”الرئاسيات” ماتزال مصدر تشويش بين البلدين
العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة وروسيا لا تجد لها ذلك الوصف المبدئي الذي اعتدنا على سماعه على لسان مسؤولي هذين البلدين.. وهذا ما يعني ضمنيا بأن هناك تحفظا واضحا من هذا تجاه الآخر حيال إدارته لملفات معينة أو حضوره في مواقع حسّاسة محرجة حقا، لكن لن تصدر عن أحد وإنما هناك عمل آخر.. يفهم من هذا وذاك.
اليوم لا نستطيع تصنيف مستوى العلاقات على أنها في خانة ثابتة ممتازة، جيدة، متوسطة في الحضيض، أي في الأسفل غير أنه ما يصرّح هنا وهناك، هو عبارة عن رسائل يفهمها هؤلاء فهما دقيقا.. أي ترك دائما ذلك الهامش أو الثغرة التي يتسلل منها البعض للحديث عن قضايا شائكة.
ولذلك، فإن الخطاب المستعمل حاليا لا يرقى إلى اعتبار بأن هناك تقارب في وجهات النظر إزاء كبريات المسائل المطروحة على بساط البحث.. كل ما في الأمر هي محاولات جسّ النبض وقياس درجات حرارة قبول الآخر ومدى ديمومة هذه الحالة في غضون الآفاق القادمة.
هذا التباعد في الرؤى السياسية طال أمده، ففي كل مرة يبدي البعض تفاؤله لبدايات الانسجام الأمريكي ـ الروسي في نقاط بديهية إلا ويطلق العنان لكلام التصعيد الوارد اساسا من السياسيين الأمريكيين.. هذه الدائرة المفرغة للأسف سيطرت أو بالأحرى هيمنت على الإرادات الخيرة ذات النوايا الحسنة في الارتقاء بالعلاقات بين البلدين الى أعلى درجة.
وتواصل هذا الخيار في فرض نفسه بتلك الحدّة غير المنتظرة حتّم على المتتبعين والضالعين في متابعة الملف الأمريكي ـ الروسي إلى إثارة مفهوم “الحرب الباردة” ليست على طريقة أو بصيغة ما بعد الحرب العالمية الثانية وإنما بمنظور جديد يختلف اختلافا جذريا عما سبق.. بعيدا عما يعرف بالاتحاد السوفياتي والأديولوجية الاشتراكية والكولخوز والسوفخوز والكوميكون وحلف وارسو وغيرها من المنظومة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي كانت سائدة في خضم ذلك التنافس من أجل إسقاط الآخر وكذلك بعيداعن عقيدة الأمن القومي “لدى الأمريكيين الذين رفعوها كشعار منذ عقود من الزمن وكانت السبب في كل بلاوي هذا العالم، خاصة في الشرق الأوسط، باسم سياسة خارجية مبنية على ملء الفراغ.
ليس هناك عداوة بين الأمريكيين والروس، كل ما يلخص العلاقة بينهما هو “ذهنية الخلفية التاريخية” كقطبية ثنائية سعى كل واحد منهما من أجل وضع يده على سيرورة الأحداث، بالكيفية التي يراها مناسبة، خاصة التطلع إلى الاستحواذ على المعلومة في وقتها واستغلالها لأغراض أخرى، ويدرك الروس جيدا أن الأمريكيين يسعون لاعتراض أي تقدم لتحركاتهم في هذا الشأن.
والمفارقة هنا، هو أن الروس في الطريق الصحيح بخصوص سياستهم الخارجية القائمة على نظرة واضحة وأداء سليم لم يغيروا منها قيد أنملة، بل دعّموها وعزّزوها على توجهات يرونها الأصلح مثلما هو الأمر بالنسبة لسوريا.. وبالتوازري مع ذلك فإن الأمريكيين بصدد تقييم عملهم على الصعيد الخارجي مما أدخلهم في نزاعات حادة مع أوروبا وبلدان أخرى والعالم الجوهري هنا هو المالي.. وفي هذا الاطار فإن النفقات العسكرية الأمريكية في افغانستان، العراق، باكستان، وسوريا كلفت ٥٦٠٠ مليار دولار، ناهيك عن الأرقام المذهلة الأخرى التي ما فتئ ترامب يقدمها من حين لآخر، ثم يعلن الانسحاب مباشرة من ذلك الإطار السياسي أو الاقتصادي.
المعالجة السياسية الروسية للقضايا أو بالأحرى النزاعات الدولية تختلف عن نظيرتها الأمريكية، القواعد المعمول بها في السابق قضى عليها ترامب وأخرجها عن نطاق الأعراف الدبلوماسية، خاصة في الشرق الأوسط عندما نقل سفارة بلاده الى القدس وحديث مساعديه عن صفقة القرن، وتجميد نشاط الأونروا، وإلحاق الضرر بمكتب منظمة التحرير بواشنطن.. هذا لم يكن أبدا في فترات حكم كلنتون، أوباما، وغيرهم من رؤساء أمريكا الذين تعاقبوا على البيت الأبيض وهكذا لم نستغرب من رد فعل رئيس دولة فلسطين تجاه هذه الغطرسة عندما اعتبر أن الولايات المتحدة ليست مؤهلة أن تكون شريكا حاملا للثقة ومن الشركاء الآخرين ولوج هذه الوساطة وعدم اقتصارها على جانب واحد.
وفي مقابل ذلك، فإن الروس لم ينحازوا لأي طرف بالشكل الذي يفعله الأمريكيون، مرجعيتهم في ذلك القرارات الأممية الداعية إلى المفاوضات.. ولا توجد أي مبادرة خارج هذا الإطار لا صفقة القرن ولا مؤامرة الحزن، بل هم ملتزمون بما جاءت به لوائح مجلس الأمن، هذا ماجعلهم يحظون بكل ثقة الآخر، ويطالبونه بأن يكون طرفا قائما بذاته في ملف الشرق الأوسط.
وقد فهم الروس جيدا لماذا لم تتحرك هذه العلاقات منذ مجيء ترامب وهذا عندما لخصها الرئيس بوتين بأنها “عرضة لنزاعات داخلية محضة” تقف حائلا دون المزيد من التطور الذي يرغبه قادة البلدين مباشرة.. ومنذ فوز ترامب بالرئاسيات سعت المؤسسات السياسية الأمريكية ذات التأثير القوي في صناعة القرار الى التشويش على المشهد الجديد، بدعوى أن “يد الروس” فعلت فعلتها ووجهت أو بالأحرى غيرت مجرى الأحداث وكل شيء اليوم في الولايات المتحدة مبني على هذا الأمر أي البحث على تفاصيل ما وقع الى درجة كل هذا الخلط في أذهان المتتبعين.. إلى يومنا هذا لم يستقر ترامب على فريق عمل واضح، في كل مرة ذهب فلان وجاء علان، مما أثر كثيرا في ايجاد رؤية واضحة للعلاقات الأمريكية الروسية، والأدهى والأمّر هنا هو انعدام أي استشراف لآفاقها مادام لم يحسم في خلفيات النشاط الروسي في الانتخابات الأمريكية وهذا لن يكون غدا لأن المسألة معقدة لا يمكن تصورها هكذا، وكل شيء مؤجل إلى غاية وضوح ما قام به الروس للتأثير وتحويل الرأي العام الأمريكي.