الدولية.
لقد تخندق المغرب، إذن، في صف طرف معين ضد طرف آخر (إيران)، وبات خيطا رفيعا ضمن خيوط لعبة الشرق الأوسط الكبير تحركها القوى المؤثرة في الاتجاه الذي تريد، وما دفعها لفعل ذلك إلا الضربات التي تلقها في الأشهر الأخيرة والتي تنصّ كلها على ضرورة استئناف المفاوضات وفق مبدأ تمكين الشعب الصحراوي من تقرير مصيره.
هاجس اسمه جون بولتون
كان تعيين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لجون بولتون مستشاره للأمن القومي، في مارس الماضي خلفا لهربرت مكماستر، أسوأ خبر تلقاه المغرب، لأن هذا السياسي النافذ في الولايات المتحدة متحمس جدا لتمكين المينورسو من القيام بمهمتها الأساسية المتمثلة في تنظيم استفتاء تقرير المصير للشعب الصحراوي، ووقف التجديد السنوي لمهمة البعثة دون تحقيق تقدم ملموس في مهمتها الرئيسية، ومعروف بكونه من الصقور البراغماتيين ويتخذ من «أمريكا أولا» قاعدة عمل، ما يجعل حجم التوافق بينه وبين ترامب كبيرا للغاية.
وبمساعدة فرنسا، استطاع المغرب الحصول على جملتين في تقرير مجلس الأمن الأخير حول الصحراء الغربية، تتعلق الأولى «بمطالبة البوليساريو بسحب قواتها من الكركرات»، والثانية «بعدم القيام بأنشطة عسكرية في الأراضي المحررة»، جعلته مرتاحا ومطمئنا بعد تخوف شديد من احتمال تأثير بولتون على ممثلين في الأمم المتحدة واشنطن الذين تولوا مهمة صياغة اللائحة رقم 2414.
خروجه بأخف الأضرار، من جلسة مجلس الأمن الأخيرة، جعلته يقدم على خطوة موالية، حيث اختار ذروة الجدل بشأن مستقبل الاتفاق النووي بين الدول الستة وإيران، ليعلن عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، وبالضبط قبل أسبوع عن قرار ترامب «بالانسحاب أو التمديد أو الإبقاء على الاتفاق».
انتقاء هذا التوقيت، للظهور كضحية لتدخلات طهران في المنطقة العربية، يعتبر موقفا منحازا وداعما للرئيس الأمريكي الطامح لكسر شوكة إيران مهما كلّف الأمر، ويخفي في مضمونه تملقا له طمعا في تفادي أية مفاجأة غير سارة عندما يحين وقت حديثه عن ملف الصحراء الغربية.
الدعاية الإسرائيلية
جاء إعلان الرباط قطع العلاقات مع طهران، بعد ساعات من تنشيط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لندوة دعائية ضخمة ضد إيران والاتفاق النووي بينها وبين مجموعة الـ5+1، مقدما أطنان من الوثائق حيث قال أن عناصر الموساد استطاعت سرقتها من مستودع سري بطهران.
ليقدم المغرب بقراره خدمة جليلة للدعاية الإسرائيلية الرامية لإقناع ترامب باستئناف العقوبات الاقتصادية على إيران والانسحاب من الاتفاق النووي.
إن عمل المغرب على شيطنة إيران، يعتبر مساهمة نوعية في الجهد الهادف إلى تحويل الأنظار عن الكيان الصهيوني بصفته عدوا مشتركا للبلدان العربية نحو طهران وإلباسها هذه الصفة، كي يتفرغ لتنفيذ مخططاته بشأن تهويد القدس وتعميم احتلاله للأراضي الفلسطينية بكل هدوء.
ولا تختلف الاستراتيجية المتبعة من قبل المغرب في الوقت الحالي، للاستمرار في احتلال الصحراء الغربية، عما قام به الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، فهي مبنية على محاولة التنصل من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والعمل على تغيير المعطيات الجغرافية على الأرض إلى جانب القمع والسجن والاختطاف داخل الأراضي المحتلة، وكذا اتخاذ دولة عضو داخل مجلس الأمن الدولي (فرنسا) حاضنة لها وراعية لاحتلالها.
استرضاء ترامب؟
انضمام المغرب لمعسكر «استعداء إيران»، تقف خلفه غاية واحدة، تتمثل في «استرضاء» الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لأنه في النهاية صاحب الحل والربط الجديد في العلاقات الدولية، وقد يكون ما قام به خطوة ذكية وفي وقتها تفاديا لمتاعب قد تصدر عن رئيس يميل لاتخاذ أسوأ القرارات ويصعب التكهن بخطواته.
لكن، هل يكفي قطع العلاقات مع إيران لاتقاء شرّ ترامب؟، فالرئيس الأمريكي، يمارس الدبلوماسية الدولية بأسلوب قريب إلى ما يفسر به عامة الناس عادة منطق العلاقات الدولية، حيث لا يتوقف عن ذكر «أفضال الولايات المتحدة على دول العالم وعلى المنظمات الدولية»، ويؤكد في كل مناسبة « أن المال هو عصب علاقة أمريكا بالآخرين»، ويطلب «الدفع مقابل الحماية والدعم»، كما أنه لم ينس أبدا أن «المملكة المغربية موّلت حملة منافسته في الرئاسيات هيلاري كلينتون بـ12 مليون دولار»، حسب ما صرّح به لوسائل الإعلام سنة 2016.
وحتى وإن كان المغرب العربي الكبير، لا يتصدر قائمة أولويات الإدارة الأمريكية، لا يمكن الرباط المراهنة على دعم واشنطن في قضية الصحراء الغربية، وأقصى ما تستطيع فعله هو كبح جماح جون بولتون وأفكاره عبر ممارسة «اللوبيينغ».
وقد تبدو تحركات المغرب في الشهرين الأخيرين، محكمة ووفق استراتيجية مدروسة، إلا أن تغيير زاوية النظر لما تقوم به دبلوماسيته، يكشف عن اختلال كبير في التوازن، لأن البلد الذي كان منتهجا لسياسة النأي بالنفس والوقوف على مسافة واحدة مع المعكسرات المتصارعة، جرفته اليوم السياقات الدولية ليصبح «تابعا» لأطراف أملا في تحقيق مصالحه الخاصة.
والواقع يؤكد أن النتائج الملموسة التي حققتها القضية الصحراوية على الصعيدين الإفريقي والأوروبي، يضاف لها رغبة منظمة الأمم المتحدة في استئناف المفاوضات في أقرب الآجال تحت ضغط تقليص مدة مهمة بعثة المينورسو إلى النصف، أفقد المغرب توازنه، وجعلته يختار دبلوماسية استرضاء الأقوياء.