يبدو أنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلية قرّرت بصلفٍ وكبرياءٍ، وعنجهيةٍ وغباءٍ، وغطرسةٍ وخيلاء، أن تصبّ جام غضبها على الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في جميع السجون والمعتقلات، وأن تمارس في حقهم ساديتها المفرطة، وكرهها القديم، وحقدها الدّفين، وأن تثأر لنفسها من أسودٍ تحبسهم، وأبطالٍ تعتقلهم، ورجالٍ بالقيود تكبلهم، وقادةٍ في الزنازين بعيداً عن العيون تعزلهم، وأن تنتقم من رفات الشّهداء وذويهم، وأن تحبسهم في ثلاجاتٍ غير آدمية، وفي ظروفٍ غير إنسانية، أو تدفنهم دون علم أو حضور أهلهم، في قبور الأرقام المجهولة، ليكونوا رهائن بأيديهم، وورقةً للضغط والابتزاز على أهلهم، وبذا قرّرت أن تمسك بيد الشّعب التي توجعها وتؤلمها، وأن تضغط على موضع الجرح فيهم بقسوةٍ ولؤمٍ، وخسةٍ ونذالةٍ، في خرقٍ واضحٍ للاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وانتهاكٍ فاضحٍ لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب الخاضعة لسلطات الاحتلال، دون مراعاةٍ لقانون أو خوفٍ من المجتمع الدولي، الذي يراقب جريمتهم ويسكت، ويرصد عدوانهم ويجبن.
وقد بدأت سلطات الاحتلال بالفعل في تنفيذ حملتها الأمنية التأديبية الانتقامية الثأرية بكل قوةٍ وعنفٍ، وقرّرت ألاّ تستثني من غضبتها أحداً، وألاّ تكون لطيفةً في التعامل مع أي فئةٍ، وألا تستجيب إلى أي دعوةٍ أو التماسٍ، ويبدو أنها ماضية في خطتها بلا تردّد، وعازمة على الإمعان فيها دون خوفٍ من مساءلة أو حسابٍ للعاقبة، ولا أدنى إحساسٍ بالعيب والنقيصة، فيما يعتبر إعلان حالة حربٍ حقيقيةٍ ضد الأسرى والمعتقلين وذوي الشهداء وشعبهم، متوقعين أن الشعب الفلسطيني سيخضع لهم وسيخاف منهم، وسيذل رقابه لأجلهم وسيستجيب إلى طلباتهم، وسيستغيث بعالي الصوت أن أغيثونا، وكفوا عن تعذيبنا والإساءة إلينا، ذلك أن هذه هي سياسة العدو معنا، وهذا هو ديدنه فينا، فما عرفناه يوماً إلا ظالماً، وما عهدناه في تاريخنا إلا معتدياً غاشماً، وما انتظرنا منه يوماً قسطاً أو عدلاً، أو شفقةً أو رحمة.
يحاول العدو الإسرائيلي أن ينفس بإجراءاته المنافية للأخلاق عن عجزه، وأن ينتقم بأثرٍ رجعي من آسري جنديه السّابق جلعاد شاليط الذي أذاقهم الذل وأسقاهم المر طوال فترة أسره، رغم علمه أن الأسرى الذين يعتقلهم لا علاقة لهم بأسر جنوده، وإخفاء المعلومات عنه، فأغلبهم من سكان الضفة الغربية، وجل أسرى غزة تقريباً لم يشهدوا عدوانه الأخير على قطاعهم، ولا يعرف شيئاً عن أسرار الحرب ولا عن وسائل المقاومة وسبلها، والأماكن التي قد تستغلها وتستفيد منها في معركتها معه، أو كأنه يريد أن يرسل رسالةً إلى ذوي جنوده أننا لن نسكت عن أبنائكم، ولن نتخلى عن أولادكم، وأنّنا لن نوفّر للمعتقلين الفلسطينيين سبل الراحة بينما جنودنا في الأسر أو مفقودين لا نعرف عنهم شيئاً، ونسي العدو أن المقاومة في غزة أكرمت جنديه ولم تعذبه، وأحسنت إليه ولم تهنه، واهتمت به ولم تهمله.
إلاّ أنّ الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون العدو ومعتقلاته، الذين اعتادوا على التعذيب وتعايشوا مع ظروف السجن وقسوة السجان، وما عرفوا من العدو غير القهر والإذلال، قرّروا الصمود والمواجهة، والثبات والتحدي أمام كل إجراءات العدو الغاشمة، والمساهمة في المعركة ولو بأجسادهم، والمشاركة في الصمود ولو على حساب صحتهم وعافيتهم، رغم أن موازين الحرب غير متكافئة، وأدوات القتال غير متشابهة، فسلطات الاحتلال تتسلح بعددٍ من الوحدات العسكرية والأمنية المختصة في مداهمة السجون والمعتقلات، والمدربة على قمع الأسرى والمعتقلين، والتعامل معهم بخشونةٍ كبيرةٍ ضمن أقسى الظروف وأصعب الأحوال.
فقد تهيّأت وحدة «الميتسادا» للمواجهة، وانطلق عناصرها بأقدامهم الثقيلة وخوذاتهم الواقية إلى السجون والمعتقلات، بعد أن تسلحوا بخراطيم الغاز الخانق والمدمع، والهراوات الغليظة والعصي الكهربائية، وبدأوا في اقتحام الغرف والأقسام وعزل الأسرى والمعتقلين، وفرزهم حسب الولاءات والانتماءات، ونقلهم وعقابهم وعزلهم في الزنازين والإكسات، ويساعدهم في جريمتهم الجنود والحراس، الذين يراقبون عمليات القمع ويشهدون جريمة الاعتداء، ويساهمون بسريةٍ وعلانيةٍ في ركل المعتقلين وضربهم، وسحبهم وجرهم.
وكانت وحدة الميتسادا قد باشرت في سجون النقب ونفحة في تنفيذ أوسع حملات التفتيش والتنقيب بين حاجيات المعتقلين وأغراضهم الخاصة، تبحث عن كل ممنوع، وتصادر كل مشبوه، وتفسد كل ما يقع بين أيديها أو تدوسه أقدامها، وتعزل المعتقلين وتصنفهم، وتقود من تشاء منهم إلى أقسامٍ خاصة أو سجونٍ أخرى، وفي كل مداهمةٍ أو ما اصطلح الأسرى والمعتقلون على تسميته «قمعة»، يسقط جرحى ومصابون، جراء الضرب العنيف، والركل واللكم والجر، أو استنشاق الغاز الخانق أو المدمع، أو بسبب الحشر والتدافع، وزج المعتقلين في زنازين ضيقة، وإجبارهم على جلوس القرفصاء، أو الوقوف ووضع أيدهم فوق رؤوسهم، وأحياناً يسقط جرحى نتيجة إطلاق النار عليهم، ومن قبل سقط شهداءٌ عديدون.
باتت عمليات المداهمة والاقتحام والتفتيش الفجائي والضرب والعزل والتأديب والنقل والفصل والفرز، أنشطة اعتيادية يومية تنفذها إدارة السجون والمعتقلات ضد جميع الأسرى والمعتقلين، وإن كانت تخص بإجراءاتها القمعية معتقلي حركة حماس، وكل من انتمى إليها أو أيّدها أو انحاز إلى جانبها، تنفيذاً لقرارات الحكومة القاضية بالتضييق على معتقلي حماس أملاً في التأثير على قراراتها، ودفعها للكشف عن مصير الجنود الإسرائيليين المفقودين لديها، إلا أن الأسرى قد وحّدوا كلمتهم وجمعوا صفّهم وأعلنوا تضامنهم مع أسرى حماس ووقوفهم إلى جانبهم، ولن يسمحوا للعدو أن يفرّق بينهم، أو أن يصنّفهم وفق هواه وقانونه.
هل يسكت المجتمع الدولي عن هذه الجريمة النكراء؟ أم يشجب ويستنكر ويدعو حكومة الاحتلال إلى الكف عنها، والتوقف عن هذه المهزلة، واللجوء إلى خيار التفاوض حول جنوده، والدخول في حوارٍ مع الوسطاء الذين يهبّون دوماً لنجدته ومساعدته، ويعرفون تماماً الثمن الذي يجب أن يدفع؟ إذ أنّه السبيل الوحيد لاستعادة جنوده أو الحصول على معلوماتٍ عنهم، وليعلموا أنّ المقاومة لن تفرط في حرية أبنائها، وأنّ الشعب لن يتخلَ عن الأمل في استعادة رجاله، وسيصبر على الأذى، وسيتحمّل المعاناة، وسيجاهد لأسر جنودٍ آخرين، وسيهبّ إلى جانب أبطاله الأسرى ورجاله الأماجد في انتفاضةٍ عظيمةٍ وثورةٍ عملاقةٍ حتى ينعم أبناؤه جميعاً بالحرية، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.
بيروت في 4 / 1 / 2017