يعتبر الحديث الهاتفي المبكّر بين الرئيس الأمريكي الجديد «ترامب» والرئيس الروسي «بوتين» خطوة جريئة بإمكانها أن تحدث تغييرا ليس فقط في العلاقات بين البلدين بل في السياسة الخارجية الأمريكية وعلاقاتها بدول العالم الأخرى، لاسيما دول الشرق الأوسط بالرغم من أنّ ترامب صديق حميم لإسرائيل وتصريحاته عنصرية ضد العرب والمسلمين والمهاجرين بصفة عامة، إلاّ أنّه في اعتقادي أقل سوءا من سابقه أوباما، الذي يريد أن يروّضه قبل أن يغادر البيت الأبيض، حيث يحاول ترامب أن يهدئ الأمور بعد أن أوصلتها إدارة أوباما إلى درجة الغليان والتوتر في العديد من بقاع العالم.
ليس أدل على ما نقول ممّا نشاهده على أرض الواقع، وما يجري في العراق الذي فقد أكثر من مليون ونصف قتيل، وما يجري في سوريا وليبيا واليمن وأفغانستان وغيرها ممّن يعيشون الحروب الأهلية بسبب التدخلات الأمريكية، ومحاولة تقسيمها بغية رسم خارطة شرق أوسطية جديدة.
حديث ترامب مع بوتين يحمل دلالات طيّبة على حسن النّوايا وتوحيد الرؤى في محاربة الإرهاب، وهو ما يحافظ على العنصر البشري الذي نكل به الإرهاب وتنظيماته المتوحشة من أمثال داعش والنصرة وغيرهما، وقد أدلى بذلك ترامب خلال حملته الانتخابية إذ قال أنّ مشكلتنا مع الإرهاب وليس مع الأسد، مضيفا أنّه لن يساعد ما اصطلح على تسميته بالمعارضة المعتدلة، وهو ما يصب ويلتقي مع الهدف الروسي للحفاظ على التوازن وعلى الأمن العام بدلا من توسع حلف الناتو شرقا وعسكرة أوروبا. إنّ الاتحاد الأوروبي يتعرّض للتّهديد نتيجة إعادة النظر الأمريكية برئاسة ترامب للحلف الأطلسي والحماية الأمنية لأوروبا، ولذلك وفي محاولة استباقية للحد من سياسة ترامب سعى وزراء الخارجية والدفاع في الاتحاد الأوروبي إلى ما يسمّونه «الاستقلالية الاستراتيجية» في اجتماعهم ببروكسل، حيث رفض ترامب دفع واشنطن لفواتير حماية أوروبا وجعل الحلف يحذّر من التصرف الانفرادي، فوضعت الخارجية الأوروبية برئاسة موغيريني خطّة لما وصف بأنّه خطّة دفاعية تتمثل في إنشاء مشاريع دفاعية مشتركة، إنشاء مقر موحد لتنسيق وإدارة المهمات المشتركة، العمل على ضخ الأموال في الصناعات العسكرية والأبحاث.
إنّ امكانية رفع الغطاء الأمريكي على أوروبا والتّفاهم مع موسكو يفضي لا محالة إلى تعزيز اليد الرّوسية الطولى في أوروبا أو على الأقل منع التّطاول الأوروبي في المحيط الحيوي الروسي.
إنّ رغبة موسكو واستعدادها لبناء علاقات شراكة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، هو ما يجب أن يقابلهما استعداد ورغبة من إدارة ترامب على أساس التكافؤ والاعتماد المتبادل والندية واحترام المصالح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
إنّ الدفع بالعلاقات بين البلدين إلى الأمام يتطلب العمل المشترك والفعال وتشكيل قاعدة متينة للعلاقات عن طريق تطوير مكوناتها التجارية ـ الاقتصادية، وهي القضايا التي عملت إدارة أوباما على إلغائها ما أدى إلى تدهور العلاقات بين البلدين وأضر بأوروبا بالدرجة الأولى، وأتى على مقدرات العالم الاقتصادية والعسكرية.
والغريب أنّ إدارة أوباما لا تزال رافعة العصا فقبل الرحيل أعلنت في 14 نوفمبر أنّها وسعت قائمة العقوبات المفروضة على روسيا، وهذا ما يضع ترامب أمام تحديات ومآزق منها الملف السوري، الحرب على داعش، حلف الناتو، الاتفاق النووي الإيراني، المهاجرين غير الشّرعيّين. إنّ أوباما يعترف بعبقرية ترامب وبخطورتها أيضا، وقد كتب صحفي روسي مقالا في صحيفة «كومير سانت» الروسية أنّ ترامب تفوّق على الساسة المحترفين بفضل إحساسه الصائب في إدراك متطلّبات أسواق البناء والإحساس بها، حيث أدرك نمو رفض قواعد اللعبة القديمة داخل المجتمع الأمريكي، واكتشف علامات التقادم والاستهلاك التي لم يشر إليها أحد في العالم، ولا حتى في المجتمع الأمريكي، وربط الكاتب الروسي بين فوز ترامب وبين الدور المهم الذي لعبته الملايين الهادئة والمتربّصة من «كادحي أمريكا»، الذين يطلق عليهم أحيانا في الولايات المتحدة تسمية مهينة أصحاب «الرقاب الحمراء»، وهذا يعني أنّ ترامب جاء ليغيّر قواعد اللّعبة التي لا يمكن أن تستمر وفق القوانين القديمة.