الدكتور اليامين بن تومي في حوار لـ«الشعب»:

علاقة المثقف بالسلطة.. الهزائم المتبادلة

أجرى الحوار: نورالدين بوطغان

يعتبر الدكتور اليامين بن تومي، من جامعة سطيف 2 محمد الأمين دباغين، اشكالية المثقف والسلطة معقدة، وأن المثقف الحر لا يكتب تحت اي ظرف من ظروف الاكراه قد يجعله تافها وسخيفا، حتى لا يتحوّل الى مثقف حلولي، كما اسماه، مهمته بيع الكلام لمن يدفع أكثر،واليكم الحوار الكامل الذي اجرته معه جريدة «الشعب» بخصوص هذه الاشكالية:

«الشعب»: تبقى اشكالية المثقف والسلطة من الاشكاليات المعقدة والأزلية لماذا في نظركم وكيف ترون المثقف الحرّ وهل يوجد هذا النوع؟
الدكتور بن تومي: إن المثقف الحرّ لا يكتب تحت إكراهات الظروف، وإنما عليه أن يأخذ كامل الوقت من أجل أن يتخلص من كافة أشكال الاغتيال الكرنفالي والملحمي لأفكاره، التي قد يُخرجها للناس تحت رحمة الظروف، ويتحول بهذا إلى مجرد سخيف مُفرغ من القوة النقدية ويتحوّل إلى مجرد مناضل من الدرجة البشعة على نحو ما عايناه من المرحلة الانتخابية الأخيرة من أشباه المثقفين الذين انفعلوا بالراهني والمرحلي ليحققوا مكاسب ضيقة تخصهم، وأصبحوا بهذا الانفعال أقلاما مأجورة للأزمة، وهذا ينمّ عن تهافت حقيقي في المقدرة النقدية عند هؤلاء فبعضهم سارع إلى دسِّ رأسه في رمال الشرعية الثورية باعتبارها أصبحت تُقاوم شكلها المادي الأخير، تلك القيم التبشيرية الرديئة التي أفرغت البلد من الدَّاخل وجعلته مجرد مشهد كرنفالي عن قيم الانتصار الهشِّ التي تحاول إعادة أنموذجية لمخيال الانتصار والخلاص، تراكبت في عقل مثقف مهزوز ومغشوش، ومفرغ من الداخل،منهار تحوّل إلى رجع لأصوات القدامة، لطبقات الخوف الرهيب الكامنة في العقل التاريخي الرَّسمي من أشكال التجديد التي يحتمل أن تعصف بقيم العالم القديم من خلال شرعنة قيم جديدة، منبتها العالم الافتراضي هذا الخروج عن طوق العالم القديم، عن لا معقولاته وفوضاه و إيهاماته وجنونه، نحو إعادة إنتاج قيم الملحمة التي تستظهر في عقل العامة مبادئ التضحية والنوستالجيا لقيم الأبوية «البطريركية التي ما تزال تشتغل بقوة في العقل الجزائري جعلت الفارس الأخير يكسب تعاطف الجماعة الشعب لهذا الاستظهار الرمزي لسلطة التاريخي للأب المُخلِّص والمُنقذ هذه الدونكيشوتية المزيفة، هي قيم تبشيرية مصابة بعطالة الاندفاع نحو وضع تصوّر حقيقي للإقلاع الحضاري، لأن الأب لا يمكنه إلا أن يشتغل وفق نسق رعوي ريعي، يملك نية الإصلاح، لكنه لا يملك الإرادة لأن رؤية العالم التي يحملها لم تعد تملك أسباب القوة الحقيقية التي في ممكنها الإقلاع.
 ما المطلوب من المثقف، وكيف ترسم علاقته بالسلطان والسياسة؟
 على المثقف النقدي أن يشتغل بعيدا عن أيّ إكراه يجعله تابعا سخيفا في الرأي عليه أن يحافظ على مسافة الأمان بينه وبين الحادث حتى لا يتحول إلى مجرد ناطق سياسي باهت يعاني إشكالا لغويا ولاهوتيا في الإفصاح الذي يتعطّل فجأة نتيجة مبدأ الاستحواذ على ضميره الأخلاقي باعتباره ممثلا لروح الأمة، وليس مجرد لسان يعجّ بالمتناقضات المفهومية يبين قناعاته كمثقّف، وحاجة السلطة للسانه ليقف مساندا لها، إن مثقّفا بهذا الشكل سيكرس الرجعية والنفاق، ويصبح منتجا للامعقوليات ينتج مخيالا للانتصار في واقع متعدّد الهزائم، ونكون هنا إزاء نوعين من المثقفين؛ مثقف باهت الألوان مصاب بأشكال الاحتباس التاريخي، مثقف خارج المرحلي، وهو في الغالب مثقف الوظيف والرغيف يتكلم عن مشاكل المائدة وليست مشاكل الوعي. أما المثقف الثاني فهو مثقف حلولي يبيع مواقفه في مزاد العالم القديم، وهو عالم السلطة التاريخية والسياسية ويعطي قيمة رهيبة لأشكال الاستمرار الملحمي لتلك الأحادية المفلسة، وهناك مثقف مسؤول ومبهر، لكن لا يجب أن نفهمه فقط من جهة صراعه المرير مع السلطة بل في مقدار القيم الدنيوية التي يحملها، وهي قيم تعكس نزعة الحياة، وقيم العالم الجديد.
ماذا عن المثقف الآخر، أي الذي يجعل فكره وثقافته في خدمة الحاكم؟
إن أهم ما يشتغل عليه قاموس ومعجم المثقّف الحلولي الذي يبيع الكلام لمن يدفع أكثر، ويستطيع بشكل مهرجاني أن يتحوّل من اليسار إلى اليمين بقدرة عجيبة لأن البنية النقدية عنده مشخصنة في مدة قدرته على تحقيق المنفعة الشخصية، وهو يملك ما نسميه بـ»وسائل الحشد» مثل الصراخ والجمل الجاهزة، والعبارات الجاهزة، والمعلبة من مثل؛ قيم الثورة والشعب العظيم ومبادئ نوفمبر، ويجب أن نقف ضد الامبريالية.. وغالبا ما وقع التياران الإخواني واليساري التروتسكي في هذه الحلولية الفجّة، هذا النوع من المثقفين يتلافظ فقط أو يملك قدرة صوتية ولا يحمل مشروعا عقلانيا ولا فكريا، وإنما يبيع الكلام بمنطق المزاد العلني. وهو في الغالب مثقّف تبريري يحافظ على أشكال الانتفاع من الريع. ومثقف يقف على النقيض لا يرى في السلطة سوى أنها شرٌّ كله، يقف على النقيض من الريع يهاجم بمنطق عدائي، وهو كذلك لا يختلف عن الأول سوى أنه لم يستفد من الريع لأنه مغضوب عليه،فهو يستخدم الثقافة لاسترداد حقوقه الضائعة، أو للعودة على بردعة حمار إلى قصر السلطان.
أما المثقف الحرّ فيبقى محافظا على نزعة النضال أو النقد يتضامن مع روح الأمة دائما وهو في خصام دائما مع السلطة ليس لأجل تعزيز قيم الانتفاع، وإنما لتحصين الأمة من الوقوع في خطاب نهاية التاريخ. من أجل تحريرها من السلوكات الامبريالية والأليغورشية والعوائلية التي تسكن الممارسة السلطوية عندنا.
كيف يمكن إسقاط الإشكالية وعناصرها على ما يجري في بلادنا؟
إننا في الجزائر نعاني أزمة بنيوية في تقدير المثقف العضوي حيث يتمّ تقديم أناس أشبه «بالكومبارص» لا يملكون قدرة فعلية لتمثيل روح الأمة، لكنهم يُصنعون لهذا القدر ليكونوا جاهزين في يد السلطة لاغتيال إرادة التغيير الحقيقي.
إن المثقف النقدي لا يحتاج إلى وسائل السلطة للترويج لأفكاره فهو يملك قوة نقدية تُمكنه من تجاوز غطرسة الاستحواذ، يتسلّل إلى مناطق اللامعقول في السلطة ليدمرها ويزعزعها أو على الأقل يرجّها ليحدث فيها نوعا من العتاب الداخلي الذي يدفعها لتجديد موقفها من العالم ومن مفهوم التعيير الذي ترى فيه السلطة عدوا لدودا لها. بل هو يعمل على نسف الأوهام التي تدجّن الأمة وتجعلها كائنات ممسوخة الإرادة. فالوهم مرض الإعلام المحتوم والمثقفون في أستديوهاتها يتحولون إلى مجرد أصوات تابعة لهذا الوهم.
إن أعطاب المثقف في الجزائر تُنبئ عن أشكال الاستقالة الجماعية لاستيراد الدور النقدي إنني أتحدث عن أناس نسمع لهم ضجيجا في مراكز صنع القرار أو المراكز الإعلامية لكنهم في الحقيقة مجرّد أصوات أو ما نسميه «ديكور المكاتب» لا يشكّلون أكثر من صورة كرنفالية عن ذلك الوهم الثقافي الذي يحيل على قصة المثقف الذي يجلس قبالة مكتب عريض ويضع نظارة على أرنبة أنفه تشبه تلك التي كان يضعها «فرحات عباس» لكن هناك فرق شاسع بين المشبه والمشبه به.
إن أغلب السياسيين عندنا شوفينيونوأمبرياليون لأنهم ضد العقلانية، يكرسون إقصاء واغتصاب الإرادة الجماعية، فالمثقف النقدي لا يمثل نفسه بقدر ما يُمثل فارس التنوير المحافظ على سقوط الأمة في الدوغمائية والقطائعانية المفسدة لروح الإبداع.
إن الجزائر مادة رطبة لدراسة أشكال من المثقفين الذين استحوذت عليهم السلطة وجعلتهم مجرد كائنات ممسوخة ومغشوشة، و آخرين ما يزالون يناضلون بصمت من أجل لحظة النهضة المشهودة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024