لا شيء يبشّر بنهاية وشيكة للحرب في ليبيا، أيدي الأطراف المتناحرة لا ترتفع أبدا عن الزناد منذ أزيد من سنة في معارك دامية للسيطرة ومحاولة فرض الأمر الواقع.. لحد الآن، لا أحد بإمكانه فرض منطقه المطلق في هذا البلد النفطي، وأن القوى الأجنبية لا تريد له أن يستقر.
الحالة الليبية باتت مثيرة للريبة أكثر من أي وقت مضى، إذ يبدو التوجّه سريعا نحو «صوملة» ما تبقى من هذه الدولة وتفكيكها، أكثر شيء يتفق عليه لاعبو الداخل والخارج ممن تصلبت مواقفهم بشكل غير مسبوق.
الغريب فعلا، أن تفشل المجموعة الدولية، بقيادة منظمة الأمم المتحدة وانخراط كبار البلدان المسيطرة على مجلس الأمن الدولي، المرة تلو الأخرى، في إقرار مجرد «هدنة» لأسابيع معدودة، رغم عشرات اللقاءات والاتفاقات.
يبدو أنه لا توجد دولة واحدة من كبار العالم، تكترث لسمعتها وسمعة المنظمة الأممية، وهي تشاهد يوميا مليشيات تتقاتل في معارك كرّ وفرّ في الشوارع، دون أن تحرك ساكنا، بل إن سكوتها وتهاونها في الضغط بقوة على كل الفرق المتداخلة لأجل إحلال السلام، مثير للشكوك بشأن نواياها الحقيقية.
لقد كان مؤتمر برلين، المنعقد في العاصمة الألمانية في 19 جانفي الماضي، أهم اجتماع دولي حول ليبيا في السنتين الأخيرتين، واستطاعت الاجتماعات التحضيرية المكثفة والجادة التي انطلقت، شهر سبتمبر من العام الماضي، أن تعطي بصيص أمل بأن المجموعة الدولية بصدد القيام بأهم «جهد على الإطلاق» لحل الأزمة الليبية، لكن النتيجة على الأرض جاءت مخيبة جدا.
ولا يعقل أن تتنصّل أغلب الأطراف المؤثرة والمتدخلة بشكل مباشر في الشأن الداخلي الليبي، مما التزمت به في برلين بعد أيام قليلة من الاجتماع بهذه السهولة، إنها تظهر استهتارا كبيرا بحياة الليبيين، ولا تأبه أبدا لوحدة البلاد ولا لتطلعات مواطنيها وحقهم في الحياة والسلام.
لقد نصّ لقاء برلين، على تطوير الهدنة إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار، والالتزام بقرار حظر توريد الأسلحة الصادر عن مجلس الأمن الدولي سنة 2011، لكن العكس هو الذي حدث، حيث انهارت الهدنة وأرسلت أزيد من 3000 طن من الأسلحة إلى الجماعات المتقاتلة فيما بينها، ولم تمنعها لا الالتزامات المبدئية أو الموقعة ولا الأزمة الصحية الناجمة عن فيروس كورونا ولا شهر رمضان.
ومن كل الخطط المطروحة لتسوية الأزمة الليبية، تبدو خطة الفوضى وحرب العصابات، هي الوحيدة التي تحقق الانتصارات المتتالية، فكلما لاح أمل طفيف بشأن استئناف المسار السياسي ينسف كل شيء فجأة.
ومن الواضح، أن المعركة الكبرى في ليبيا أخذت أبعادا متعددة، فهي لم تعد تختص بتحديد من سيحكم البلد الغني بالنفط والتحكم في ثرواته، وإنما بمقارعة الدول لبعضها البعض على الأرض الليبية، باعتبارها ساحة لتجريب أحدث الصناعات الحربية واختبار مؤشرات النفوذ.
فقد وصل الأمر في الأسابيع الأخيرة، ببعض الأنظمة التي تتاجر بدماء الليبيين، إلى الضغط من أجل عدم تعيين الدبلوماسي الجزائري رمطان لعمامرة مبعوثا أمميا إلى ليبيا خلفا لغسان سلامة المستقيل، وإذكاء الفتنة بين الأطراف الليبية المتناحرة، لاعتقادها بأنها عندما تفعل ذلك فإنها ستقطع الطريق أمام عودة الجزائر إلى الساحة الدولية والتأثير في محيطها الإقليمي.
هذه القراءة السطحية للمبادرات الصادقة الهادفة إلى حقن دماء الليبيين، تكشف حجم الخطر الذي يتهدد ليبيا، وكيف تحوّل النفوذ من ممارسة دبلوماسية لها قواعد ومبادئ، إلى هوس مرضي مشبع بالحماقات، من أجل تمرير أجندات تخريبية ولو على حساب الوحدة الترابية والوطنية للبلاد.
والأخطر، أن رعاة الفوضى والدمار، لا يرون في فشل فرض سياسة الأمر الواقع والانفراد بالوضع، دافعا كافيا للاعتراف بضرورة الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى حل يحقن دماء الليبيين، بل يعتبرون كل خطوة إلى الوراء مدعاة لمزيد من التصلب وضخ أطنان أخرى من الأسلحة، وبناء الحصون العسكرية في كل منطقة ومدينة وتأجيج الأحقاد وتمزيق الجسد الواحد للدولة.
الوضع المعقد الذي تعيشه ليبيا، جراء هذه التدخلات الأجنبية المدمرة، يجعل من تصور حل للأزمة أمرا في غاية الصعوبة، لأن قوة التأثير الخارجي تبدو أكبر بكثير من الجهود الداخلية الصادقة النية، فلو ترك الأمر لليبيين أنفسهم لسوّيت الأزمة منذ سنوات.