في جلسة للاستحضار والاستذكار، فتح كل من محمد شريف غبالو وعبد الكريم أوزغلة نافذة في جدار الزمن، ليعيدا حضور صالون الكتاب إلى أشعار مصور بولنوار وطاهر جاووت، بما تحمله من معاني النضال وهواجس المثقف الجزائري المبدع. وقد حاول غبالو الاقتراب من أعمال الشاعر مصور بولنوار، المشهور المغمور، فيما ركز أوزغلة على زاوية الشعر لدى جاووت.
ولد ابن مدينة سور الغزلان ذات 11 فيفري 1933، توقف عن الدراسة في سنّ السابعة عشرة لأسباب صحية، ولكنه لم يقطع علاقته بالكلمة. إبان ثورة التحرير، ناضل من أجل الحرية وأوقف وتمّ حبسه في 1956 وقبع في السجن إلى غاية 1957.
مصور بولنوار.. العلَم المجهول
وهكذا، فقد تركت الثورة التحريرية الأثر العميق في نفسية مصور بولنوار، وروحه النضالية نحتت شخصيته الأدبية، ويضاف إلى ذلك تأثير وضعه الصحي، وكل هذه العوامل ظهرت في أعماله الشعرية.
نشر أشعاره في ديوان أول حمل عنوان «القوة المثلى»، .
رغم بقائه طيلة حياته في مدينته سور الغزلان، كان مصور بولنوار في تواصل دائم مع الناس، فقد عمل في مقهى، وشابه في ذلك تجربة مالك حداد، أو كاتب ياسين الذي غسل الأطباق قبل أن يصير أديبا يترجم في عديد اللغات. بعد ذاك، التحق بولنوار بالوظيف العمومي، وعمل في مجال المالية.
من خلال قراءته للدواوين الثلاثة التي نشرتها «داليمان» وهي «أبجدية الفضاء»، «تحت طائلة الإعدام» و»الحياة على سبيل العقوبة»، لاحظ المحاضر كيف أن الحرية صبغت كلمات الشاعر، فحينما يقول: «أمشي نحوالدرة.. أين العصفور يتحدث بلغة الإنسان»، يبدو من ذلك أن الدرة هي الجزائر، والعصفور رمز الحرية والانعتاق.
كما لاحظ بأن البناء الشعري في أعمال مصور بولنوار يتحرّر من كل قوانين القافية، إذ اعتمد الشاعر الحرية الكاملة في الكتابة، وإن وجدنا تأثرا بالرباعيات في بعض أعماله. كما اعتمد الكتابة في شكل سلّم، مع عدم التقيد بشكل محدّد، وأحيانا نجد كلمة واحدة في السطر، مع غياب للفواصل وعلامات الوقف.
وعلى الرغم من أن مدينة سور الغزلان أنجبت أعلاما على غرار قدور محمصاجي، وسيد أحمد سري، وجمال عمراني، وسيساني، والهاشمي قروابي، وموني براح، إلا أن بقاء مصور بولنوار في هذه المدينة لا يغادرها، وعدم لجوئه إلى المدن الكبرى بما توفره من إشهار وفرص للنشر والرواج، ربما يكون من بين العوامل التي حالت دون أن يشتهر اسم مصور بولنوار كشاعر عصامي عرفه خيرة مثقفي عصره.
جاووت.. مناضل الكلمة
من جهته، اختار عبد الكريم أوزغلة مدخلا مختلفا يقدّم من خلاله الطاهر جاووت، الأشهر من نار على علم في مجال الإعلام والصحافة والكتابة، ما دفع أوزغلة إلى اختيار زاوية الشعر، والحديث عن جاووت شاعرا، وكاتبا عن الشعر. وقال أوزغلة إن الشعر بالنسبة للطاهر جاووت يمثل الحرية، فهو وجه من وجوه الوجود الحر بالنسبة له، وفي تجربته الكتابية أوالثقافية العامة، كتب الشعر وعن الشعر.
وتحدّث أوزغلة عن الديوان الأول لجاووت، «المدار المسيج بالأسلاك الشائكة»، الذي نشره في 1975 وعمره 21 سنة، ثم «الكلمات المهاجرة» أنطولوجيا شعرية 1984، ثم «السفينة القدرية» وأخيرا «ضغط الساعة الرملية».ومن هذه القصائد التي اختارها جاووت لنفسه وقدّر أنها تمثل تمثيلا صادقا إلى حدّ بعيد تجربته الشعرية، قصيدة «القصيدة السبخية» (أوالمنتمية إلى فضاء المستنقعات)، والتي يقول فيها (بترجمة عبد الكريم أوزغلة):
«الشاعر المسافر.. فكّاك ألغاز المدارات.. حمى المستنقعات تقضم جمجمته.. جسده حقل مغلق حيث تطلق نعيقها المبردات.. أوهٍ.. والشمس التي تأكل نسغ الخيل.. والرمل الذي يرسل تحت الريح.. مأساته المدمّرة.. إن المسافر.. القادم من الأقاصي البعيدة.. كان يحدث الرحّل.. عن شبابه.. عن ريمبو.. وعن العصافير.. كانت المنبسطات.. تتداعى في رأسه.. والذباب كان يخز وجهه.. كان يفكر بشاب كتوم يحفظ السرّ.. لا يفضي للعالم.. لا بدموعه ولا بكنوزه.. ولا بحركاته ولا بجراحاته.. ولكنه يدع كل شيء يهلك في جسده.. هذا الكائن.. لا أحد يدري.. بأنه كان يريد إخصاب الصحراء».
كما استشهد أوزغلة بقصيدة أخرى ترجمها إلى العربية، هي قصيدة «أمل»:
«أيها الواصلون بين طبقات السحاب
أيها الشعراء...
وهيكل الصفاءات المشيّدة بفقراتكم
هل سيثمر في النهاية الخبزَ الذي نجدّ في سبيله؟
إنني لأسمع هدير الأنهار يصّاعد منكم
ويفجّر في نهد هيكلم المعاند
نبع رفض تشييد سُرادق الصمت»
سألنا المحاضرين عن السبب وراء غياب «طريق سيار» يربط بين الأعمال الإبداعية الجزائرية بمختلف اللغات، ما يمنع عن القارئ الانتفاع بها، وأجاب غبالو بأن هذا الجسر بين اللغات مهم جدا في الجزائر، العربية والأمازيغية والفرنسية، وحتى الإنجليزية. كما تساءل عن الغاية من وجود معاهد للترجمة واللغات الأجنبية ما لم تنشط في مجال الترجمة. أما الترجمة المشرقية فإنها لا تحترم بالضرورة السياق السيوسيوثقافي الجزائري والخصوصية الجزائرية، يقول غبالو.