ما يسمّى بالرّبيع العربي أسقط أنظمة حكمت لعقود طويلة من الزّمن، بن علي، مبارك، القذافي وبدرجة أقل علي عبد الله صالح، لكنه لم ينل غرضه في سوريا لاعتبارات أملتها التّوازنات المبحوث عنها.
التّغيير الذي كان الشّارع يطالب به تحقّق إلاّ أنّ الاستقرار غائب إلى يومنا هذا، الذين أشعلوا فتيل هذه “الثّورات” احتاروا كيف يقلّلوا من وهج جذوتها، لا لشيء سوى لأنّهم لم يتوقّعوا خروجها عن حساباتهم بعد أن ازداد عنفوانها وتحوّلت إلى مشهد آخر مثلما يحدث اليوم في ليبيا.
تونس سجّلت إجماعا في الذّاكرة الجماعية على شاكلة “العقد الاجتماعي” تمّ بموجبه الاتّفاق على إعطاء الأولوية لقناعة الحفاظ على الوطن، وهذا ما يحدث حاليا عن طريق آلية الانتخابات وكل من أتى به الصّندوق مرحّب به.
هذا السّلوك الحضاري اقتنعت به حركة النّهضة التي فضّلت دخول اللّعبة، وترك قرار الفصل للشّعب في اختيار من يمثّله في مؤسّّسات البلاد حديثة النّشأة، وهذا لترسيخ خيارا سياسيا أراده الجميع من أجل تونس، وهذه قناعة عميقة لدى كل التّونسيّين في بناء هياكل جديدة، والالتزام القوي بترك كل الممارسات المخالفة لمبادئ العمل السّلمي.
وكان دائما الانتقال من حالة سياسة معيّنة إلى أخرى قاسية جدّا، تترك آثارها على البلد، مصر تعمل حاليا على ترقية الأداء السياسي والاقتصادي بالرّغم ما خلّفته “الثورة” التي أطاحت بمبارك، وهناك إرادة قوية في الوقت الرّاهن من أجل الانتقال بالبلد إلى آفاق واعدة، وتدرك القيادة المصرية أنّ التحدّيات الإقتصادية جديرة بأن توضع على رأس الأولويات، منها تحسين المؤشّرات التّنموية وبعث مشاريع جديدة، والتّكفل بالانشغالات الأساسية للمواطنين. وبالتّوازي مع هذه المقاربة، فإنّ هناك رزنامة لتطبيع الحياة السياسية مع ملاحقة الارهاب الهمجي.
والمفارقة هو ما يجري في ليبيا، الكل يبحث عن الشّرعية المفقودة بوسائل حربية، هذا ما أدّى إلى كل هذا الخراب وتعطيل أي مبادرة سياسية في الأفق. وكل محاولة للخروج من هذا المأزق إلاّ وتقابل بمواقف متصلّبة من البعض، وما يزيد في الطّين بلّة كل هذا التّشكيك في المؤسّسات المنتخبة، والجميع أمام أزمة الشّرعية، والكلمة في الميدان، الميليشيات من جهة والقوات النّظامية من جهة أخرى لحسم الموقف. وما تزال الأمور على نحو “كرّ وفرّ” في شوارع طرابلس وبن غازي، وغيرها من المدن اللّيبية لتغليب شرعية على شرعية أخرى. والكثير يعتبر أنّ الحل في ليبيا ليس غدا، بحكم تعقّد الوضعية وبلوغها درجة لا تطاق من انعدام الرّؤية الواضحة.
ويوميا تسمع أصوات التّعقل والحكمة الدّاعية إلى الكفّ عن هذا الاقتتال، ودعوة جميع الأطراف المعنية إلى الجلوس لطاولة الحوار سواء عن طريق الأمم المتحدة أو الجزائر التي تعمل جاهدة من أجل استقرار هذا البلد.
وأغرب ما يحدث في الملف اللّيبي، هو هذا التخلي للدول الغربية عن هذا البلد، بمجرّد أن تمّ الإطاحة بالقذافي اعتقد الجميع بأنّ الأوضاع ستسير في الاتجاه المرسوم، إلاّ أنّه مع مرور الوقت فُرِض منطق الميليشيات التي أرادت أن تقيم مؤسسات موالية لها باسم الشّرعية الثّورية، رافضة الانضمام لأي مسعى صادر عن النّداءات الخيرة الرّاغبة في إنهاء هذا الوضع.
هذه الدول التي كانت وراء سقوط القذافي لا أثر لها اليوم ماعدا ما يرد في بياناتها، تاركة بلد بأكمله يتخبّط في مشاكل أمنية خطيرة جدّا.
أين تلك الدّول التي أشعلت البلد ثم انسحبت وأصبحت من الأطراف الملاحظة؟ وهي التي تدخّلت بكل ترسانتها العسكرية آنذاك تطالب من بعيد بالحوار بعد أن استعصى عليها الحل، وتعمل بالمناولة السياسية وتتحمّل المسؤولية كل المسؤولية فيما تشهده المنطقة من تهريب للأسلحة والسّعي لزعزعة الاستقرار. وأمام هذه الوضع فمن حق الجزائر ومصر وتونس العمل جنبا إلى جنب من أجل التحكم في هذا الوضع، ومنع أي تطورات أخرى عن طريق تنسيق محكم على أكثر من صعيد.
في سوريا تداخلت عناصر الأحداث هناك بين كل الفاعلين على السّاحة العسكرية، وفي كل مرة تظهر عوامل جديدة في الميدان تنسخ الأخرى، بالأمس كان الحديث عن الجيش الحر، اليوم هناك داعش وجبهة النصرة، وليس هناك حل في الأفق ما عدا تسيير الوضع كما هو، لا غالب ولا مغلوب، وستكون مهمّة دي ميستورا معقّدة جدا، وهذا في غياب حد أدنى من الأطراف المتصارعة على الاستماع إليه إلاّ السّلطة القائمة التي استقبلته قصد الاستماع إلى اقتراحاته المزمع عرضها. وبالرغم من صعوبة المهمة إلاّ أنّ الكلمة اليوم للميدان، الذي يشهد معارك طاحنة في مناطق كل طرف يريد أخذها لإملاء شروطه على الآخر، والإزدواجية المدهشة فيما يجري أنّ الأحداث الضّارية نقلت إلى كوباني لعدة أيام مباشرة استؤنفت في مناطق اعتادت على نشوب معارك بها.
وقد اقيمت الدنيا ولم تقعد على عين العرب، الكل شدّ انتباهه إلى تلك النّقطة في حين كانت داعش تحضّر وتجهّز نفسها في جهات استراتيجية أخرى، وفي كل مرة هذا التّحالف يقصف مواقع معينة، لكن هذا التّنظيم يعتبر نفسه رقما في معادلة المنطقة.
ولا توجد أي بوادر سياسية في الأفق لحل هذا الإشكال، فقرار الحكومة السّورية هو استرجاع أراضيها الموجودة تحت سيطرة تلك التّنظيمات والقضاء على المسلّحين، وهذه قضية وجود بالنّسبة لسوريا.
هذا المشهد السياسي والأمني العربي يتابع عن كثب من كل المستويات، حرصا على عدم تسجيل المزيد من التّصعيد. وفي هذا الشّأن فإنّ المؤسّسات العربية كالجامعة وهيئات أخرى مدعوة إلى التحرك بقوة رفقة المبعوثين الأمميين من أجل إبداء رأيهم تجاه تلك الأحداث، وتقديم المساعدة اللاّزمة التي تحلّ هذه الإشكالات، خاصة ما تعلّق بالجوانب الإنسانية التي بلغت درجة مؤثّرة جدّا، أعداد كبيرة من الأشخاص يقدّرون بالآلاف فرّوا من ويلات النّزاعات المسلّحة، وفي هذا المقام يجب أن يتم التّكفل بهم مهما كان الأمر، وبالتّوازي مع ذلك البحث على المخارج السياسية لهذه الأزمات الحادّة.