يشهد الوضع الأمني بدولة مالي تصعيدا خطيرا، حيث ضاعفت التنظيمات الإرهابية من هجماتها الدموية التي تحصد في كلّ مرة عشرات الضحايا الأبرياء من قوات الجيش ومن المدنيين على حدّ سواء. مقابل هذا الانحدار الأمني، تعرف عملية تطبيق اتفاق السلم والمصالحة الموّقع قبل أربع سنوات بوساطة الجزائر بعض التعثّر والتأخر، الأمر الذي يطرح علامات استفهام كثيرة عن مستقبل العملية السلمية بهذه الدولة التي تسعى جاهدة للتحرّك على عدة جبهات لمواجهة الدمويين من جهة، والعنف العرقي المتنامي، وتحقيق التنمية من جهة ثانية.
للوقوف عند التحديات التي تواجهها دولة مالي، حاورت «الشعب» الدكتور إلياس قسايسية أستاذ العلوم السياسية بجامعة لونيسي علي بالبليدة.
«الشعب»: تشهد دولة مالي تصعيدا إرهابيا، حيث استهدفت تفجيرات عدة الجيش وخلّفت عشرات الضحايا، ما تعليقكم على هذا التصعيد الدموي الذي أثار سخط الماليين وأخرجهم للشوارع لمطالبة السلطة بتوفير الأمن؟
د . إلياس قسايسية: إن التصعيد الإرهابي الذي تشهده دولة مالي لا يخرج عن نطاق سيطرة التنظيمات الإرهابية على مناطق مختلفة من شمال ووسط البلاد، حيث إن تنظيم القاعدة ببلاد المغرب لا يزال التنظيم الأكثر تأثيرا على الساحة الأمنية المالية، وبعد الهجمات الأخيرة التي أدت لمقتل 53 عسكريا ماليا، زادت حالة الخوف والإرباك لدى الشعب الذي خرج في مسيرات تطالب الحكومة باتخاذ التدابير اللازمة لتوفير الأمن، وتحقيق الاستقرار، إن حالة السخط تعبّر بوضوح عن فشل الحكومة المالية في توفير الأمن من جهة، وتعبّر من جهة أخرى على عدم إيجاد حلول عميقة للظاهرة الإرهابية في مالي، والتي بدورها تتغذى من حالة التهميش والإقصاء الذي يعاني منها طيف واسع في المجتمع المالي، ناهيك عن ضعف مستويات التنمية وتردي الأوضاع الاقتصادية.
- الانحدار الأمني هذا يتزامن وتعثر تطبيق اتفاق السلم والمصالحة الموقّع بوساطة الجزائر في 2015، ما أسباب تأخر تنفيذ هذا الاتفاق وهل من سبيل لتجاوز العقبات التي تعترضه؟
إن اتفاق السلام الذي تمّ توقيعه بين الأطراف المالية المختلفة، لم يتمّ تجسيده فعليا على أرض الواقع، وذلك لأن الأزمة المالية متجذرة ومتشعّبة إذ ظلّ الوضع عصيا على الإصلاح منذ تفجر الأزمة، وذلك لأن الأزمة ذات أبعاد سياسية وعرقية - إثنية، اقتصادية - تنموية، كما أن كثرة أطراف الأزمة والفاعلين فيها صعّب مسألة ترضية الكل، أضف إلى ذلك أن التنظيمات الإرهابية المسيطر الفعلي على مناطق شاسعة من وسط وجنوب البلاد لم يتمّ القضاء عليها، ولذلك ظلّ الوضع الأمني متردّيا في البلاد. فضلا على كثير من الحركات المطلبية تدفع بطريقة أو بأخرى نحو تأخير الحل.
- تزايد النشاط الإرهابي رافقه انزلاق عرقي، حيث شهدت عدة مناطق بمالي مواجهات عرقية خلفت الكثير من الضحايا، برأيكم كيف يمكن للسلطة في باماكو مواجهة ثنائية الإرهاب والتصعيد العرقي؟
إن أزمة مالي تعقّدت بدخول التنظيمات الإرهابية على خطّ المواجهات العرقية الإثنية، وهو ما سيؤخر أي حل في الأفق ويجعل من استدامة الحل أمرا مستحيلا.
في الحقيقة إن التحريات الأمنية التي أجرتها عدد من الدول، أثبتت أن العلاقات التي تمّ نسجها بين زعماء القبائل المختلفة ومختلف التنظيمات الناشطة في المنطقة أكبر من مسألة ولاء وحماية، إنها مسألة موارد حيث أكدت هذه التحريات أن هناك علاقة ثلاثية الأبعاد تجمع بين زعماء قبائل والتنظيمات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة، وهذا التداخل مشكلة يصعّب كسرها والتعامل معها، إلا من خلال إيجاد حلول عميقة للتنمية في هذه المناطق، وكذلك التوزيع العادل للثروات.
- دولة مالي ومنطقة الساحل عموما كانت ميدانا لتنظيم القاعدة الإرهابي منذ سنوات، اليوم نجد أن تنظيم داعش الدموي وضع أقدامه في هذه المنطقة الساخنة وهو يتبّنى العمليات الإرهابية التي تقع بها، ما قراءتكم لخريطة الإرهاب بالساحل وبمالي على وجه الخصوص؟
في الحقيقة إن تواجد تنظيم داعش الإرهابي بمنطقة الساحل الإفريقي جاء نتاج إعلان تنظيمات ناشطة في المنطقة ولاءها للبغدادي، وهو نفس ما حدث مع الجماعة الإسلامية المسلحة التي أعلنت ولاءها للقاعدة الإرهابية وأصبحت تسمى بتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي سنة 2007، ومنه فخريطة التنظيمات الإرهابية لم تتغير، ما تغير هو مرجعيتها وولاءها. وتبقى أبرز التنظيمات الدموية الناشطة في مالي والساحل عموما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
- ألا تعتقدون بأن الأزمة في ليبيا انعكست سلبا على الوضع بالساحل من خلال انتشار السلاح وتنقل الإرهابيين، فكيف يمكن مواجهة التحدي الأمني الذي تفرضه؟
إن تجدّد الصراع في مالي كان نتاجا للأزمة الليبية، إذ أن نظام معمر القذافي عند بداية الأزمة استعان بمقاتلين ماليين ضمن مليشيات عسكرية تحت قيادة نجله خميس القذافي، وبعد مقتل القذافي وتفكّك جيشه، رجع المقاتلون الماليون الى بلدهم محملين بترسانة من الأسلحة، ووجد هؤلاء المقاتلين أنفسهم وجها لوجه مع الجيش المالي الذي طلب من الرئيس امادوتومانوتوري نزع سلاحهم، وهو ما أدى بهم كمحصلة لإشعال الحرب في المنطقة وإعلان استقلال أقاليم تمبكتووغاووكيدال عن الحكومة المركزية ببماكو، ليتحوّل الوضع بعد ذلك إلى أشبه بأفغانستان بعد دخول التنظيمات الإرهابية على خط الاقتتال القائم، واستفادتها من السلاح المهرب من المخازن الليبية، إذ أشارت بعض التقارير التي أصدرتها «الصنداي تايمز» البريطانية عن مخابرات بلادها أن ما يفوق 45 مليون قطعة سلاح تمّ تهريبها من مخازن الجيش الليبي وجدت طريقها نحو14 دولة إفريقية، نالت منها التنظيمات الانفصالية والإرهابية في مالي والنيجر حصة الأسد.
ولذلك، فالحل بمنطقة الساحل الإفريقي أصبح رهن تحسن الأوضاع في ليبيا ووقف النزيف الذي تشهده مخازن السلاح التي تغذي صراعات منطقة الساحل الإفريقي، وهذا لن يتأتى إلا من خلال رغبة الدول في الجوار الإقليمي لليبيا، والقوى الكبرى الفاعلة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية إيجاد حل نهائي في ليبيا، وعودة الاستقرار إليها.
ولعلّ إطلاق حوار شامل بين الفرقاء الليبيين من شأنه أن يعيد الأمور إلى نصابها، ومن ثمّة يتحقق الأمن الإقليمي على أساس أن عدم الاستقرار في دولة سيمتد للدول المجاورة بحسب نظرية كرة الثلج، وهو الأمر الذي ترافع من أجله الجزائر وتدفع نحو تسوية سياسية في ليبيا ومختلف الأزمات الإقليمية.
لا سلام في مالي مع التواجد العسكري الفرنسي
- ما هي معادلة الحل السياسي والأمني في مالي وماذا عن التدخل الفرنسي هناك؟
إن أي حل سياسي للأزمة المالية لا يستوعب كل أطراف الصراع الدائر هناك لن يكون مصيره إلا الفشل، كما أن أي حل لا يكون مرفوقا بتسويات سياسية عرقية وتنموية سيكون مجرد هراء، ولكي يتحقّق السلام والأمن يجب على فرنسا سحب قواتها، لأن تواجدها العسكري يشكل مبررا لنشاط الجماعات الإرهابية، التي تكسب شرعيتها ومقبوليتها الجماهيرية من محاربة المحتل والكافر، وفق تسويقها لمبرراتها الدينية، فالتواجد الفرنسي في مالي يشكّل أكبر عقبات الحل ومحاربة الإرهاب، والحقيقة أن التدخل الفرنسي في مالي كان دوما عاملا سلبيا أمام أي تسوية تتوصل إليها أطراف النزاع.
على الجزائر أن تواصل مرافقة الماليين
- أين وصلت المرافقة الجزائرية لتحقيق الاستقرار في حديقتها الخلفية؟ وما تصوّركم لمستقبل المنطقة (الساحل) بالنظر إلى تواصل استقطاب الإرهابيين من مناطق التوتر بالشرق الأوسط؟
إن منطقة الساحل الإفريقي ليست حديقة خلفية للجزائر بل هي خاصرتها الرخوة التي تدمي أمنها واستقرارها، والتدخل الجزائري لم يأت نتاج سياسة تدخلية بقدر ما كان نتاج ضرورات فرضتها متطلبات الجغرافيا والديمغرافيا، فبحكم الجوار وهلامية الحدود، وبحكم التشابك العرقي والتداخل البشري، يجب على الجزائر أن تسعى بكل جد ومسؤولية لمرافقة الفرقاء الماليين لحل أزمتهم ومحاربة التطرف والإرهاب، وإن استلزم الأمر المساهمة قدر الإمكان في تنمية المناطق الملاصقة للشريط الحدودي للجزائر لمواجهة موجات الهجرة غير الشرعية ومختلف أنماط الجريمة المنظمة الوافدة من المنطقة.
إن مستقبل المنطقة وبالخصوص دولة مالي لا يبشّر بانفراج قريب، وسيناريو العنف والهجمات الإرهابية سيستمر لأنه كما سبق وقلنا إن الأزمة متجذرة ومتشعبة، والمخرج يتطلّب تضحيات وحلولا جذرية، لكن الحل ليس بالمستحيل إن توفرت الإرادة الفعلية للفرقاء، للعمل المشترك على محاربة الإرهاب والتطرّف بكل أشكاله.