الدكتور طارق رداف لـ«الشعب»:

المنظمات الدولية غير الحكومية.. استقلالية موضع شكّ

أجرت الحوار : إيمان كافي

 

لطالما استوقفتنا البيانات والتقارير التي تصدرها المنظمات غير الحكومية التي تنتقد هذه الدولة أو تلك، وكانت التساؤلات تفرض نفسها عن ماهية دورها وحقيقة استقلاليتها، وهل ما تقوم به هو نشاط مشروع أم تدخّل سافر في شؤون الدول بإيعاز من قوى كبرى.
«الشعب» حاورت الدكتور طارق رداف أستاذ العلوم السياسية بجامعة العربي بن مهيدي بأم البواقي لمحاولة الاجابة على كل هذه التساؤلات المشروعة التي تشغل بال القارئ الكريم.



« الشعب»كثيرا ما تتدخل المنظمات غير الحكومية في شؤون الدول الداخلية لتصدر بيانات تنديد وشجب ضد هذا النظام وذاك باسم الدفاع عن حقوق الإنسان، ما تعريفكم لهذه المنظمات، هل هي فعلا مستقلة، ما مصداقية بياناتها وأي تأثير لها على أرض الواقع؟

الدكتور طارق رداف: تعتبر المنظمات الدولية غير الحكومية كيانات دولية، لكنها لا تتشكل من طرف الدول أو أي من المؤسسات الحكومية، بل على الأصح تتشكل من فاعلين غير رسميين كالأفراد أو المؤسسات الوطنية غير الحكومية، من جنسيات مختلفة، وتتأسس من حيث المبدأ لتحقيق أهداف وغايات غير مادية أو على وجه الدقة لتحقيق أهداف غير ربحية.
 ظهرت هذه المنظمات بشكل واضح خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأهم الأمثلة على ذلك منظمة الصليب الأحمر، ثم تزايد عددها خلال القرن الـ20 لتصل إلى ما يزيد عن 2000 منظمة.
يتأسس تأثير هذه المنظمات على الطابع الاستشاري، الممنوح لعلاقتها بالمنظمات الدولية الفاعلة، على رأسها منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، فعلى سبيل المثال يمنح ميثاق الأمم المتحدة (المادة 71 تحديدا) المجلس الاجتماعي والاقتصادي التابع للمنظمة الدولية صلاحية استشارة المنظمات غير الحكومية في مختلف المجالات التي تدخل ضمن نطاق صلاحياته، ونفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة لمجلس حقوق الإنسان، حيث يُمكن للمنظمات غير الحكومية الناشطة في هذا المجال، أن تشارك في أعمال المجلس وفق كيفيات محدّدة، لتقدم مداخلات أو تقارير وكذلك تشارك في النقاشات حول وضعية حقوق الإنسان في دولة ما.
تتمتع هذه المنظمات رسمياً بالاستقلالية سواءً عن الدول أو غيرها من الأطراف، لكونها لا تضمّ في عضويتها لا الدول ولا أية مؤسسات حكومية، غير أن التساؤل عادة ما يُطرح حول مدى الاستقلالية التي تتمتع بها من الناحية العملية، وذلك نتيجة لطبيعة الأنشطة التي تمارسها، وكذلك القضايا التي تطرحها في بياناتها، حيث تشير الكثير من القراءات لأنشطة المنظمات غير الحكومية، أن هذه الأخيرة عادة ما تخضع لتوجيهات مباشرة أو غير مباشرة، سواء تعلق الأمر بالمتبرعين، أو حتى بعض الأجهزة الحكومية التي تضغط على هذه المنظمات أو تقوم حتى باختراقها استخباراتيا، وهو ما يضع استقلالية هذه المنظمات موضع شكّ.

- في الغالب هذه المنظمات تتحامل على دول دون أخرى، ألا يعني بأنها مجرد وسائل ضغط في يد من يستغلها لتحقيق أهداف معينة؟
-- يظهر ذلك بشكل خاص في مجال حقوق الإنسان، لأنه يشكل «حصان طروادة» لدول معينة من أجل التأثير على مواقف وسياسات دول أخرى، حيث يتميز هذا المجال بحساسيته الشديدة، وفعاليته في جمع تأييد دولي من أجل إدانة دول بعينها، من أجل الضغط عليها. لهذا نجد أن المنظمات الدولية غير الحكومية، التي تنشط في مجالات البيئة والتنمية المستدامة على سبيل المثال، لا تحظى بنفس المساحة التي تحظى بها منظمات حقوق الإنسان مثلاً، بل أن المنظمات الفاعلة في مجالات البيئة أو الصحة مثلا، تعاني من التضييق أو التهميش في أحسن الحالات. لذلك فإن الانتقائية لا تنحصر في الدول التي تتعامل معها المنظمات الدولية غير الحكومية، بل كذلك في القضايا التي تطرحها هذه المنظمات. فإثارة مواضيع مثل البيئة والتنمية المستدامة، أو الرعاية الصحية وتسهيل الحصول على الأدوية.. إلخ، هي مواضيع تتعارض مع مصالح الدول أو الشركات الكبرى، وبالتالي فإن المساحة التي تحصل عليها في الإعلام الدولي، أو ضمن نقاشات المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، لا يُمكن مقارنتها بتلك التي تحصل عليها مسائل حقوق الإنسان، سواءً أكانت قضايا حقيقية أو مفتعلة.
 
- ما هو مصدر تمويل هذه المنظمات؟
مصادر التمويل تتشكل أساساً من مصدرين أساسيين، يكون الأول ذاتي أو داخلي، من خلال الاشتراكات والمساهمات الواردة من أعضاء هذه المنظمات، وهي مساهمات لا تكفي عادةً لتغطية أنشطة هذه المنظمات، أما المصدر الثاني فهو التبرعات والمنح الخارجية، و هو الأكثر أهمية لأنه عادة ما يكون أكبر من حيث الحجم من جهة، ومن جهة ثانية فهو أساس تحليل حيادية ومصداقية التقارير والبيانات التي تصدرها هذه المنظمات، خاصةً في مجالات حقوق الإنسان. وعليه فإن المانحين والمتبرعين عادةً ما يؤثرون في أجندة هذه المنظمات وتوجيه أنشطتها نحو التركيز على قضايا محددة في دول بذاتها دون غيرها.
 
- كيف تتعامل الدول مع بيانات هذه المنظمات هل تكتفي بالصمت واللامبالاة أم تلجأ إلى أشكال رد معينة؟
-- تتضمن الإجابة على هذا السؤال شقين أساسيين، يتعلق الأول بالبيانات والتقارير التي تتم في إطار المنظمات الدولية، والحالة الأكثر وضوحاً هي مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. حيث تكون الدول مطالبة بالرد على هذه البيانات، والتي تدخل ضمن نطاق عمل المجلس، من أجل توضيح وضعية حقوق الإنسان فيها، وبالتالي تجنب استخدام هذه البيانات من أجل الضغط عليها. أما الشقّ الثاني وهو الأكثر أهمية لأنه يتجاوز الطابع الإجرائي إلى الطابع السياسي، حيث تواجه الدول خيارات متعدّدة، فمنها من يكتفي بالصمت وعدم الرد على هذه البيانات، أو الاكتفاء بتكذيب محتواها على الأكثر. بينما تحاول دول أخرى القيام بحملات للعلاقات العامة، من خلال ممارسة نشاط دبلوماسي رسمي وغير رسمي، سواءً لدى الدول أو المنظمات الدولية، من أجل تسويق صورة مغايرة لتلك التي تتضمنها تقارير المنظمات غير الحكومية، في حين تقوم دول أخرى بهجومات معاكسة، من خلال استغلال وسائل ضغط مختلفة اقتصادية أو سياسية أ و استغلال نقاط قوة في المجالات الأمنية. وعلى اختلاف هذه الأساليب فهي تخضع بالأساس للوضع العام الذي يميز الدول المعنية، ومدى قدرتها على التأثير في سياسات الدول الأخرى ومواقفها.

- هل لبيانات هذه المنظمات تأثير على قرارات الدول مثلا في فرض العقوبات أو التدخل العسكري؟
-- كثيرا ما تستعمل قضايا حقوق الإنسان والفساد الإداري والمالي وغيرها من القضايا، كوسيلة للضغط ضمن العلاقات الدولية، تستعملها الدول والقوى الكبرى كإحدى وسائل تنفيذ سياساتها الخارجية، فبناءً على تقارير المنظمات الدولية غير الحكومية، حول مسائل حقوق الإنسان، أو الشفافية والحكم الراشد، أو الفساد السياسي والإداري، عادة ما تقرّر الدول الكبرى فرض عقوبات فردية أو جماعية على الدول المعنية، غير أنه تجدر الملاحظة بأنه ـ حسب رأيي الخاص أن الدول لا تتحرك بناءً على تقارير تلك المنظمات، بل عادة ما تستعمل هذه الأخيرة في إطار الحملة التي عادة ما تسبق توقيع العقوبات أو التدخّل العسكري، فالحملة التي تعرضت لها الجزائر خلال العشرية السوداء من طرف دول محددة، بهدف التدخل في شأنها الداخلي، اعتمدت أساساً على تقارير لمنظمة العفو الدولية وكذلك منظمة هيومن رايتس واتش، وهو ما يعيدنا إلى موضوع الدور الحقيقي للكثير من هذه المنظمات، وضمن أية أجندة تمارس هذا الدور.
 
-هل بإمكانكم ذكر المنظمات غير الحكومية الأكثر تأثيرا على الساحة الدولية؟
-- يُمكن ذكر نموذجين أساسيين عن هذه المنظمات، يتمثل الأول في منظمة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والتي تأسست لأغراض إنسانية تمحورت حول تخفيف المعاناة الإنسانية الناتجة عن الحروب، ويلاحظ تواجد هذه المنظمة في مختلف مناطق النزاع والكوارث الطبيعية، في حين لا نلاحظ توافر درجة عالية من تسييس أنشطة المنظمة أو محاولات استعمالها للضغط على الحكومات والدول. بينما يتمثل النموذج الثاني من مختلف منظمات حقوق الإنسان، والتي تنشط من حيث الإعلان الرسمي في مجال حماية هذه الحقوق وزيادة الوعي بها. غير أنها وعلى العكس من منظمة الصليب الأحمر، عادة ما تُستعمل أنشطة وتقارير هذه المنظمات ضمن الحملات الإعلامية والدبلوماسية، من أجل الضغط على الدول. سواءً أكان ذلك بهدف تحسين وضعية حقوق الإنسان فيها، أو استعمالها كذريعة للتدخل وتغيير مواقف دولية معينة، أو من أجل الابتزاز الاقتصادي. ولا يمكن الجزم حول ما إذا كانت منظمات حقوق الإنسان تمارس هذا الدور بوعي وإرادة مسبقة، أم أن ذلك يتم من غير تخطيط مسبق.

- كلمة أخيرة.
-- لا يجب أن يُفهم من ما طرح سابقاً أن هذه التصورات تنطبق بالمطلق على مختلف المنظمات الدولية غير الحكومية، فبعض هذه المنظمات يناضل باستمرار من أجل خدمة الكثير من القضايا العادلة، مثل حماية البيئة ودمقرطة العلاج، أو حتى التخفيف من المعاناة الإنسانية أثناء النزاعات المسلحة أو الكوارث الطبيعية. غير أنه من الضروري الانتباه إلى الدور الآخر الذي يمكن أن تمارسه هذه المنظمات غير الحكومية، من خلال ارتباطها الواعي أو غير الواعي بالأجندات الدولية. فهذه المنظمات يمكنها أن تكون وسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، سواءً أتم ذلك بوعي وإدراك منها أو لا، ويمكن اللجوء في هذا الصدد إلى الكثير من الدراسات الأكاديمية، التي تشير إلى الانحراف الذي قد يتعرض له نشاط هذه المنظمات، أو الآثار السلبية المترتبة عنه.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024