التفاؤل السياسي غير المسبوق الذي أبداه غير بدرسون تجاه جولة المفاوضات الثنائية بين وفدي الحكومة السورية وفريق المعارضة بجنيف تبخّر في وقت قياسي فاجأ المبعوث الأممي وأفقده تركيزه في إدارة الأشغال بشكل سلس عبّر عنه خلال لقاء إعلامي في بداية الشهر المنصرم قصد التوصل إلى حد أدنى من التوافقات المأمولة في مثل هذه الحالات الاستثنائية، عندما يتعلّق الأمر بملفات معقّدة من ناحية البحث عن آليات إجماع للتسوية المقبولة مبدئيا تكون المرجعية الأولية لانطلاقة نحو مواعيد أخرى.
هكذا حاول بدرسون أن يكون حياديا ولا ينحاز إلى أي جهة بالرغم من الضغوطات الممارسة عليه تفاديا لوقوعه في أخطاء سابقيه الذين فضّلوا الانضمام إلى ذلك الخليط من الموزاييك للمعارضة، مما أفقدهم تلك المصداقية في المهمة المكلفين بها.. وكان قمة هذا الموقف خلال عهدة سقاندي ميستورا الذي أراد احداث تغيير في معادلة النزاع بزحزحة التصنيف المنطقي المتعارف عليه بمنح الصدارة للمعارضة في صناعة مسارات الحل، هذا ما كلّفه منصبه وتركه للآخر الأكثر انصافا.
ولابد من الاشارة هنا الى أن بدرسون استلم مهمه في ظروف صعبة جدا كان الصراع على أشده في نقاط معينة من القطر السوري، خاصة في المدن الاستراتيجية التي كانت بيد المعارضة المسلحة ثم استرجعت من طرف الجيش السوري والعناصر الرديفة من حزب الله وتغطيات أخرى وبالرغم من هذا الوضع، فإن المبعوث الأممي سعى جاهدا من أجل التعامل مع اللائحة 2254 ومما شجعه على المضي قدما في هذا النهج الأطراف المعينة مباشرة بما يجري في الميدان منها بالأخص روسيا.
وإن تمّ حسم «المعركة العسكرية» وإجلاء المسلحين إلى نقاط أخرى وإخلاء المدن التي كانت بحوزتهم فإن «المسار السياسي» بقي معلقا إلى إشعار آخر ومؤجل الى موعد غير مسمى وهكذا سارع من خسروا أوراق الميدان وتداعيات الحسابات الجيو ـ استراتيجية إلى الإكثار من دعواتهم لاستئناف التسوية السياسية من خلال تعيين مبعوث جديد يخلف دي مستورا.. وكان لهم ماأرادوا لكن في سياق مختلف عن سابقيه من ناحية التوزانات في المفاوضات المقبلة.
ومن تبعات هذا التوجّه الشائك ما شهدته الجولة الأخيرة من المفاوضات التي مع بدايتها توقفت وذهب كل طرف إلى حاله وهكذا عاد الجميع إلى المربّع الأول في انتظار المعجزة.. فما هي القراءة المستخلصة مما جري يوم 25 نوفمبر المنصرم؟ لأول وهلة يتضح بأن هناك ورقتين الأولى دستورية الصادرة عن المعارضة والثانية سياسية جاء بها وفد الحكومة السورية وبناء على هذا التناقض في الطرح افترق الجميع الى مقر إقامتهم بجنيف آملين في موعد آخر لا نعتقد بأنه سيكون في أقرب وقت على ضوء ما حصل في الجلسة التي ترأسها بدرسون، أحمد الكزبري وهادي البحرة.
ما وقع هو أن الوفد الحكومي أراد أن يفرض مسارا تفاوضيا خارج نطاق الاطار الدستوري المحدّد سلفا على أن تكون النقاط المقترحة في جدول الأعمال بعنوان ركائز وطنية تهم الشعب السوري، وهذا ما اعتبرته المعارضة تسيسا صريحا لهذا المسعى، لا يتماشى مع المنهجية المقررة من قبل المبعوث الأممي القاضية باحترام ما تم الاتفاق سلفا بخصوص قواعد العمل خلال النقاشات الثنائية.
وأمام هذه الوضعية غير المنتظرة وجد بدرسون نفسه محاصرا بمواقف متشدّدة تجاه منطلقات المفاوضات على أن تكون قائمة على مبادئ تراها الحكومة السورية لا مفر منها وحتمية لا تنازل عنها وجزء لا تتجزأ من المنظومة الشاملة للأحداث الجارية بالمنطقة ويتلعق الأمر بمكافحة الارهاب، ورفع العقوبات وإدانة تركيا.. الى جانب ما يسمي بالثوابت الوطنية.
هذه «الإملاءات» السياسية رفضتها المعارضة وقدّرتها بأنها خارجة عن نطاق التوجهات الدستورية العامة وأمام اصرار الوفد الحكومي على تلقي الاجابة عما اقترحه غادر الجميع القاعة دون الاتفاق على أي نقطة بالرغم من المساعي الحميدة التي بذلها المبعوث الأممي إلا أن دار لقمان بقيت على حالها.
وما اقترحته المعارضة هو حزمة من الآليات مقدمة ومبادئ الدستور الأساسية، الا أن هذه المحاولة توقفت عند بدايتها ولم تتجاوز النقاش الحاد حول جدول الأعمال الذي انتهى بإلغاء كل شيء وهكذا يتضح بأن القيادة السورية ترفض رفضا قاطعا صياغة دستور خارج البلد مضمونه لا يتماشى مع مقتضيات سوريا الحاضر والمستقبل، خاصة ما تعلق بالرئاسة، السلطات الـ3، المؤسسات والانتخابات وغيرها.