المدينة أو ذاكرة المدينة في ذهن الأديب وعلى ما يكتب من ألوان أدبية، هي جزء لا يكاد ينفصل من هوية ينقلها كل من يكتب بلغة ووجدان وتوصيف دقيق لا يهمل بعدي الزمان والمكان، لكن الفرق الواضح بين أن تكون المدينة ظاهرة في ما كل ما يكتب، جلية واضحة تصور معالم جغرافية تأخذ حيزا سواء كان واقعيا أو مجازيا، وبين أن تكون المدينة وجودها معنوي يختصر في كل ما يوحي إلى المكان برمزيته المكتملة، والتي يلمسها النقاد في هاته الألوان الأدبية كلما تناولوا هاته الأعمال بالقراءة والنقد والتمحيص.
حضور المدينة في الكتابات الأدبية الجزائرية، نريد أن نعرف حدود هذا الحضور إن كان واقعيا أو رمزيا إيحائيا، أردنا سبر أغوار هاته العلاقة في هذا الحوار مع أستاذ الادب العربي بجامعة محمد الشريف مساعدية الدكتور قندوز كبلوتي، فكان لنا معه هذا الحوار الشيق.
❊ الشعب: هل ترى فعلا أن للمدينة في كتابات أدبائنا حضورا حقيقيا، يخص معالم المكان الجغرافي الذي نعيش فيه؟
❊❊ د - قندوز كبلوتي: «المدينة عند الأديب لايسكنها بل تسكنه»، وتتظافر معه في حياته وتظهر في تفاصيل حياته وجزئياتها، هذا الحضور يكون ماديا ومعنويا، انطلاقا من فضاء حياة الاديب والشارع الذي ترعرع فيه ، والمقهى الذي كان يرتاده والمدرسة التي تتلمذ فيها، وكذا الشخصيات التي كانت جزءا من بناء شخصيته، والبوادي التي تسكع فيها.
فذاكرة الأديب غالبا ما ترتد الى الماضي لتصنع المتخيل الشعري والأدبي وتعطي صورة مكتملة عن واقع تم عيشه في فترات متقاربة وفي فترات تاريخية، نكون في غالب الأحيان في حاجة ماسة الى معرفتها، كما تنقل تنوعا اثنوغرافي انتربولوجي عن مناطق دقيقة من العالم، تنقل لنا ثقافات وعادات مختلفة.
❊ ما هي حدود حضور المدينة في الأدب الجزائري؟
❊❊ إذا أردنا أن نعرف حدود حضور المدينة في الادب الجزائري، يكفينا أن نرجع للوراء إلى ماكتب الادباء الجزائريون، فكم هامت زهور ونيسي بقصبة قسنطينة ، وتلك النوافذ الصغيرة التي كانت توضع بها مزهريات للنعناع، كما يظهر أيضا حضور المدينة في كتابات أحلام مستغانمي عن عشق جسور قسنطينة وشوارعها الضيقة، وكل ما يعني الضيق المكاني من اتساع ورحابة في صدور سكانها، أيضا كتابات رشيد بوجدرة في روايته زلزال، حيث تحدث عن مقاهيها و ماكان يدور فيها من أحاديث عن السياسة والرغبة في التغيير.
كما لا ننسى كتابات رشيد بوجدرة فقد علقت في ذهنه صورة جاره بمدينة عين البيضاء والذي كان مربيا للخيول، ولم يستطع تجاوز هاته الصورة في أغلب أعماله الأدبية والإبداعية.
❊ ما هي القيمة الادبية التي يضفيها حضور المكان في العمل الأدبي الإبداعي؟
❊❊ المكان هو المادة الاولية التي يصنع منها الابداع من خلال التركيز على جزئيات قد لا تكون في ذاتها ولكن في رمزيتها، كما أن الابداع ينسب الى المدينة في غالب الاحيان في حركيتها وتفاعلاتها وفي عراقتها وفي الوعاء الثقافي الذي تحتوي عليه، وهو نوع من الارتباط بالبيئة الاجتماعية ، فلو نظرنا الى الادب الجزائري المكتوب بالفرنسية، فلا يعد الادب الجزائري المكتوب بالفرنسية أدبا فرنسيا، لانه يحتوي على رمزية المدينة والمكان الذي يوحي الى البيئة الجزائرية وعراقتها وعاداتها وتقاليدها، كما يتناول الانسان الجزائري غير الانسان الفرنسي.
كذلك أدباء المهجر وعلى رأسهم إيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران، في نيويورك بأمريكا ويكتبون عن الفضاء والمدن التي عاشوا وتربوا بها، بل يذهبون الى وصف المدينة التي يعيشون بها بالمهجر بالقفص الضيق بنوع من اللاارتباط بها بصورة عابرة، ومن أجمل ما وصف ايليا أبو ماضي حياته في نيويورك بالولايات المتحدة الامريكية والمجتمع هناك، وعدم ارتباطه بهذا المجتمع.
أناس ولا أنيس لهم.....ومدينة ولكنّها قفر وهذا يعكس حالة اللاّقبول والرّفض لهاته المدينة التي يعيش بها، وترى جل كتاباته تحكي عن مدن وبوادي لبنان
❊ هل يستطيع الأديب أن يهمل المدينة من ذاكرته الأدبية في ظروف معيّنة؟
❊❊ باختصار لا يستطيع، لأن هذا الوجود والحضور هو وجداني عاطفي، يخص ذاته وشخصيته، تراه يرجع الى ماضيه دون وعي منه، حتى ولو أراد أن يغيب من مخيلته هذا الفضاء الذي تربى وعاش فيه وترعرع فيه، وبالتالي فالادباء الجزائريين في الغربة أغلب نصوصهم الادبية تفوح منها رائحة الوطن الأم وأمثال ذلك كثيرون منهم أحلام مستغانمي ومحمد ديب، وأحيانا ترى بعض المدن التي لا ترتبط بحياة الاديب وذاكرته في كتاباته، لكنها تتخذ كرمزية عابرة فقط، كنوع من التحايل خاصة تلك الاسماء التي تعبر عن مدن عالمية، وهي عناوين تتخذ فقط لكي تروج بها الكتابات، أما المتن أو ما يكتب تراه يعكس الحضور الواقعي للمدن التي تربى وترعرع فيها الأدباء، ومثال ذلك ما كتبه أمين الزاوي عن آخر يهودي في صحراء تمنطيط الجزائرية، وكذلك الوفاء الذي يجسد كتابات واسيني الأعرج لمدينة تلمسان.