يعتبر الدكتور ياسين بن عبيد، أستاذ الأدب بجامعة سطيف 2 محمد الأمين دباغين، أن الأحداث التي تعيشها الأوطان تنتج ظهور أجيال من المبدعين ليكونوا شهودا على هذه الأحداث، ويرى في حوار لـ «الشعب» بمناسبة الاحتفالات بالذكرى 73 لمجازر 8 ماي 1945، أن إحياء الأحداث الوطنية اكتسى طابعا مهرجانيا في بلادنا، حيث كرّست طبقات من المثقفين السلبيّين عقلية الإشادة المفرغة من جدواها، وهناك من المثقفين من ينظر إلى الثورة بوصفها فعلا تاريخيا.
❊ الشعب: كيف ترون أهمية إحياء الأحداث الوطنية التاريخية ومنها ذكرى مجازر 8 ماي 1945؟
❊❊ الدكتور بن عبيد: ليس للمثقّفين - بمختلف أطيافهم - فضيلة في الاحتفاء بما هو للوطن مناسبة، ومنها أحداث 8 ماي 1945 التي عرفتها عدة مناطق بالبلد، وأدّت إلى استشهاد آلاف من أبناء الجزائر قربانا للحرية، فمهدت للثورة المباركة، وليس لهم فضيلة في ذلك لأن الاستجابة إلى الأحداث على تنوعها يدخل - أعني ينبغي أن يدخل - في نسيجهم الوجداني، ويؤكد ذهنية الانتماء في الذي يصدرون عنه، ويعرج بهم إلى الهدف الأسمى الذي يكون غاية لكلّ مشروع فكري أو جمالي.
لا شك أن الهزات التي أصابت الأوطانَ رافقتها مثيلاتُها في صدور الكُتّاب والمفكرين والمبدعين، وهو أمر طبيعي إذا قسنا أعمارَ القضايا الكبرى بأعمار العبارة عنها، وليس بدعا من الأمر أن نجد من نتائج الحركات الكبرى في العالم ظهورَ أجيال من الكتّاب أنجبتهم ليكونوا شهداء عليها.
❊ الشعب: هل أدّى الكتّاب دورهم في الحديث والكتابة عن أحداث الوطن وهذه المناسبة بالذّات؟
❊❊ الدكتور بن عبيد: لا يغطّي وجود الكتّاب والمبدعين - في هذا السياق - على وجود بقية المهندسين، من منظّرين ومنفّذين ومتعاطفين ومن إليهم. تذوب الفوارق في هذا الوجود بين جميع الشرائح والطبقات، بحيث تصبح اليد المنفذة واحدة، لأن القلب الثائر واحد والعقل المدبر واحد.
يتميز الفعل المرافق للهزات الثورية لدى الأمم كلها أو أكثرها، بهاجس التسجيل الذي يلحظ الأحداثَ ويدوّنها في نفس وقت إنجازها أو تدبيرها، ولذلك نجد في تراث الثورات وفي أدبياتها من الحياة في كلماتها ما لا نجده في كتاباتها الواصفة التي تعج بها مدونات المؤرخين ومن هم في حكمهم.
ليس بنا أن نفلسف الموقف، ولكن يظهر أن الحديث عنه في طبيعته الصميمة يقتضي استدعاءه إلى سياقه الصحيح. فنظن أن الكتابات السياقية، الآتية من الذاكرة الحية حال عدم إقصائها من الاستقصاء النزيه، هي الأصل في رصد الملامح الحقيقية للهبّات التي أحدثت تحوّل الشعوب، ووقفت وراء هبوبها نحو حرياتها.
شيء من هذا رافق تاريخَ الجزائر، في أول عهدها بالمقاومة ولم يستمرّ معه فعلُ الذاكرة، للأسف، بعد الإنجاز العظيم الذي هو الاستقلال، ولكن تلك مشكلة أخرى لا تعنينا كثيرا فيما نحن بصدده الآن.
❊ الشعب: ماذا عن نشاط المبدعين على اختلاف أطيافهم في تناول الذّاكرة الوطنية والاحتفاء بالمناسبات التاريخية؟
❊ الدكتور بن عبيد: نبقى مع فكرة الاحتفاء المناسباتي من الوجهة الجمالية، كأنَّ المطلوب من المثقفين بصورة عامة، أن يستنسخوا عواطف الإشادة وملفوظاتها ولا يزيدوا عليها، باعتبار المنجز بتاريخيته له رمزية ثابتة لا ينبغي القفز عليها. صحة هذا المطلب - إذا هو مطلب - نسبية لأن المثقف الذي يراوح مكانه مُشيدًا بمنجز، مجترًّا خطابا، مستهلكا صياغةً لا ينهض بمهمته الحقيقية، ولا يؤدي الدور المنتظر منه.
التصق بالجزائر الفكرُ المهرجاني منذ عقود، وكرّست طبقات من المثقفين السلبيّين عقلية الإشادة المفرغة من جدواها، ولم يعد كثيرٌ من المثقفين ينظرون إلى الثورة إلا بوصفها فعلا تاريخيا.
عرفت انتفاضات الجزائر - مشمولة في تاريخيتها وكلية دلالاتها - من الكتابات (الشعرية، المسرحية، التاريخية والفنية) ركاما عظيما أُنْفِق على طبعه، وإخراجه وتوزيعه أموالٌ لا يحصيها عَدٌّ ولا يَعُدُّها إِحصاءٌ، غير أن الركام على خرافية حجمه ومقداره لم يمنع ظهورَ نشازٍ ينادي بعكس مآل تضحيات الشعب الجزائري، ولم يدفع شذوذًا يساوم على الوطن بسيميائيات مربكة لا هي في لغة الصديق ولا هي في لغة العدوّ، ولم يقطع أيادي خفية وأخرى بادية عبثت بحقيقة ما كانت ولا تزال به الجزائر وطنا يتسع للجميع.
يجب أن يخرج الهمُّ الوطني من عقلية المناسباتية ليدخل الوعيَ الفرديَّ والجماعيّ بوصفه سلوكا يدفع إليه إيمان، وقضية يهون في سبيلها كل عزيز، وإلا كان الاحتفاءُ احتفالاً عابرا ينقضي بسرعةٍ كسرعة الإعداد له.